إذا كان صاحب البشرة السوداء قد لقي بعض الاهتمام في ظل الدراسات الثقافية باعتبار اهتمامها بالآخر ضمن مكونات الهوية الواحدة، وإذا كانت هذه الدراسات قد وضعت الأصبع حول القبحيات الثقافية التي تتمظهر في سلوكات العربي في نظرته للآخر الأسود، هذه السلوكات التي تبقى سلبية عموما وعنصرية في أغلب الأوقات رغم رفض الذات الاعتراف بذلك، فإن اللون الأسود كلون قبل أن يتمظهر على الذوات والأشياء ظل بعيدا عن الدراسة والتناول خصوصا في ظل ثقافتنا العربية، وهو الأمر الذي لا يخص الأسود وحده بل يعم جميع الألوان، لكن خصوصية الأسود باعتباره لونا ذا مرجعية هوياتية وتاريخية يجعل دراسته ذات أولوية على باقي الألوان باعتبار أنه لون القبح، والدراسات الثقافية هي دراسة في القبحيات أساسا.
إن مفتاح دراسة اللون في ثقافتنا لا يجب أن يبدأ خارج المعجم، إذ أن اللغة العربية ليست وسيلة تواصل فقط بل هي أداة إيصال الفكر والهوية كما يقول الجابري، وبالعودة إلى اللون الأسود فإن الجذر "س و د" يحمل معان متعددة كلها سلبية باستثناء واحدة، فالظلام والقبح والنقص والتشاؤم والجرأة والتلطيخ والهلاك والخشونة والتلوث والعداوة والموت وغيرها كلها تستخرج من هذا الجذر، والمعنى الوحيد الذي يحمل بعض الإيجابية هي معنى سوّد أي جعله سيدا، ومن هنا نرى أن اللغة العربية جعلت الأسود لون قبح بامتياز، واللغة باعتبارها تعبيرا عن الثقافة فيمكن دون مجازفة إسقاط كل هذه المعاني السلبية على الهوية الناطقة بالعربية والتي تعيش في منطقة نفوذها، وهذا يتجلى بوضوح في اللهجات المحلية في المنطقة المسماة على وجه التعميم عربية، فهذه اللهجات بدورها تُحمّل معاني القبح للون الأسود عموما.
وإذا كان الإبداع وخاصة الرواية صورة للثقافة بكل تمظهراها الإيجابية والسلبية فإن حضور الأسود لم يبتعد داخل الواقع الروائي عن ما هو متعارف عليه داخل الواقع الاجتماعي، غير أن المفروض في الكاتب أنه نخبة المجتمع واع بالقبح السائد فيه، وبالتالي كان لزاما عليه أن يتسامى عن الأنساق الثقافية المضمرة خلف خطاباته الجمالية، إلا أن الواقع يقول أن الكاتب المثقف لم يسلم عموما من تمكن النسق الثقافي القبيح منه رغم محاولات التسامي، وبهذا نجد الكاتب/العمل الروائي يتأرجح بين السقوط في النسق والتعالي عنه، وفي هذا التعالي بين النجاح وبين الفشل والاستسلام.
من خلال رواية قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط، للكبير الداديسي، سنحاول اقتناص بعض تأثير النسق والسقوط فيه وأيضا بعض محاولات التسامي، ومن أجل ذلك سيكون الغلاف أول عتبة نقارب فيها الموضوع، فالغلاف شعار مهم لنقل الحالة العامة للرواية، وهكذا نجد أن اللون الأسود مهيمن على الغلاف هيمنةَ قوةٍ وسيطرة حيث أن الأبيض مقموع أسفله يشوبه كثير من السواد، فحتى الأبيض المتواجد ليس أبيضا خالصا، وهي حالة سيكولوجية يريد من خلالها صانع الغلاف أن يعبر عن محتوى الرواية للتأثير على القارئ، وبالنظر إلى الحالة السلبية العامة التي تسود وقائع الرواية فإننا هنا أمام تكريس لمعنى الأسود السائد في الثقافة، إن الغلاف يريد أن يقول لنا أن الأحداث هي بالمجمل أحداث فيها من الحزن ومن الظلم ومن القسوة بمثل ما في مساحة الغلاف من الأسود، ذلك الأسود الذي يعي مصمم الغلاف أنه سنن تواصلي بين المرسل والمرسل إليه المنتميان للثقافة نفسها والتي تنظر إلى الأسود نظرة سلبية عموما.
الانتقال إلى العتبة الثانية أي العنوان نجد المسند، الجملة الأولى قهوة بالحليب، أي أسود بأبيض، فلم يقل الكاتب حليب بالقهوة بل العكس، أي أنه يصر على لفت النظر للأسود وهيمنته، وهو ما سيتأكد من خلال المسند إليه الجملة الثانية شاطئ أسود متوسط في قلب لكلمة أبيض المعروفة في الاسم العلم البحر الأبيض المتوسط، فقد غير الكاتب الأبيض العَلَمي الذي لا يتغير لكي يضفي على هذا البحر صفات سلبية تتمثل أساسا في القتل والغدر والظلم.
خلال التجول بين فصول وأطوار الرواية سنجد شخصية البطل مامادو الأسود الافريقي بمختلف الحمولات التي نعرفها حول العبد الأسود الحبشي في الثقافة العربية، هذه الصورة التي مرت بمراحل مختلفة كما يقول نادر كاظم، فصورة هذا العدو الحبشي الأسود، اختلفت بين مرحلة ما قبل الإسلام وخلال بداية الدعوة والتمكن ثم بعد مرحلة الهيمنة الإسلامية وأخيرا بعد خفوت نجم هذه الحضارة، فالأسود الحبشي هو رمز طبقي لذات دون إنسانية في المرحلة الجاهلية مع استثناءات قليلة، وفي مرحلة الدعوة وتأسيس الدولة الإسلامية توارى هذا التمثيل السلبي نسبيا، على اعتبار أن الدين كان هو أساس تشكل الهوية والمعيار الوحيد للتفاضل وذلك رغبة في جذب واحتضان مختلف الأعراق لخدمة الدعوة الوليدة، ثم تصاعدت الوتيرة التمثيلية نحو السلبية في القرنين الهجريين الأول والثاني بعد بزوغ قوة الدولة وانفتاحها على الموارد ورغبتها في مزيد من العبيد بعد توفرهم أثناء الفتوحات، ويرى كاظم أن تمثيل هذا الآخر لم يكن حكرا على الأسود الزنجي، فقد نالت الهند والصين، والصقالبة، والبلغار، وغيرهم ممن وقعوا تحت سيطرة الدولة الفتية المتوهجة حيزا من هذا التمثيل، لكنه يعود ويؤكد أن الأسود «يكاد يكون الآخر الوحيد الذي لم تجد هذه الثقافة معه من واسطة أو وشائج قربى أو قواسم مشتركة حقيقية ومتخيلة، تخفف من حدة المغايرة وعنف الاختلاف» (نادر كاظم، تمثلات الآخر ص 164 – 165)، فالبيض والصفر أغرت نساؤهم غرائز الرجال مما خلق نوع من الهدنة والصلة، أما السود فعادوا إلى أول أمرهم وأسوأ، وظلت هذه النظرة قائمة حتى بعد أفول نجم الحضارة العربية والانفتاح على القيم الكونية، وما تزال النظرة العنصرية تجاه الأسود قائمة رغم ادعاء العكس، كل هذا التاريخ من النظر تجاه الأسود ذاتا وشيئا كان له تمظهر في فصول وأحداث الرواية مع مامادو كذات ومع الأشياء التي كلما أراد الكاتب إضفاء صفة السلبية إلا وألصق إليه يافطة اللون الأسود.
"بشرة سوداء لن يكون تحتها إلا قلب أسود يعشق الانتقام، يجيد الاحتيال والخديعة، لو أتيحت له فرصة لافترسني شر قتل" مثل هذا التعبير يلخص لنا الرؤية المقدمة تجاه الذات الحاملة للون الأسود، وهي رؤية تلتمس واقعيتها مما يدور في المجتمع والثقافة المغربية من خلال السلوك اليومي ومن خلال النكتة ومن خلال الأغنية وكل مكرس في مجتمعنا، فمامادو في الرواية يعيد التاريخ العربي للأسود، فالبداية كانت قطيعة وخوف وتوجس تجاهه، ثم مهادنة وحياد، ثم قبول واعتراف، وكأن الكاتب هنا يريد قلب النهاية التاريخية بنهاية رواية أكثر إنسانية، أما في ما يخص الأشياء فعبارات مثل البحر الأسود والشرق الأسود والراية السوداء والشام الأسود وغيرها كثير، تلخص ما تريد الثقافة التعبير عنه متوارية خلف الإبداع الجمالي من نقل سورة سلبية للأسود وللسواد مرتبطا بالذوات والأشياء والأماكن، وهي رؤية موروثة تتخذ في بعض تفاصيلها شقا محليا وفي البعض الآخر شقا كونيا مشتركا مع حضارات أخرى كلها حضارات مهيمنة لا ترى في الأسود شيئا كان أو ذات سوى آخر يمثل القبح والشر والمجهول المخيف.
من جهة أخرى، ولأن الكاتب المبدع وإن كان ابن الثقافة المهيمنة فإنه واع بأنساقها وبالقبح المنتشر فيها، فالرواية حاولت أن تتعالى على النسق الثقافي وتتجاوز سقطاتها النسقية من خلال تقديم الصورة الأخرى، وإن كانت هذه الصورة بدورها موجودة في الثقافة لكن يتم تجاوزها في كل مرة، فليس الأسود في ثقافتنا سلبيا دائما، فقد تغنى العرب بالشعر الأسود والعيون السود حتى اخترعوا أدوات تجميل لتسويد الشعر ورموش العيون، إلا أن هذا الاحتفاء بالأسود لم يتجاوز البعض الشكلي المظهري، ولهذا جاءت الرواية لتحتفي بالإنسان الأسود من خلال مامادو كذات تجتمع فيها معاني الشهامة والطيبة والالتصاق بالأرض وتقدير الآخر وأصله الطيب من خلال الاحتفاء بأمه المرأة البسيطة الحكيمة، ويبلغ الاحتفاء بالأسود ذروته من خلال رمزية إنقاذ مامادو لميادة، انقاذ الأسود للأبيض، في رسالة تجاوزية للنسق الثقافي المهيمن وفي صرخة تحتفي بالإنسان كإنسان.
إن اللون الأسود في الحقيقة العلمية ليس لونا بل غياب اللون/الضوء، إنه مجهول لا يجب الحكم عليه إلا من واقع تجربته، وهذا هو صلب ما حاولت الرواية أن تعبر عنه، من خلال تقديمها لمعاني السواد المتداولة ثم الخروج بحكم مخالف بعد التجربة، وهذا كفيل بتسليط الضوء عن الرمزية الدلالية للأسود كمجهول يحتمل السلبية والإيجابية بدل أن يكون حمالا لأوجه السلب بتعددها.