مرحلة شيقة ، جهدت لأثاره سؤال ثقافي جاد ،يولد في الذهن متعة الاستقصاء والبحث، حمل الكاتب خلالها أدواته ، وطاف على محطات كثيرة تحمل هم الإبداع الروائي المعاصر وتتكلم فيه ، قرأها وحاورها وقدم خلاصة رأيه الذي يؤسس لمنهج نقدي جديد يتجاوز المسلمات ويضفي على أدوات النقد عناصر كانت غائبة . في فصل ((الرواية ونظرية الأدب)) يتفق المؤلف مع ((جوته)) الذي يصف الرواية بالملحمة الذاتية لكنه يضيف ،أنها تبقى فعلا إبداعيا معاصرا يخلق قوانينه من خلال تطوره، وهي عمل إبداعي فني شامل ، اكثر تعقيدا من القصيدة واللوحة التشكيلية والقصة القصيرة ، ولهذا ندرك كيف تكون الرواية جنسا أدبيا مفتوحا على الفضائيين ، الإبداعي والاجتماعي – أي على الأجناس الأخرى وعلى الشخصية محور الحياة الاجتماعية وبذلك نجد أنفسنا عند قراءة الرواية أمام انكسار الحاجز بين الأدبي وغير الأدبي . إن عجز نظرية الا دب عن وضع نظرية للرواية لا يعني الحط من قيمة هذه النظرية ، بل إن إقرار هذه النظرية بحرية النصوص الروائية في خلق قوانينها الذاتية إقرار بفاعلية النظرية وقدرتها على الاستجابة لفاعلية النصوص التي ليس من السهل إخضاعها لمعايير فنية شعرية .
يتوقف المؤلف في باب((نحو تعريف الرواية)) مع اكثر من مبدع وناقد ويرصد تعريفاتهم ، فهي مغامرة في عالم يتسم بالتدهور والزيف وحكاية بحث عن قيم حقيقية بطريقة متدهورة في مجتمع متدهور ،وجنس أدبي متعددة الأشكال ،دائم التحول ولا تضبطه قواعد ثابتة، وفن يخلق قواعده الذاتية لكل نص واكثر من الأجناس الأدبية تفاعلا مع الواقع والمتخيل باق من الانفتاح الشامل، لكن المؤلف يستأنس بتعريف "محمود أمين العالم" الذي يعتبره من أوجهها ،لأنه استجاب لإيقاع حرية الرواية ودينا ميتها بقوله((الخطاب الروائي بشكل عام هو بنية لغوية دالة أو تشكيل لغوي سردي دال يصوغ عالما موحدا خاصا تتنوع وتتعدد وتختلف في داخله اللغات والأساليب والأحداث والأشخاص والعلامات والأمكنة والأزمنة، دون أن يقضي هذا التنوع والتعدد والاختلاف على خصوصية العالم ووحدته الدالة))ص24.
بعد أن يقف على توضيح ((تودوروف)) لمقولة ((سارتر)) بأن الأدب كشف للإنسان والعالم ، ويورد تعليق ((تود وروف)) : كان ((سارتر))على حق ولن يكون للأدب شيء إذ لم يتح لنا أن نفهم الحياة بشكل أفضل ، يرى المناصرة أن الرواية في صميمها رؤية للعالم والذات وأننا مهما حاولنا تجريدها وفصلها عن الواقع لإدخالها دائرة التخيل والوهم ، ستبقى في النهاية ملتصقة في الواقع بجدلية عالم الواقع الفعلي وعالم الواقع الأخر الذي تسعى لإيجاده بالتخييل وبذلك يصبح الواقع الروائي إعادة إنتاج لمعطيات لواقع الخارجي وخبراته ص24.
الرواية أذن تتميز حتى على الملحمة ، ففي حين أن الثانية أحادية الصوت فأن الأخرى نص متعددة الأصوات لارتباطها بالطبقات الدنيا وبسواد الناس .
عند الحديث عن ثقافة المبدع السلوكي والسيري يرى المؤلف أن الواقع والحقيقة حسب المناهج النفسية مجرد أهداف ثانوية في الكتابة وان وراء الكتابة/الإبداع،هدفا أبعد، وهو أن يرى الكاتب نفسه فيما يكتب مستشهدا ب "كولن ولسن":إن الرواية محاولة لخلق مرآة من المرايا يستطيع الروائي من خلالها أن يرى وجهه ، وهي في الأساس محاولة لخلق الذات، أما وصف الواقع وقول الحقيقة فأهداف ثانوية ، مما يعني أن هدف الفن ليس فع مرآة أمام الطبيعة بل أمام وجه ليس وجهك اليومي بل وجهك الكامن وراء وجهك.
في ثقافة النص/ تجليات الجسد اللغوي ، يدعو المناصرة إلى تفعيل النص وإعادة إنتاجه ضمن علاقات لغة نقدية شكلية أو جدلية مع اللغة الأدبية بحيث تغيب لغة النقد المعيارية الشارحة/ التفسيرية للغة الموجودة في لغة النص نفسه، وذلك لأن اللغة الغائبة عن النص حسب رأيه قد يكون أهم بكثير مما يغطي بياض الورق ، وأن قوة كل نص بناء على رأي على حرب ((تكمن في حجبه ومخاتلته لا في إفصاحه وبيانه ومن هنا يقوم التعامل مع على كشف المحجوب /كشف الأوراق المستوردة والمستندات السريةص47.
يعتبر المناصرة في فصل / ثقافة التلقي : البحث عن الوعي التجريبي مقولة ((ولفانج ايرز)) :القراءة عمل إبداعي أصيل ، حيث يملأ القارئ فجوات وفراغات النص بالاعتماد على قوة خياله ويعتبرها تمثل مدخلا لتوضيح ما يجب أن تتوفر عليه ثقافة التلقي ، مؤكدا على أن النص في حد ذاته قدرة انجازية تعجز القراءة عن كتابتها كتابة نهائية وتحتاج الى جهد المتلقي نفسه ،هذا المتلقي الذي لم يلق اهتماما في الثقافات النقدية التي اتكأت على المبدع والنص والمرجعية وان حدث أخيرا للملتقي كعنصر رئيس في فهم واعادة كتابة النص من خلال المناهج الجديدة ، تجريبية كانت أم تأويلية أ م تفكيكية .
السؤال هنا : أين هو هذا المتلقي الذي يقوم بهذا الدور ؟ وكيف نرتقي به ليصل لمثل هذا المستوى وما هي الآليات التي نعتمدها لاستشراف هذا الهدف ونسبة الأمية كما نعرف والأمية الثقافية بين من يقرأون مما لا يخفي ؟ يعترف المناصرة بخطورة القضية وان إنتاج المتلقي لن يتم بين يوم وليلة بل يحتاج الى عملية انتاجية للفرد ذات دينامية تاريخية فكرية جمالية تعيد ثقته بنصه فيصبح بالنسبة له قيمة حضارية ، رافضا النص الاستهلاكي الذي يقدمه الآخر على انه الأفضل في الثقافة الغازية وليصبح المجتمع قادرا على النهوض بالذات وتأطيرها حضاريا كندٍ أو كفاعلية انتاجية موازية للآخر ، وعندئذ يصبح قيمة حضارية تجمع بين أبعاد: المدرسة في مرحلتيها الابتدائية والثانوية لصقل المواهب اللغوية وإ نماء القدرات الذهنية وترويض الملكات الادراكية وبذلك نضع الاطار الأمثل لارساء قنوات إيصال المعرفة ولتظل وظيفة التدريب على إنتاج المعرفة مقصورة على الجامعة ص 89 .
وبناء على هذا نتساءل أين مناهجنا ومعلمينا من ذلك ؟ أليست أطراف المعادلة جميعا تحتاج إلى تغيير جذري شامل ؟وبالتالي مازال الطريق بعيدا .
يختزل المناصرة مقولات بعض الروائيين العرب في مؤتمرهم الأول ((قابس الدولي )) ويعلق عليها. ففي فصل الرواية العربية / التحول من السرد التقليدي الهرمي إلى نص هجين .. يمر المؤلف على المحطات التاريخية في مسيرة الرواية العربية مشيرا إلى رواية سليم البستاني ((الهيام في جنان الشام)) عام 1870 بأنها أول رواية عربية حديثة مخالفا الإجماع على رواية زينب معتبرا أن جزءا من خمسينيات القرن المنصرم وستيناته جاءت بأدب مختلف فدخل الشعر الحر والرواية الجديدة والمسرح التجريبي والنقد البنيوي وأصبحت الرواية أكثر الأجناس الأدبية المعاصرة أهمية لأنها ديوان العرب الحديث بعد أفول الشعر وإن جاءت لعبة السرد أهم إشكاليه أحدثت مفارقة بين بدايات القص التقليدي وتقنيات السرد الجديد ص72
إن الرواية العربية لم تكن جنسا أدبيا له قواعده وأصوله كما هو الشعر ولذلك أتت أسئلة الرواية هاجسية عاجزة عن وضع إجابات نهائية.
ربما تعتبر أكثر إشكاليات التطور حساسية ، كسر الرواية العربية الحديثة لتقنيات السر التقليدية بما فيها من وضوح الشخصيات وتسلسل الأحداث وتحديد الزمان والمكان.. حتى انتشرت نصوص لا تنتمي الى شكل وهذا يعتبر أزمة من وجهة نظر ((صنع الله إبراهيم)) في حين يعتبر ((وليد إخلاصي )) ميزة ،لان الرواية عندئذ تصبح جنسا متحررا من كل القيود ومن كل أساتذة النقد ص74.
عند الحديث عن العلاقة بين الشرط التاريخي والفني في الرواية الجديدة ، ظهر أحمد عمر شاهين الأكثر جرأة ، إذ من خلال علاقة الرواية بالقضية الأساسية أو القضية الفلسطينية تحديدا ، يستحضر تساؤل ((غسان كنفاني)) الذي أدرك أن أسلوب روايته ((ما تبقى لكم)) لا ينسجم والتزامه الوطني وتسائل : لمن أكتب ؟ هل أكتب من أجل أن يقول ناقد أني كتبت رواية جديدة أم أكتب من أجل أن أصل للناس؟ص78.
يسجل المناصرة ملاحظات عديدة أهمها :
1. أن كل رواية لها قدرتها الخاصة على ابتداع قواعدها الذاتية ومميزاتها الفنية التي تكسب نفسها تجنيسا خاصا قد يتعالق مع الروايات الأخرى في بعض التفريعات دون أن يكون هناك قواعد ملزمة لتركيب اللغة وبناء الشخصيات أو صياغة الزمكان أو توسل طريقة العرض.
2. أهمية الرواية الجديدة تكمن في سعيها في لعدم الخضوع للتجنيس ، برفض السلطات الزمنية التقليدية ومحاولتها للوصول إلى التعددية وأن كانت أهمية التواصل مع الملتقي العادي قضية مؤرقة لأن شرط المحافظة على حميمة العلاقة معه ضرورة فالكتابة بدون قضيتها لا معنى لها ولا مبرر لوجودها .
السؤال مرة أخرى : أين هو المتلقي وما موقعه وما مشكلته الرئيسية؟
لا خلاف على أن أخطر مشكلة الملتقي هي الهجمة الإعلامية الاستهلاكية التي جعلت منه مجرد ملتق سطحي الوعي والممارسة ومجرد آلة كسولة تستقبل المنتجات الجاهزة وتمارس هروبها كثافة التفاعل الإنتاجي وتهرب من النصوص التي تحتاج إلى إنتاج.
تعمل وسائل الأعلام وبتسارع لجعل العالم سطحيا ومبتذلا، كما تدفع بالكتابة إلى أن تصبح نوعا من الخبر وهي بذلك تعمل على إلغاء القراءة والكتابة على حد سواء وتؤسس لشيء جديد : ثقافة العين والأذن فأي أمية جديدة تراد بنا ؟
تستوقفنا محاور ((سعد الله ونوس)) لبض القضايا الثقافية في كتابه ((هوامش ثقافية)) عندما يتوقف مع حزيران ويبرز خطأ الثقافة العربية في التأسيس لمعركة رابحه بقوله.. وانه للافت للنظر الا يجد المرء في معظم ثقافته تلك الفترة أية نبوءة مقلقة ولا رنينا يثير الاضطراب ، وهذا ما يفسر عنف المثقفين حيال الهزيمة، هذا العنف الذي يخبأ في طوياه شعورا عميقا بالذنب ،أما الصحافة العربية ، فتقدم صورتين للواقع تجمع بينهما علاقة هشة متناقضة إحداهما صورة تمزق الوطن العربي وتناثره إلى شرائح في الأخبار السياسية وثانيتهما تقدم واقعا ملونا تحمله غيمه سحرية وتنأى به عن الأرض لتبدوا الصورة بريئة وبراقة من خلال صفحات المنوعات وبذلك يصبح النشاط الثقافي هو الذي يدير ظهره للأحداث العاصفة التي تجري حوله مما يؤدي إلى تضليل مزدوج بطبيعة مركبة ص84.
في إطار ثقافة النظام العالمي الجديد . تصبح من الضروريات الحضارية قراءة الوعي العربي وثقافته في كافة مستوياتها لبلورتها في مواجهة الأخر، قراءة يجب أن تستدعي على الدوام قضية البحث عن الخصوصية المحلية حتى لا تظل ثقافة الأخر فضاءنا الاستهلاكي .
الرواية العربية/ الخطاب الإبداعي المفتوح، ما زالت تغري بالدراسات الفنية النقدية سواء تعلق ذلك بالمضمون الاجتماعي ، العاطفي، النفسي، الاقتصادي، الفكري،الثقافي أم بأية إشكالية يمكن أن تطرح وان ظلت المسألة المهمة التي لم تأخذ نصيبها بالدرس : جانب الجماليات الفنية في الكتابة الروائية أ، على مستوى اللغة أو عناصر السرد.
أتفق مع الكاتب أن حركة التراسل بين الآداب المختلفة تزداد كثافة وقوة بحيث تتيح للنظرية الأدبية ولمنهاج النقد الحديثة أن تأخذ طابعا عالميا مما يخفف من حدة الملامح المميزة للثقافات المختلفة وذلك يساهم في تعميق الخصوصية لكن السؤال: هل رحلة إبداعنا السردي العربي حتى الآن وصلت إلى مستوى تعكس فيه خصوصيتنا بصدق أم أنها مسخ مشوه لمدارس غربية تجاوزها حتى أصحابها من أهل التجريب! أين هي هذه الخصوصية ومن هم أعلامها ؟ ثم لماذا لم يتم تطوير المقامة – الفن المرشح ليكون انطلاقة حقيقية لأدب عربي جديد، وتجربة ((إميل حبيبي)) لو وجدت من يسير عليها ويثريها ما تزال ماثلة للعيان.
تساؤل أخير : هل وجهت الدعوة للروائيين الأردنيين للمشاركة ضمن مؤتمر الرواية ضمن مهرجان قابس الدولي بتونس؟لماذا لم يشر المؤلف إلى أي إحالة لراو في هوامشه فيما نجد إحالات لنقاد أردنيين.


................
حسين المناصرة
ثقافة المنهج/الخطاب الروائي نموذجا
المؤسسة العربية للدراسات ،عمان .2002 ،168 ص

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية