حينما كنت في العاشرة من عمري ذهبتُ مع والدي إلى الطبيب في الزقازيق التي تبعد عن قريتنا نحو ثلاثين كيلاً، وفي انتظار عودة الطبيب من المستشفى وجدتُ بعض المجلات، أخذتُ أُقلِّب فيها، فاكتشفتُ عالماً غير الذي أعرفه في الكتب المدرسية الرصينة التي يُدرِّسها لنا المعلمون، وكنتُ أتمنَّى ألا يجيء الطبيب حتى أقرأ المجلات جميعها، التي كانت تحوي صوراً لامعةً، وقصصاً طريفةً، وأخباراً أدخلتني عالماً جديداً.
في اليوم التالي بدأتُ أتنبّه إلى المكتبة التي في مدرستنا (مدرسة قريتنا "العصايد"، وهذا اسمها)، فوجدتُ فيها عشرات القصص لكامل كيلاني، وديوان "القروي"، وديوان "الماحي". وقد فهمت الكتب النثرية وتجاوبتُ معها، أما الشعر، فكنتُ أحس به إحساساً ممتزجاً بالغموض الذي يشف عما وراءه، وقليلاً ما كنتُ أسأل أساتذتنا عن معنى كلمة.
بعد عامين من القراءة المبكرة، اكتشفتُ أني شاعر حينما ألّفت بيتين من الشعر بعنوان "نسيم الفجر" أقول فيهما (من باب تمرين اللسان على القول، والتدريب على قول الشعر، فليست هناك "بثينة" على الإطلاق)، وكان ذلك عام (1962م) وأنا في الصف السادس الابتدائي:
ألا يا نسيـــم الفجرِ بلِّغْ تحيَّتي
بثيْنةَ واشْرحْ ما بقَــلْبي من الجَمْرِ
لعلَّ التي في القلْبِ تَــرْنو إلى فتىً
يذوبُ هوىً في حبِّها وهْيَ لا تدري
وعرفني طلاب مدرسة قريتي الصغيرة باسم "الشاعر"، وهي الصفة التي أطلقت عليَّ حينما ذهبتُ إلى المدرسة الإعدادية في مدينة "ديرب نجم" ـ وهي مدينة صغيرة مجاورة لقريتي ـ بعد عدة شهور ملتحقاً بها.
كان أبي تاجراً يقرأ بصعوبة، ولم يكن في بيتنا كتاب غير القرآن الكريم، وبعض الملاحم الشعبية مثل "سيرة عنترة"، وما أزال أتذكّر بعض صور الفرسان التي كانت معلقة في الدور الثاني (المقعد) من بيتنا الطيني.
وها أنا التحقتُ بمدرسة في مدينة تُباع فيها الجرائد والكتب. أخذت في تكوين مكتبتي شيئا فشيئا، وبدأتُ أرسل للمجلات التي فيها أبواب للقرّاء أشعاري القليلة التي أكتبها بين الحين والآخر.
بعد عامين من كتابتي الشعر ظهرت مجلة "الشعر" (في يناير 1964م برئاسة الدكتور عبد القادر القط) ووجدتُ أغلبها قصائد من شعر التفعيلة تختلفُ عن أشعار الماحي، وهاشم الرفاعي، والقروي، وكامل أمين، وصالح جودت، ومحمود حسن إسماعيل .. وغيرهم من الذين قرأتُ دواوينهم في مكتبة المدرسة الإعدادية، أو في مجلة "الرسالة" (التي عاودت الصدور 1963-1965م)، ومع ذلك فقد وجدتُ في هذا النوع من الشعر جمالاً، صادف هوىً في نفسي، فكتبتُ قصيدة بعنوان "زنجي من أمريكا" وقصيدة بعنوان "رسالة من آنسة"، ونشرتُ الأولى في "صوت الشرقية" (1965م)، ونشرتُ الثانية بعد عامين في المجلة نفسها التي نشرت لي الكثير من أشعار البواكير. وهذه المجلة الإقليمية مازالت تصدر، وكان لها أثر كبير فيَّ وفي نخبة من أدباء جيلي من أبناء محافظة الشرقية.
وقد أشرف على باب الأدب فيها من عام 1962م إلى عام 1968م الأدباء: علي الجمبلاطي، وصلاح عبد الصبور، وسلامة العباسي، وفاروق أباظة، ومن عام 1969م إلى عام 1996م القاص عنتر مخيمر، ومنذ عام 1996م إلى الآن القاص بهي الدين عوض.
أعلنت مجلة "صوت الشرقية" عام 1966م عن مسابقة للأدباء الشبان في الشعر والقصة القصيرة والزجل، وأعلنت أن لجنة التحكيم ستكون من الأساتذة: صالح جودت، وكمال النجمي، ومرسي جميل عزيز، وصلاح عبد الصبور.
كنتُ وقتها في السادسة عشرة، ولي عدد قليل من القصائد لا يتجاوز الخمس عشرة قصيدة، اخترتُ إحداها وعنوانها "أغنية إلى فلسطين"، وبعد عدة أشهر أُعلنت النتيجة فإذا بي (الأول) في الشعر!
لقد هزّني هذا الفوز، وأشعرني أنِّي أضع قدمي على الدرب، ومن الصَّعب التراجع، أو الانسحاب.
شُغلت بعد ذلك بتجويد أدواتي الإبداعية، ولم أشترك في مسابقات للشعر بعد ذلك إلا بعد أن أصبحتُ طالباً بجامعة القاهرة، حيثُ اشتركتُ في عدة مسابقات أثناء دراستي الجامعية (1968م-1972م)، وكنتُ أفوزُ بالجائزة الثانية غالباً، لأن الجائزة الأولى كان يفوز بها دائماً زين العابدين فؤاد (شاعر عامية، وكان للفصحى والعامية مسابقة واحدة للشعر!).
وبعد تخرجي احتكرتُ الفوز بالجائزة الأولى في مسابقات رعاية الشباب وقصر الثقافة لمدة ثمانية أعوام (1973م-1981م)، ولم أشترك في مسابقات للشعر على مستوى الجمهورية إلا في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة 1982م، حيثُ فزت بالجائزة الثالثة (وتسلمتُ الجائزة من الدكتور شوقي ضيف) ومسابقة وزارة الشباب والرياضة عن "مسرح الشباب" التي سأتناولها لاحقاً.
درستُ المسرح الشعري فرأيتُهُ في معظمه مسرحاً تاريخيا، ومن ثمّ فقد أردتُ تجريب قدراتي في كتابة المسرحية الشعرية، بعد أن قال لي أستاذاي الدكتوران السيد يعقوب بكر وأحمد الحوفي: "إن شعر التفعيلة يُمكن أن يجود في المسرح الشعري"، وإن كانا لا يعترفان بالمُنجز الغنائي في شعر التفعيلة الذي قدّمه جيل الروّاد: علي أحمد باكثير، وعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور.
وقد كانت تجربتي الأولى مع المسرح الشعري عام 1975م، حيث كتبتُ مسرحية بعنوان "الرجل الذي قال"، وهي تتخذ شخوصها وأماكنها وأحداثها من الواقع المعيش، وقد تقدمتُ بها إلى مسابقة "مسرح الشباب" التي أقامتها وزارة الشباب والرياضة، ففازت بالجائزة الأولى لعام 1977م، وقد شجّعتني هذه التجربة، فكتبتُ بعدها أربع مسرحيات شعرية، هي: "الباحث عن النور: أبو ذ ر الغفاري" (1977م)، و"ملك وثيران" (1984م)( )، و"بيت الأشباح" (1988م)، و"مُحاكمة عنترة" (1988م)، والزلزال (1992م).
ولم ألجأ إلى التاريخ إلا في مسرحيتين، الأولى: "الباحث عن النور: أبو ذر الغفاري" وهي مسرحية قصيرة في فصل واحد، والثانية: "بيت الأشباح" التي قدّمتُ فيها أحد ملوك الفراعنة تقديماً جديداً.
لكن تجربتي ـ وتجارب غيري في المسرح الشعري ـ مُحتاجة إلى مراجعة؛ فالمسرحيات الشعرية لا تُقدَّم على خشبة المسرح ـ الآن ـ غالباً، والمسرحية تُكتب لتُعرض لا لتُحنَّط بين صفحات كتاب!
في عام 1977م صدرت في القاهرة (في سلسلة "كتابات الغد" مجموعة شعرية تضم عدداً من القصائد لي، وعدداً آخر لمحمد سعد بيومي، وعدداً آخر لمصطفى النجار، وقد صدرت هذه المجموعة تحت عنوان "حوار الأبعاد الثلاثة"، وقد صدرت منها طبعة ثانية في حلب عام 1979م بعنوان "حوار الأبعاد"، وقد انضم إلى الطبعة الثانية الشاعر السوري الراحل سمير دَدَم، وقد رحّب بهذه التجربة عدد كبير من النقّاد، منهم الناقد الراحل محمد العدناني (الشاعر، وصاحب "معجم الأخطاء الشائعة")، كما رحّب بها الشاعر السوري الراحل عدنان مردم بك (صاحب المسرحيات الشعرية الرائعة، والدواوين الرصينة).
وقد كرّر هذه التجربة بعدَنا بعضُ الشعراء، ورأيي أنها تجربة طيبة تلفت الانتباه إلى الشعراء الذين هم في أول الطريق، إذا كانوا جادين، ويقولون شيئاً، فهل تستمر تجربة إصدار الدواوين الشعرية المشتركة؟!
وقد أصدرتُ في عام 1977م ديواني "السقوط في الليل" بمساعدة اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وأصدرتُ في عام 1979م ديوان "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة"( )، وفي عام 1980م صدر ديوان "شجرة الحلم" بمقدمة للناقد المعروف الدكتور علي عشري زايد (نُشِر قسم من المقدمة في مجلة "الأديب" المحتجبة)، ثم أصدرت عام 1984م ديوان "الحلم والأسوار" بمقدمة للشاعر الراحل عامر محمد بحيري، وفي عام 1985م صدر ديوان "الرحيل على جواد النار".
لم أصدر بين عامي 1986و1992م أية مجموعة شعرية، فقد كنتُ في رحلتين للعمل خارج مصر (في اليمن، ثم في السعودية)، وقد كتبتُ في هذه الفترة مجموعة شعرية ضخمة صدرت عام 1993م بعنوان "حدائق الصوت".
وإنني أرى أن شعري على امتداد رحلته يُحاول أن يقترب في لغته من لغة الواقع المعيش بمفرداته اليومية، كما تُحاول معظم أشعاري أن تهتم ببناء الصورة الكلية، المُنتزعة من الشعور، والمتكئة على الواقع المعيش ومفرداته، ومنها قصيدة "زهرة الصبار"، وهذا نصُّها:
هذا الفتى الجميلُ
كيفَ صارَ أصْلعا
وأبيضَ الفوْديْنْ
هذا الفتى الضحوكُ
كيفَ صارَ عابساً
ومثقلَ العيْنيْنِ
بالبُكاءِ في الأسحارْ
هذا الذي يُحادثُ الحِجارَ
والأشجارْ
بأعذبِ الأشعارْ
متى تريْنَهُ يا زهْرةَ الصَّبَّارْ
بعودُ مفْعماً بالوجْدِ
والغناءْ
هُزِّي إليْكِ جِزْعَهُ القديمَ
جُرْحَهُ الحميمْ
تسَّاقطُ البروقُ والأقْمارْ
وتُشرقُ القصائدُ العصْماءْ
في أُفْقِهِ …
وتُرْعِدُ السماءْ
كما تُحاول هذه الأشعار أن تُقدِّم القصيدة المكثفة، البعيدة عن الترهل، التي تقترب من الدراما، مُستفيدة من إنجازات الفنون الأخرى، مثل: الموسيقا، والتصوير، والسينما، والمسرح … وغيرها
يشكو كثير من أبناء جيلي، وهو الجيل الذي بدأ ينشر شعره بعد هزيمة 1967م من إهمال النقّاد لهم، وهذه الشكوى ليست في محلها، فقد كُتبت كثير من الدراسات عن عدد من شعراء هذا الجيل، وأنا منهم.
فقد تناول تجربتي مصطفى نجا في كتابه "ثلاثة شعراء: أمل دنقل، وحسين علي محمد، ونجيب سرور"، وخصص فصلاً لدراستي بعنوان "الأمل الإنساني المحبط في ديوان "ثلاثة وجوه على حوائط المدينة" لحسين علي محمد"، وتناول شعري الدكتور صابر عبد الدايم في كتبه: "مقالات وبحوث في الأدب المعاصر"، و"الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق"، و"التجربة الإبداعية في ضوء النقد الحديث"، وتناول شعري الدكتور حلمي محمد القاعود في كتابه "الورد والهالوك"، وخصص قسماً لدراسة تجاربي جميعاً عبر مسيرتي الشعرية، وتناول تجربتي الشعرية في ديوان "حدائق الصوت" الدكتور أحمد زلط في كتابه "دراسات نقدية في الأدب المعاصر"، كما تناول شعري الدكتور مسعد بن عيد العطوي في كتابه "الغموض في الشعر العربي"، وفي القضية نفسها تناول شعري الأستاذ محمد عبد الواحد حجازي في كتابه "قضية الغموض في الشعر الحديث" ـ الذي نُشرت فصوله في "المسائية" السعودية منذ عامين، ولم يُنشر في كتاب مغلَّف بعد.
ونُشرت فصول عن شعري بأقلام: د. علي عشري زايد، ود. طه وادي، ود. محمد داود، وأحمد فضل شبلول، ود. حسن البنا عز الدين، ومصطفى النجار، ود. عزت جاد، وماهر قنديل، وأحمد زكي عبد الحليم، وعبود كنجو، وأحمد دوغان، وحسني سيد لبيب، ومحمد سعد بيومي، وبدر بدير حسن، وأحمد سويلم.
ومن ثم فإنني أرى أن النقد ليس مٌقصِّراً في القيام بدوره تجاه تجربتي الشعرية، أو محاولاتي في المسرح الشعري.
فن الملاحم فن صعب، ولم يُحاول شعر التفعيلة أن يقترب منه، وإن كانت هناك محاولات لعبده بدوي وغيره في "الأوبرا".
وقد حاولتُ أن أكتب ملحمة ـ من خلال هذا الشكل ـ عن "عمرو بن العاص"، وقد كتبتُ منها قدراً كبيراً، ولمّا طال الأمد عليَّ دون إكمالها نشرتُ الجزءَ الذي كتبتُه في ديواني الأخير تحت عنوان "من إشراقات عمرو بن العاص، أو التحديق في وجه الشمس"، وأرجو أن تُتاح الفرصة لي مستقبلاً لأكتب ملحمة عن هذه الشخصية الثرية المضيئة!