إن المجموعة ـ القصيدة " ملك العراء" هي العمل الشعري الثالث للشاعر أديب محمد بعد " إلى بعض شأني" و " موتى من فرط الحياة" الصادرتان تباعاً عن دار سعاد الصباح ـ الكويت، ودار الكنوز الأدبية ـ بيروت.
وفي هذه المجموعة ـ القصيدة التي بلغ عدد صفحاتها الـ 64 بدا الشاعر مصطدِماً بخيبات الحلم ـ الواقع والوجود ـ العدم..
هذه الخيبات كان لها بالغ الأثر وأعمقه على الشاعر ما جعل مواقفه الشعورية تجسِّدُ مساراتٍ إحساسية وأبعاداً إنسانية مختلفة.. " ها أنت ذا شيءٌ سواك"
" أن الحديقة أوجعتها هجرة الأرواح" ص 28.
لاشك أن نبرة الشاعر كانت تميل إلى السخرية الممزوجة بالأسى، فقد اختصرَ باستخدامه المتكرر لـ ( يروون.. يُروى) كل ماقيل وما سُيقال فكانت كلمته الحارقة ، أسئلته الصارخة خوفه من الراهن الغامض وكذلك شكوكه وهواجسه والقلق الذي يؤرِّقه اتجاه مستقبل شعب بأكمله..
" طوروس يهجس:
قد يكون بلا وطن!
ويعانق الجودي طير تشردي
ويقوم دجلة
من شقائقه الخجولة
كي يعمده الشجن" ص 21
" لم أزل
أعني المعاني السائحات
وأنا المستحيل
في التقاويم الشريدة
شارعاً
متفرعاً من عزلتي" ص 31
هذه القصة ـ القصيدة / المأساة تبدأُ بكابوسٍ ـ واقعٍ مخيف؛
" لم أجد قلبي ولم أجد الهواء محنطاً بجواري" ص 5
لتشكِّلَ فيما بعد الموقف النفسي والفكري للشاعر والذي أكَّدَته بؤرٌ شعوريةٌ كثيرة؛
" لم أزل من أبعد الأشياء عني" ص 41.
" كان الغريب حديقة.. خرافة.. آخر دمعة على عمر يغيب" ص 56.
" .. الرحيل إلى البعيد" ص 63.
" ... الوحيد" ص 64.
" عالٍ سياج الوقت" ص 40.
هذه البؤرـ اللحظات الشعرية الشعورية تمثل قمة المعاناة النفسية لديه،
" ضفة كانت تغني، للجغجغ الرمدان، من أرق المياه، لأصدقاء يحدثون الموت عني...
" داليةٌ ، تنادي من هناك.. إني أنا الأمالتي، ولدتك.." 42.
" .. والمسافة بين كولي والسماء حمامتان" 40
لقد دفعنا الشاعر أديب إلى عمق حديقته ـ غربته فتلمَّسنا ذروة معاناته من هول الرؤى، ملوحة الأيام،انكسار الروح والفقد الكبير ما يؤكد مقدرته الابداعية على استخدام جميع الألوان الحركية والساكنة لرسم اللوحة/المعاناة؛
" من قد رأى مثلي، حدائق محبة، تمشي على أرض الجزيرة، نحو مسقط حلمها؟" 61.
وهكذا .. فإن كلٌّ من الألم والحزن والأسى قد طوَّحَ بنا في أعماق التمزق العاطفي حيث الخوف والقلق والوحدة والغربة.. حيث التشرد والضجر والشك بالانتظار ـ الأمل العقيم..
هي لحظة نافرةٌ جسَّدتها القصيدة ـ المأساة " ملك العراء" على امتداد صفحاتها.
أما المقطع الأخير من القصيدة فقد تسارعت فيه أفعال الأمر؛
" أوجز، لاتكل، قُم، استرح، ابقَ....". لتحثَّ الشاعر وكل انسان على النهوض والمقاومة والصمود والاعتماد على الذات والابتعاد عن الخرافة والأكاذيب والأحلام والأقوال..
هذا عن التشكيل الخارجي، أما عن الداخلي.. فقد اعتمد في بعض الأماكن على الصورة السائبة المستوية الأفقية معتمداً على المكان والذات؛
" لللاذقية
أن تمدَّ هواء فتنتها
على مد المسافة
بين امرأة تهيىء عرشها
وقصيدةٍ
بقيت وحيدة حزنها" ص 51.
" ها أنت
تتوسط الموتى
وتحضن بذرة
وتقول:
كنت حديقة
والله كنت حديقة
وطيور حزنك
واجماتٍ
لاتجيب" ص 26.
هذا الصراع الداخلي قد وحَّدَ المتشظّي من الزمان فبدا الراهن امتداداً للأمس وكذلك للقادم ما دفع الشاعر
لاستخدام الصورة الحلزونية الدائرية فأخل الماضي بالراهن والأخير بالأمس حاشداً اللفظ القرآني في مكان والتاريخي في مكانٍ آخر وأشياء تدعم هذا النوع من الصورة
" ودخلتُ جنتي الصغيرة
ظالماً نفسي
وما
كنت أحسبها تبيد" 56.
" سأسير
إلى مجمع الجُرحين
لكن
لن يكون معي رفيق
أو أحد
البحر جف
وحوت حظي
في الفلاة إلى الأبد" 45.
" كم ترى
ألقيتت في جب الأخوة
كم لبثتُ جنيب كهفي
ناطراً عود الرفاق الميتين
ليخبروني
أينا أزكى طعاماً لليباب؟" 17
ونجد أن التحام الصور بأنواعها ودلالاتها قد أعطى دلالة وحيدة عن القصيدة ـ القصة وهي صورة الانسان الغريب المتوحد مع غربته..
" وأن دمعي
أجنبي
لايُجاري دمعهم
وبأنني
مثل الغريب
عليَّ حزم حقيبتي
فمصيبتي
أني جدير بالعدم" 33.
أما عن جمالية القصيدة فكان كلٌّ من الصدى والصوت قد اخترق مشاعرنا ليشكِّلَ موسيقانا الجوانية مادفع
بانفعالاتنا وأحاسيسنا إلى ذروة التشظي والانشطار من ضياعٍ للنفس في زنزانة الوجود ـ العدم.
إن الشاعر أديب شاعر موقف ورؤيا أكثر منه شاعر عبارة شكلانية تزخرفها اللغة والمفردات، والعنوان وحده يؤكد لنا هذه الرؤيا الفلسفية ..
فالعراء هو الظلام السديمي ذلك
" القبر المضيء لعزلتي" 36.
هو العماء، المنفى، الفراغ والموت داخل الحلم والانتظار
" لي أن أعود إلى فراغٍ راهبٍ وإلى التزنزن في البدن" 20.
" وأعود أمكث في شراكي، نادباً، عمراً يضيع بلا ثمن" 21.
ومن المُلاحَظ أن عنوان المجموعة ينطلق بنا من المحدودية ـ الوجود ( ملك) إلى متاهة الضياع والفراغ المطلق ( العراء) حيث تتلاشى أمامنا كل المسافات والأشكال الشكلانية لنجدَ أنفسنا وقد زُجَّ بنا في مملكةٍ ضيقةٍ يحشوها ويكسوها الظلام السرمدي .
فالشاعر تقصَّدَ استخدام ( ملك) لتحديد هذا الملكوت الكوني الذي دلَّ عليه ورود المضاف إليه ( العراء).
ومن ناحية أخرى ، نلحظُ أن لا إهداء في هذه المجموعة ـ القصيدة، ما يجسِّد العراء أو اللاحياة التي تعيشها الكائنات المتشردة وراء الحلم/ الوقت/ الحطام/ التجوال / الفقدان/ الضجر / الحنين/ الكآبة / الوطن...
" درداءُ صارت أمنياتي
والسماءُ تناهبتها ثلة الأسياد" 29.
" صرنا نوقف الأيام
كيلا نقتل الحب
الموزع بين أبخرة الكنائس
واشتعال مآذن الفجر
الشريدة في الفجاج" 46 ـ 47.
هكذا، وبفنية ابداعية شعرية استطاع الشاعر أديب أن يشعلَ في حطبِ الوجود نار الأسئلة فشدَّنا إلى مصيبتنا
الحقيقية؛
" أنني جديرٌ بالعدم" 23.