نستطيع أن نقسِّم قصص "القلادة" العشرين، للكاتبة الفلسطينية الأصل، المصرية الجنسية بشرى أبو شرار، إلى مجموعتين قصصيتين. المجموعة الأولى: قصصها عن فلسطين: الأرض والمقاومة والحياة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي. والمجموعة الثانية: قصص عن مصر والمصريين، بل عن الإسكندرية والسكندريين حيث تعيش الآن. ومن هنا فإن الزمان والمكان يلعبان دورا كبيرا في قصص هذه المجموعة، فقصصها في المجموعة الأولى مرتبطة أشد الارتباط بالمكان الفلسطيني، وبزمان الاحتلال، وخاصة قصة "القلادة" وهي أولى قصص المجموعة، وبها سُميت، حيث تصور الكاتبة ـ عن طريق ضمير المتكلم ـ طابور الانتظار الطويل الذي يعود أفراده إلى أراضيهم، بعد اتفاقٍ واهٍ على ذلك، مع سلطات الاحتلال، ولكن المجندة الإسرائيلية التي تظهر في الكادر تجبر بعض السيدات على خلع ملابسهن ـ كنوع من الإذلال لهذه الفئة من العائدات ـ فترد إحدى العجائز: لن أخلعها حتى لو خُلعتُ من مكاني .. أموتُ هنا ولن أخلع ردائي أبدا أبدا. مبرزة بذلك نوعا من الاحتجاج إلى إساءة المعاملة، فتأتي مجندات أخريات لاقتيادها وسط صمتٍ تسلسل به من في الطابور.
أما شخص القصة، فيباغتها رجلٌ بالداخل، ويأمرها بخلع قلادتها التي تتوسط صدرها، أو المدلاة على صدرها. فتتشبث بها لأنها تحمل الخريطة الذهبية لفلسطين، ولكنه يخبرها بأنه سيصادرها منها. فتتداعى ذكريات عن القلادة، وأن الوالد أوَّل من علمها ماذا تعنى الخريطة.
وتنتهي القصة ـ في إشارة رامزة ـ إلى تلك الرقبة، وذلك الصدر الذي خلا من قلادة تحمل الخريطة.
في قصة "المداهمة" نرى أفراد قوات الاحتلال ـ في غزة ـ يندفعون إلى البيوت في منتصف الليل، ويوجهون قبضات أيديهم وكعوب بنادقهم إلى صدر صاحب البيت أبي ماجد، ويقبضون على ابنه الصبي علي، ويحاول الرجل أن يهدئ الأم التي انفجرت في البكاء والعويل.
و"المداهمة" تُعدُّ قصة تقريرية، لا مجال كبير فيها للفن القصصي، ويبدو أن حرص الكاتبة على تصوير الواقعة أو الحادثة، كان أهم من حرصها على التمسك بأهداب الفن الذي عايشناه من خلال "القلادة".
أما في قصة "وبرعمت دوالي العنب" فتنجح القاصة في تصوير مشاعر التكاتف والتراحم ومساعدة من فَقد منزله في المخيم، من خلال استضافة مجانية لأسرة أبي عصام التي أزاحت الجرافات الإسرائيلية بيته، لتتسع الطرقات، ويضيق الخناق على الفدائيين، فلا يجدون وسيلة سهلة للتسلل والمقاومة، ولكن تصل عربات الجيش إلى منزل أبي عصام، للقبض عليه، وسط ذهول كلب الحديقة الذي لم يكف عن النباح، وتحول ـ في صورة رامزة ـ إلى وحش ثائر في وجه الجنود الذين ينتشرون في أنحاء الحديقة، ولكن بعد إلقاء القبض على الرجل يتكوَّم الكلب على نفسه، ويسدل جفنيه، ويغرق في حزنه.
وتنجح الكاتبة في إعطاء هذا الحدث صفة الاستمرارية، والإيحاء بأن مثيله يحدث كل يوم في فلسطين ـ على الرغم من صفة الحكي المسيطرة على القصة ـ من خلال قول الراوي عن أم عصام، إنها لم تزل تحمل صينيتها الفضية التي خبا بريقها مع غروب شمس كل يوم مسافر.
وفي قصة "نور جدتي" نجد الجدة الضريرة التي تخاطبها الحفيدة قائلة: لقد جاءنا اليهود وحطوا في بلدتنا. فتجيب الجدة: لا يهمكم يا أبنائي .. خذوا ألعابكم إلى الحديقة .. لا تخافوا. ثم تشيح بيدها مردِّدةً: ها هي يدي سأقطعها لو مكثوا أكثر من شهور فيها .. هم راحلون!! وكانت كلمات الجدة الضريرة بمثابة شعاع الأمل الذي يحيا في النفوس رغم عدم تحققه، حتى الآن.
أما قصة "زهرة الأوركيدا" فهي تصور الطبيعة الفلسطينية الجميلة، من خلال الفتاة "ردينة" التي تجئ لزيارة موطنها بعد زواجها، وكأنها تستعيده من بين براثن المحتل، فتجوب البساتين والسفوح والجبال والوديان، وتلتقط حبات التين، وتحمل عيدان الزعتر، وتشاهد فلسطين من فوق رؤوس الجبال والطرقات الملتوية. إنه شوق عارم لرؤية الوطن الأول، ولا تملك سوى أن تصطحب معها زهرة الأوركيدا في رحلة عودتها إلى وطنها الثاني. إنه نوع من أنواع تشبث الكاتبة بالوطن، ولو على الورق.
في قصة "حقيبتي الغائبة" تنسى الساردة إحدى حقائبها في سيارة التاكسي التي أوصلتها من مطار القاهرة إلى محطة قطار رمسيس، وعندما تصل إلى بيتها في الإسكندرية، وتقوم بفتح الحقائب تجد أن هناك حقيبة غير موجودة، وفي الوقت نفسه يتصل بها السائق من القاهرة، ليبلغها أن الحقيبة المنسية ستصلها غدا، ولكنه يرغب في الاحتفاظ بسلسلة فضية لحمل المفاتيح تحمل صورة القدس، ويصله صوت الساردة من بين دموعها قائلة: نعم .. نعم!
هكذا تعزف قصص القسم الأول على وتر المقاومة وأناشيدها، والطلقات النارية والدماء والصراخ والعويل، حيث تصور القاصة الوضع المأساوي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة في مدينة غزة (المتكوِّمة على شريط البحر)، من خلال قصص إنساني، قادر على البوح والتصوير وإبراز المعاناة، ومن خلال شخصيات كثيرة منها: الصغير، والشيخ، والفدائي البطل، والشهيد، والإنسان العادي المبصر والضرير، والخائن. منها: الجدة، ويوسف، وسعاد، وياسر، وصفية، وردينة، ومحمود، وسمير .. الخ.
وقد تسللت بعض الخطب والمواعظ والنداءات عالية النبرة، والهتافات، إلى البنية الفنية للقصة في بعض الأحيان، مثل قول الكاتبة في قصة "رماد مشتعل" المهداة إلى روح الشهيد البطل / باجس أبو عطوان، على لسان إحدى الشخصيات التي تهتف: "قُمن يا نساء بلدتنا، يا رجال أفيقوا، هيا يا شباب".
إلا أن قصة مثل "فراشات في ألبوم" تستطيع الكاتبة من خلالها التخلص من المباشرة والتقريرية، التي لوحظت على بعض القصص السابقة، وهي قليلة على أية حال، لتعطي دورا أكبر لمشاعر الحب الآخذة في التفتح من خلال العلاقة الرقيقة التي بزغت بين فتاة القصة، أو الراوية، والفتى محمد الذي يحب رسم الفراشات، والمُطارد من الجيش بعدما ألقوا القبض على أخيه "علي"، ربما نتيجة الخيانة التي باحت بها الكاتبة في آخر قصص المجموعة "لا عزاء" حيث توضح أن يد الغدر والخيانة امتدت لتصافح رجال المخابرات التي استطاعت اغتيال البطل الفدائي يحيى عيَّاش.
***
بعد ذلك تحلِّق الكاتبة في أجواء أخرى إنسانية عامة، مثل قصة "صينية فتة" التي تؤكد فيها على العلاقة الجميلة بين أخ وأخته، حيث تستحضر فتاة القصة الجو العائلي الحميم الذي كان يجمع بين أفراد العائلة جميعا، من خلال حديثها عن "صينية الفتة" التي يتحلَّق أفراد العائلة حوله. ومثل قصة "كانت تخاف العتمة" التي تصور احتضار الأم، والنور الذي كان يشع من وجهها قبيل لحظات الوفاة، والسؤال الذي كان يسأله الحاضرون عندما رأوا وجهها متوردا (هل وضعت مساحيق التجميل اليوم؟!) ولم يكتشفوا هؤلاء إنْ هذا إلا صحوة الموت.
في قصة "نزيف الروح" تُصاب سيارة الزوج في حادثة تدمرها تماما، ولحسن حظه أنه لم يكن موجودا بها لحظة وقوع الحادث، وعندما تتصل به زوجته على هاتفه المحمول، ويخبرها بالحادث، يبدأ تيار الذكريات والفلاش باك في التسلل إلى أجواء القصة، فهذه السيارة "كانت المقود لعلاقة جميلة دامت سنوات عمر طويلة، والآن لم تعد هي .. ذهبت مثل كل الأشياء الجميلة .. ما أن نحبها حتى تتركنا وترحل". وفي مقابل هذه العبارة التقليدية جدا، نجد عبارات أخرى تحمل وصفا راقيا غير تقليدي يحمل شحنات الحب والعاطفة التي حملته تلك السيارة إلى الزوجين فهي (أي السيارة): "جماد يطوقهما .. يحنو إليهما أمام صخور القلوب الواجمة .. آلة التنبيه تزغرد في حنايا قلبها فتهفو الروح إلى هذا النسر الطائر المغرِّد .. لوحة أرقامها من رسم فنان منقوش في قلبها وذاكرتها .. كل رقم فيها ينطق بحكاية .. وأرقامها تبوح بالشجن .. الخ".
وهكذا تؤنسن الكاتبة كل جزء في السيارة العاطفية التي كانت تشاركهما حبهما، وتفرح لمجيئهما، ومن هنا يبرز حجم الخسارة العاطفية وحجم الذكريات بعد أن ماتت السيارة جرَّاء الحادث الذي تعرضت له، وأنا هنا أقصد لفظة (ماتت) للسيارة التي توحي بإنسانيتها العالية حسبما قدمتها لنا الكاتبة.
في قصة "مؤانسة" نجد عالم القطط، الذي يربيه الرجل، فيملأ البيت عليه، ولكن عندما تكبر القطط، تبدأ في العبث بمحتويات الشقة: (كبرت قططه .. والأشياء تتبعثر من هنا ومن هناك .. ورق الحائط تناثرت أجزاؤه وتبعثرت رسومه .. أريكته المفضلة تهدلت جوانبها وبدا قطنها متدليا من المسند إلى الأرض .. الخ). فيقرر التخلص من قططه، فيضعها في علبة كرتونية، ويذهب إلى السوق البعيد، ويتركها هناك، وعندما يعود إلى شقته لا يجد إلا الصمت في انتظاره، فيعض أصابع الندم، ويعود ليلا إلى السوق علَّه يجد علبة القطط، فلا يجد أثرا لها، ويعود أدراجه، فيسأل بوابة البناية التي يسكن فيها: أم محمد .. متى ستلد قطتك؟
إنه شعور بالوحدة، والحرمان، يصعد إلى عالم القصة، تنجح الكاتبة في تصويره، وطرحه على القارئ ليشارك هذا الرجل شعوره بالذنب على تخلصه من قططه على هذا النحو، فيفكر في البديل وانتظار ميلاد قطط جديدة.
في قصة "وصاح الديك" تكتشف الكاتبة روح مصر، فتهتف على لسان عامل مكن النسيج: "هي دي مصر كلها في مربع واحد .. ما أن تتوقف ماكينة فتشتكي لها كل المكن". وتشبه صوت المكن بعد إصلاحه ودورانه بسيمفونية لبيتهوفن أو موزارت. وفي نظرها فإن الريس صلاح الذي يتعلم منه المهندسون "واد جن معجون بزيت المكن".
ولكنها تهدر كل هذا بقولها على لسان الريس صلاح: "المكن تعب مني وأنا تعبت منه .. الغزْل صار صناعي يأتي من بلاد الفرنجة .. فين خيط القطن؟ فينك يا مصر؟". لتضع بذلك يدها على أحد جراحات النزف في مصر المعاصرة اقتصاديا واجتماعيا.
وأرى أن لفظة (الفرنجة)، على لسان الريس صلاح، لفظة غير واقعية، فلا أحد يستخدمها الآن للدلالة على الأجانب أو الأوربيين بعامة، ولو قالت: صار يأتي من بلاد الخواجات، أو من بلاد أوربا، لكان أفضل وأوقع.
أما في قصة "غربة" فيتصاعد الشعور الحاد باليتم والفقد في عالم الصبي خليل الذي يعمل في ورشة نجارة، وعندما يدرك أن خالته في طريقها إلى الحج، يعطيها رسالة لتسلمها إلى أمه التي صعدت إلى السماء، ولم يعد يذكر قسمات وجهها.
وفي قصة "خاتم سليمان" تناقش الكاتبة مسألة الغيبيات، والدجل والشعوذة، التي يلجأ إليها بعض المتعلمين، مثل كتابة بعض سور القرآن الكريم (مثل سورة تبارك) ونقع المكتوب في مشروب العصير وتقديمه للزوج ليشربه، فيصبح مثل الخاتم في الإصبع، وقراءة سورة ياسين ثلاثمائة مرة، لأن خدَّام القرآن لا ينصتون للأمر إلا بعد المرة الثلاثمائة، ونكتشف مع الساردة أن الابنة التي تدرس آداب اللغة الإنجليزية، وأختها التي تدرس في الحقوق، تؤيدان كلام أمهما ونصحها للساردة. وفي نبرة تهكم تعلق الساردة بقولها: "الطريق أمامي لا يزال طويلا لأجد خاتم سليمان كما وجدته أم رانيا" التي أصبح زوجها مثل الخاتم في إصبعها (أقول له شمال شمال .. يمين يمين ..).
ومع تراكم قصص المجموعة، ونزوعها إلى تصوير الحياة المصرية، نلاحظ تسلل بعض العبارات العامية المصرية، إلى لغة الحوار، مثل (إيه النور ده .. يا صباح الفل) كما نرى في قصة "قلب عزيزة"، و(واد جن معجون بزيت المكن) كما نرى في قصة "وصاح الديك".
وبعد أن كانت رائحة الزعتر، وسلال التين، وحبات الرمان .. الخ، هي المسيطرة على عالم الأطعمة في القصص الفلسطينية الأولى، نجد روائح أطباق الفول بالفلفل الأخضر، وحبات الطماطم والزيت، والجبنة القريش، والبصل .. الخ، تصعد إلى المشهد القصصي المصري، ليتعانق في قصص المجموعة كل ما هو فلسطيني، وكل ما هو مصري، في عالم الكاتبة بشرى أبو شرار، لتؤكد ـ في النهاية ـ على أن القضية الفلسطينية هي قضية مصر، وأن مصر تعيش في وجدان كل فلسطيني.