الخفة، والسرعة، والدقة، والوضوح، والتعددية هي أهم ملامح الإبداع في الألفية الجديدة كما يرى الناقد الإيطالي إيتالو كالفينو من خلال محاضراته في الإبداع التي اختار لها عنوان "ست وصايا للألفية القادمة ـ محاضرات في الإبداع" والتي بدأ ينسج خيوطها منذ أول أيام شهر يناير من عام 1985 واكتملت لديه محاضرات خمس، ولم يمهله القدر لإتمام المحاضرة السادسة والتي اختار لها عنوان "الاتساق" حيث رحل في التاسع عشر من سبتمبر من العام نفسه. وقامت زوجته "أستير كالفينو" بإعداد المحاضرات الخمس للنشر في كتاب حيث وجدتها جاهزة على مكتبه، مع المقدمة التي يقول فيها: "نحن الآن في العام 1985 ولا يقف بيننا وبين ألفية جديدة سوى خمسة عشر عاما. ولا أعتقد أن اقتراب هذا اليوم يثير أي عاطفة خاصة، وعلى أي حال، لست هنا للحديث عن علم المستقبل، بل للحديث عن الأدب. إن الألفية الموشكة على الانتهاء شهدت مولد وتطور لغات الغرب المعاصرة والآداب التي استكشفت الممكنات التعبيرية والإدراكية والتخيلية لهذه اللغات، وكانت أيضا ألفية الكتاب، بمعنى أنها شهدت الشيء الذي ندعوه كتابا يتخذ الشكل الذي نألفه الآن. وقد يكون من علامات نهاية ألفيتنا إننا نتساءل مرارا وتكرارا عما سيحدث للأدب والكتب فيما يدعى ما بعد عصر التقنية الصناعية، إلا أنني لا أميل إلى الاستغراق في هذا التأمل، لأن ثقتي بمستقبل الأدب تعتمد على معرفة أن هناك أشياء لا يمنحنا إياها سوى الأدب بوسائل ملائمة له، لهذا أود تكريس هذه المحاضرات لقيم وخصائص أو مميزات أدبية معينة قريبة من قلبي، محاولا أن أضعها في مدى منظور الألفية الجديدة".
***
وقد صدرت وصايا كالفينو ـ بعد أن ترجمها إلى العربية الشاعر محمد الأسعد، عن سلسلة إبداعات عالمية بالكويت (العدد 321).
اختار المؤلف "الخفة" ليكون عنوان المحاضرة الأولى، حيث تكون الخفة رد فعل على ثقل الحياة، والرغبة في التخلص من الجسد الثقيل والطيران إلى عالم آخر، إلى مستوى آخر للإدراك يمكن معه العثور على سلطةٍ تغير وجه الواقع. ومن خلال مراجعة العديد من الأعمال الأدبية العالمية ـ شعرًا وروايةً وقصةً ـ يذهب المؤلف إلى أن هناك اتجاهين متعارضين في الأدب تنافسا خلال القرون الماضية، أحدهما يحاول جعل اللغة عنصرا بلا ثقل، ترف فوق الأشياء مثل غيمة أو مثل غبار ناعم أو حقل نبضات مغناطيسية، والآخر حاول إعطاء اللغة كثافة وثقل وملمس الأشياء والأجساد والأحاسيس. وبطبيعة الحال ينحاز كالفينو إلى الاتجاه الأول بل يوصي به في الألفية الجديدة، ورغم عدم إنكاره للاتجاه الثاني، إلا أنه يرى أنه يمنح صلابة حتى لأكثر التأملات الذهنية تجريدا، ويضرب مثلا على ذلك بـ "دانتي" في الكوميديا الإلهية، أما الاتجاه الأول فيمثله كافالكانتي الذي يستطيع أن يذيب ملموسية التجربة المحسوسة في سطور إيقاع محسوب مقطعا بعد مقطع، كما لو أن الفكر ـ من خفته ـ ينطلق من الظلمة بسرعة التماع البرق.
***
وعن السرعة يقدم المؤلف محاضرته الثانية فيوصي بسرعة السرد، والاقتصاد أو الإيجاز في التعبير حيث "يجري الزمن بلا زمن في القصة"، وليس المقصود هنا السرعة المادية، ولكن العلاقة بين السرعة المادية وسرعة الفكر، وقد ضرب في هذا مثالا باستخدام الحصان كرمز ـ أو استعارة ـ للتعبير عن سرعة الفكر، في بعض الأعمال الأدبية. وهو يرى أن سرعة الفكر والأسلوب تعني قبل كل شيء الرشاقة والحركية والسهولة، وكلها خصائص تسير مع الكتابة. غير أنه في الوقت نفسه لا ينكر متعة التمهل في بعض الأحيان، حيث أنتج الأدب تقنيات متنوعة لتبطيىء مسار الزمن عن طريق التكرار مثلا.
***
أما الدقة فقد كانت موضوع المحاضرة الثالثة، وفي مقدمتها يضرب المؤلف مثلا بالريشة التي اتخذها المصريون القدماء رمزا للدقة، فهي عيار الموازين التي تستخدم لوزن الأرواح. والدقة التي يوصي بها المؤلف في إبداع الألفية الجديدة تعني: خطة محددة ومحسوبة جيدا في العمل المعني، واستحضار صور بصرية واضحة وحادة لا تنسى، ولغة محددة قدر الإمكان في كل من جانبي اختيار الكلمات والتعبير عن حدة الفكر والمخيلة. وهنا يرى المؤلف أن شاعر الغموض لا يمكن إلا أن يكون شاعر الدقة، فهو الشاعر القادر على الإمساك بأكثر الأحاسيس رهافة، بعينين وأذنين ويدين خفيفتين لا تخطئان.
***
وعلى الرغم من حديث المؤلف عن الغموض إلا أنه يرى أن الوضوح لابد أن يكون صفة أساسية في الأعمال الإبداعية، وعلى هذا يكون الوضوح هو الوصية الرابعة أو المحاضرة الرابعة في سلسلة محاضرات كالفينو عن إبداعات الألفية الجديدة، ويبرر ذلك بقوله: "لئن أدرجت الوضوح في قائمتي للقيم التي يجب المحافظة عليها، فما ذلك إلا للتحذير من خطر نواجهه يتمثل في فقدان ملكة إنسانية أساسية، هي قوة جلب الرؤى إلى مجال بؤرةِ تركيزٍ وعيوننا مغلقة، وجلب وتقديم أشكال وألوان من سطور الحروف السوداء على صفحة بيضاء، وفي واقع الأمر، خطر فقدان قوة التفكير بتعابير الصور". وهنا يتساءل المؤلف عن إمكانية وجود أدب أخيولي (في تعريف المؤلف للأدب الأخيولي أحالنا إلى تعريف بلزاك بأنه ـ أي هذا الأدب ـ يقول كل شيء عما يراوغ مدركات روحنا المحدودة، وعندما تضعه أمام عيني قارئ فإنه ينقذف في فضاء تخيلي) ـ وربما يقصد به الأدب الخيالي ـ في القرن الحادي والعشرين في ظل التضخم المتنامي للصور الجاهزة. ويجيب عن هذا التساؤل الحيوي بعرض طريقين يبدو أنهما ينفتحان من الآن فصاعدا: 1 ـ بإمكاننا أن نعيد تصنيع الصور المستهلكة في سياق جديد يغير معانيها. وفي هذا السياق ربما ينظر إلى "ما بعد ـ الحداثة" بوصفها ميلا نحو استخدام بضاعة صور وسائط الإعلام الجماهيري المختزنة استخداما تهكميا، أو بوصفها ميلا نحو حقن ذائقة الروائع الموروثة من التراث الأدبي في آليات سردية تؤكد على اغترابها. 2 ـ بإمكاننا أن نمسح لوح الكتابة ونبدأ من الخربشات الأولية. وقد حصل "صاموئيل بيكيت" على أكثر النتائج فذاذة باختزال العناصر البصرية واللسانية إلى الحد الأدنى. كما لو أن الأمر يحدث في عالم يبدأ بعد نهاية العالم.
***
وأخيرا يصل المؤلف إلى الوصية الخامسة وهي التعددية، حيث يصبح الأدب بعامة، والرواية بخاصة، موسوعة، ومنهج معرفة، وفوق كل ذلك شبكة من الصلات بين الأحداث والناس وأشياء العالم، ومن هنا تأتي تعددية العلاقات في العمل الأدبي، ويذهب المؤلف إلى أن التحدي الكبير الذي يواجه الأدب هو أن يكون قادرا على نسج مختلف أنواع المعرفة سويةً، ومختلف "الشيفرات" في رؤية العالم متشعبة ومتعددة الوجوه، ويرى أن الأدب لن يستمر في امتلاكِ وظيفةٍ إلا إذا وضع الشعراء والكتاب لأنفسهم مهمات لا يجرؤ أحد على تخيلها. ومن هنا تأتي الكتب الحديثة المهمة نتاجا لاحتشاد وتصادم وتعددية المناهج التفسيرية وأمزجة الفكر وأساليب التعبير.
وفي النهاية يتساءل المؤلف ـ مؤكدا على أهمية وصية التعددية ـ من نحن، من هو كل واحد منا، إن لم نكن مركبا من تجارب ومعلومات وكتب قرأناها وأشياء متخيلة ؟ كل حياة هي موسوعة، مكتبة، مخزن أشياء، سلسلة من الأساليب، ويمكن أن يستبدل كل شيء باستمرار، ويعاد تنظيمه بكل طريقة يمكن تصورها.
***
هذه هي الوصايا الخمس التي تركها لنا إيتالو كالفينو، ولاشك أنها وصايا ـ أو ملامح ـ جديرة بالتأمل والمناقشة، فهي تأتي من كاتب مارس الإبداع الأدبي وأنتج عددا من الروايات المهمة مثل: "مدن لا مرئية"، و"إذا في ليلة شتائية مسافر .." وغيرهما. وهو في وصاياه لا ينفي الضد، أو يختزله من الوجود، فإذا كانت للخفة مزاياها التي حدثنا عنها، فإن ذلك لا ينفي الثقل، كما أن السرعة لا تلغي البطء في العمل الأدبي (أسرع بتمهل)، والدقة لا تلغي الفوضى أو التهويم، والوضوح لا يلغي الغموض في بعض الأحيان، كما أن التعددية قد لا تلغي الأحادية. وإنما أراد المؤلف بوصاياه تلك أن يفحص شبكة الأصوات التي ينطوي عليها الصمت، وأن يركز أهم سمات الأدب عبر الألفيتين الماضيتين في بضع قيم أدبية دالة. إنه يطمح إلى كتابة أشياء كونية وأساطير وملاحم يمكن أن تختصر في سطر واحد أو بضعة سطور. ومن هنا فإن موضوع الخفة أو بالأحرى الشعرية أو الشفافية ـ كما يرى الشاعر المترجم محمد الأسعد ـ حيث التخلص من ثقل المادة والزمن والغياب والموت، هو العنوان الأنسب لهذه المحاضرات، وهي أهم القيم التي يوصي بها كالفينو لتكون موضوع الاهتمام في الألفية الجديدة.