( شيءٌ يخصًّ الروح) مجموعةٌ شعريةٌ للأديب الشاعر والروائي شوقي بغدادي..صدرتْ عن اتحاد الكتاب العرب للعام 1996 وتضمُّ 17 قصيدة في 212 صفحة من الحجم المتوسط...صدر له في مجال الشعر ( أكثر من قلب واحد،ليلى بلا عشاق، بين الوسادة والعنق...إلخ) وفي مجال القصة( دربٌ إلى القمة، مهنة اسمها الحلم، بيتها في سفح الجبل...إلخ) و له رواية ( المسافرة) هذا بالإضافة إلى العديد من الدراسات...
يقول العقاد:" إن الشاعر العظيم هو الذي يشعر بجوهر الأشياء لا من يعدِّد صفاتها و يُحصي أشكالها..".
والشاعر شوقي يُخبرناُ في هذه المجموعة عن الجوهريات التي لاشعورياً دفَعتْنا للإنطلاق إلى فضاءات شعرية شعوريةٍ لمعانقة هذا الكون المسكون بطغيان الجمال و سطوة البهاء...أولى قصائده والتي تحملُ المجموعة اسمها/ كتبَ شوقي:"
أقبلَ الليلُ، فغادرتُ، وأغلقتُ ورائي، سوف أختارُ أنا، في هذه المرة زواري، فيا زائرة الليلِ ارجعي، إنني أبحثُ عن شيءٍ يخصُّ الروح، في هذا المساء"...
هذا الليل المسكون بالأحلام والهواجس قد باغتَ الشاعرَ الذي آثرَ المغادرة إلى عالم النور والحقيقة، وهذا التضاد أقبلَ# غادرتُ ليس إلا دليل انسجامٍ بينه وبين الأنا أوالذات الشاعرة ..هذا الانسجام المتناغم قد مكَّنهُ من معرفة الغاية التي يريدها أو يسعى للبحثِ عنها،رافضاً بذلك كل ما هو مطروحٌ أومفروضٌ عليه.. ـ سوف أختار أنا ـ و من المعروف أن فعلَ الاختيار لا يتمُّ إلا حين يكون المرءُ حراً من كل قيد أو ضغوطات أما الشيء الذي يخصُّ روح شاعرنا فلم يكن إلا تلك الموسيقا المنسربة من ناي الوجود..والليلُ حين يُقبلُ محتدِماً بنبضِ الشعر والحلم والشعور فلا بدَّ وأن يكون بانتظاره ثمة شاعر نازح أبداً إلى التعبير بألوانٍ لا وصفَ لعمقها وامتدادها على جسد قصيدته..والمقصود بزائرة الليل هي الدفقة الشعرية التي أبتْ أن تراوده إلا أثناء غيابه عن العالم المادي المرئي إلى عالم الخيال ..إنه يرفض زيارتها ويأمرها بالرحيل فهو يبحثُ عن أشياء تخص الروح فقط..
يقول:" آهٍ!..لو كنتُ أنا حقاً أنا، لو في بياني، بعض ذرَّات المجرَّات التي يسبحُ فيها عنفواني، من تُرى خطَّطني شكلاً، ومضموناً محاني، كلما حاولتُ أن أدنو من نفسي احتواني، ناشراً حرَّاسه ما بين قلبي ووجداني؟.."
هي الذات الشاعرة بجوهر الأمور، إنه يُدركُ وجود ثمة من يقترفُ الغاءه في كل مرةٍ يحاول فيها الوصولَ إلى يخضور الهاجسِ الذي يسكنه، وهاهو يتحدَّثُ عن الفراغ الذي يحتويه ـ مضموناً محاني ـ احتواني ـ هذا الفراغ الذي لا يشعرُ به إلا الموغل في عمق الحقائق بحثاً عن المطلق..في قصيدة " أكثر من امرأة" يقول شوقي:
" لم تكوني امرأةً، كنتِ انسجام الصوت في الضجة، والايقاع إذ يبزغُ في الضوضاء، حول المرهَقين..."
تلك العلاقة بين الصوت/الايقاع، الضجة/الضوضاء..كانت تعبيراً عن السكون الذي غطّى حواس غاباته، عن السكينة التي وشَّحتْ شطآنَ وجدانه المختلج بالرؤى الساكنة منها والحركية..يقول:
" في سريري أنتِ، أم ملىءَ رحابِ الكون، طوَّفتِ لتختاري خلاياكِ، وتبني جسداً من ورقِ الورد، وزهر الياسمين، وأنا الخاشعُ، أمتصُّ من الأطرافِ، ما يُسعِفني كي أرتقي نحو الينابيعِ،فلا أصبحُ كفؤاً إلا بعد حين...".
ـ أنتِ ـ يخاطبُ الروح التي يجهلُ مكان تواجدها لكنه يدركُ بأن لها ماهيتها الخاصة/ لِتختاري خلاياكِ ، وأن اللطافة والنقاء /ورق الورد،زهر الياسمين ، هما الشكل الذي اختارته لمقامها الأعلى..وكيف لايخشع أمام الروحانيات التي لن يصبحَ كفؤاً للإرتقاءِ إليها إلا بعد أن يختزلَ ينابيع الشفافية والعذوبة؟..إن جمالية التعرّي لدى شوقي قد جاوزتْ الابداع الشعري وصولاً إلى مطلقِه حين اشتركَ كلٌّ من ورق الورد وزهر الياسمين والكون ببناءِ معالم هذه الروح.. بهاءٌ لابدَّ وأن يترك منعكساته على الأبعاد الجوّانية للشاعرالذي هدفه ذروة التفاصيل...هل بقي من أبعادٍ ابداعيةٍ أبعدُ من تلكَ التي رسمها شوقي للوجود /الأنا المتوحِّدة في ذرَّاته؟..يقول:
" أعرفُ أنها على الطريق، أنها تسبقني دوماً، وأنها بالجسدِ الفذِّ الذي لها، تختصرُ الشِعر برنَّةٍ مفاجئةٍ، وتسبقُ الروحً بقفزةٍ نحوي، وأن تكون دائماً البادئة..". ـ 74 ـ
هي المخيلة لاشك..تلك التي تداهمه بشفافيتها ورشاقتها لتتوحَّدَ بمشاعره وأحاسيسه والرؤى بومضةٍ كالاشراقِ مباغتة..و يقولُ في موضع آخر:
" لم تكوني حلماً، كنتِ يقينَ الكف، إذ تلمس، والعين التي ترعشُ في الضوء".. ـ 38 ـ
هي بلاغةُ اللغةِ لدى شوقي ، والتي تعتمدُ جملةَ التكثيف والاختصار ما يجعلها تتماهى لتنسربَ مع الزمن في تجلياته، مع الحواس والضوء والصوت ، لقد انتقلَ من شعر الفلسفة إلى فلسفةِ الشعر بلا شك..وذلك يعودُ للانسجام المتبادل بينه وبين الاغراء/الصراع المدمِّر واللذيذ بنفس الوقت مما أدَّى إلى خلقِ دفقةٍ شعريةٍ/شعوريةٍ مكَّنته من تشكيل لوحته من مزيجٍ من المرئي و المحسوس، من المبصَر والمتخيَّل، من المدرَك واللامدرَك...يقولُ أيضاً:
" آهٍ..يا سيدةَ الحزنِ، وما أجمل الحزن الذي، جئتِ منه، آخر الهزَّات،في الأرضِ التي، خمدتْ،بعد مرور الزوبعة".. ـ 84 ـ
وكما اعتادَ شوقي أن يُطوِّحَ بنا في لجج اللحظةِ/الدفقةِ الشعرية، هاهو يُحدثُ في دواخلنا تلك الهزَّة ، هزَّةُ الحزن الذي يصيبُ المرء بعد تجاوزه مرحلةالصبا والعنفوان /خمدتْ، لكنه راضٍ بهذا الحزن ـ ماأجمل الحزن، فهو الذي موسقَ قصيدته بالسكون المتحرِّك والحركةِ الساكنة...ويتحدَّثُ عن الرحيل/الغسق الذي شبَّهه بقطار يُطلقُ آخر الصافرات/النداء معلناً اقتراب لحظةِ الرحيل/هروب الزمن...قائلاً:
" ها آخر الصافرات تعلنُ، للسهول الشاحبات وللفيافي،أنه وقت الغسق.." ـ 185 ـ
تلك الصورة المسطحة عن الزمن/الغسق، منحتِ الشاعر حريةً كبيرةً لتمثيل جوانب الحياة من /سهول شاحبة وفيافي..
ويحدِّثناعن الجمال قائلاً:
"عجِّلي..واسفحي كل هذا الجمال الخرافيِّ، في لحظةٍ خاطفةٍ..".
هي نبرته الشعرية التي تخطَّتْ حدودَ الخيال وشرعتْ ببناءِ جماليةٍ سرمديةٍ ..هو يُطالبُ المخيلة/الحبيبة بأن تريقَ ما لديها من بهاءٍ وجمال دفعةً واحدةً في لحظةٍ مباغتةٍ خرجتْ لتوِّها من أناه ..ويتابعُ معزوفةَ البوح العاري قائلاً:
" ما أكادُ ألامسُ عريكِ، حتى أذوب، فإذا استعنتُ بذاكرتي، فاجأتني الثقوب..".ـ 153 ـ
هذا الاشتباك الدائم بين الغيبية/حتى أذوب ، والحضور/ ذاكرتي، قد عمَّدَ قصيدته بل كل قصائده بالمطر الصاعدِ إلى ذرى التجلّي الأرقى للشعرية النازحة أبداً إلى مملكة الجمال و الخيال...هو يرصدُ لنا متاهةَ لحظةِ تلاشيه ما إن يلامسُ الجَّوانيّ بعدم اتعرَّى في خيالٍ قَصيٍّ تهاطلَ على غاباتِ الحواس..ويقولُ :
" ولماذا الخالقُ يخلقني، ماذا أحتاجُ لِيُرجِعني، أو لايكفي الغابة ما فيها، إن المنظر مكتملٌ، أكسرُ غصناً أو غصنيْن، لأدرأَ عني برد الليل، ولكن الشجرةَ قريباً،سوف تكسِرني..."
تساؤلاتٌ تنبعُ من نفسٍ قلقةٍ لديها رؤىً سريالية، إنه وبالسؤال يجيبُ عن هواجسَ العديد من الباحثين عن الحقيقة وراء هذا العالم الأرضي..لماذا ـ ماذا، ثم مفردة يخلقني# يُرجِعني تنبِّهنا إلى أمرٍ لربما غابَ عن الذهن لدى الغالبية ألا وهو/ لماذا أنا موجود؟..فالحياةُ لاشيءَ فيها جديد، تتكرر لوحاتها ومناظرها من مآسٍ وانكساراتٍ ووو.. هي الغابةُ والبقاء فيها للأقوى، ربما استطاعَ المرءُ أن يحتميَ أو يدرأَ عن نفسهِ الخطر بغصنٍ أو غصنيْن لكن الواقع أن الأقوى ـ الشجرة ـ وهي رمزٌ للغابةِ التي يتحدثُ عنها، بالتأكيد ستسحقه وتهزمه لأنه الانسان الانسانيُّ في الغابة ..
" لوكان مسموحاً لناري، لابتكرتُ حرائقاً أخرى، فأشعلتُ المحبةَ، مثلما الجسد النظيف يشعُّ، لا أثواب...لا أزياء، لا..لاشيء إلا العري مرتاحاً يضيءُ، فيستضيءُ به الظلام.."..ـ 132 ـ
لقد أراد الشاعر أن يوجدَ ثمة علاقة بين ناره والنار الكونية/المحبة المطلقة التي يعتبرها حطب النار الخالدة، حيث لا أقنعة..لا زيف..
هكذا في حالة عريٍ يشعُّ ليضيءَ الظلمة/الزيف والخداع والكذب ووو..المرتاح هي صفة العري التي استخدمها للدلالةِ إلى جماليةِ المحبة كمفهومٍ و يتابعُ معركة الأضداد قائلاً :
"كل شيءٍ يصيرُ إلى ضده، لو أردتِ، وإلا فمن أين هذا الجفاف، على شفتي؟.."
إن ربَّةَ الالهام الشعري حاضرةٌ دائماً وأبداً لممارسةِ طقوسها الغزلية/الشعرية من خصوبةٍ أو قحطٍ...إنها الخصوبةَ بكثافةِ دلالاتها وتشعبِ معانيها والتي يرمزإليها بالضد ـ من أين هذا الجفاف؟..
ويصفُ لنا في موضعٍ آخر مفهوم الغموض
فيقول:
"الغموض غموضكِ، كيف أفسِّرُ هذا العذاب اللذيذ، وذاكَ النعيم السخيف؟.."
أعقدُ أن الشاعرَ أوغلَ في سرادق الغموض الذي لم يفسِّره إلا بغموضٍ أكثر لكنه التفسير الأدق، فالغموضُ الذي يلهثُ البعض وراءه قد يسبب المتاعب والعذابات كونهم يرتادون المجهول والذي بدوره يصير معلوماً فيكون حينذاك النعيم السخيف ..
ويعزفُ الشاعر على إيقاع الحواس من جديد فيقول:
"أنتِ ملءُ الحواس، حديقة ورد، ونافورة من نجوم، ونهر حرير وسكَّرة العيد، والنغمة اللاهفة.."..ـ 161 ـ
التحمتْ هنا اجزاء الصورة بدلالاتها الملونة لتعطي دلالة وحيدة عن عاشق توحَّدَ مع الأنثى/الكون/الجمال/الخيال/الطبيعة/المطلق..." إنه انعكاس الشعور على الشعور، إحساس بالاحساس، وتأمل باطنيٌّ لما يجول في الذهن ...مبادىء علم النفس/د.يوسف مراد.."هذا ما جسَّدتْه رموز الشاعر شوقي ما أعطى انسجاماً وتماسكاً للصورة مع الحواس المدعومة بالحركة/ نهر،نافورة.. وبالصوت/نغمة..وباللون/حديقة ورد...إلخ..
ويتحدث في موضعٍ آخر عن جمالية الحوار ومصداقيته فيقول:
" مثلما نتنفس، مثل الحوار الحميم، تهبُّ القواميس من قبرها، فتدندنُ، سينٌ وصادٌ، وكافٌ وميم.." 197ـ
ويكشفُ لنا جدوى الحوار وجماليته حين يكون حميماً،فالحروف الدفينة في قواميس اللغة تنهضُ حينذاك من رقادها لتبدأَ سِفرَ الغناء الأجمل/تدندنُ..إنه مع الحياة المبنية على الحوار/نتنفس الحوار، ويبدو أن ثمة صراع بينه وبين الصورة الحركية التي شكلها من السكون الساكن/قبرها،وصولاً إلى الحركة المتحركة/تدندن، وأخيرأً..فقد أعطى الشاعر شوقي حرية الحركة في المشاعر التي امتلكتْ حكمة الفلسفة وجنون الشعر وهواجس الروح...إنه بذلك يفتحُ الاحتمالات على عالمٍ بلا حواجز،تسوده الحرية،الحب، الشعر والموسيقا..كذلك فقد كانت الصورة لديه من النوع الطولي الممتد إلى الأمام معتمدةً الحركة الزمانية ما أعطاها الامتلاء والحيوية..ومن أبرز خصوصيات هذا النوع من الصور أنه يمثِّلُ أزمنةَ الماضي والحاضر والغد بالإضافة إلى الشخصية المحورية/الذات الشعرية التي جابتْ أرجاء الوجع الكوني عبر مدارات المجهول والغامض من الرؤى الرمزية... وأضيف بأن هذه الصورة تنتهي بخاتمةٍ منطقيةٍ طبيعيةٍ لتُنهي الشخصية/المحور إلى إما الضياع أو الأمل والتفاؤل الذي لمسناه في قصائد المجموعة .. ومن الطبيعي أن تحمل تلك الشخصية/المحور قلقاً واضطراباً نفسياً دليل الصراع مابين الزمان المتشظي بلحظاته والحاضر ذو الامتداد إلى الماضي، والمستقبل الذي كشفته الرؤى والصور..حقاً لقد فلسفَ شوقي جزئيات الأمور ليصيغَ منها أفقاً ممتداً في عمق الصوت واللون والحركة في الأنا لدى المتلقي ..

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية