الحلم المزدوج رواية للقاصة الفلسطينية دينا سليم يتصل فيها الواقع بالخيال، وترتبك فيها المكان في مواجهة الزمان، وتتحرك شخوصها في إطارٍ من الوهم والتخيُّل والتخاطر المتواصل، فهي لذلك لا تخلو من الرمز إنْ لم أقلْ تغرقُ فيه، ولكنها لا تبتعد كثيراً عن ملامسة الواقع على نحوٍ تقصد الروائية إليه بعمديتها ووعيها الحكائي.
يبدو المكان في "الحلم المزدوج" ذا أبعاد مختلفة، ومع ذلك يرتبط، كما ينبغي، ارتباطاً وثيقاً بالزمان الذي هو مثل المكان في تلونه واختلافاته ويمتد في هذه الرواية من ولادة بطلها "صارم" إلى ما بعد سقوط النظام العراقي ودخول قوات التحالف في العراق (العام 2003 تحديداً)، ويتحرك الفعل فيه من خلال الاسترجاع (فلاش باك) الذي تستخدمه الروائية كثيراً في تحديد مسار الخط الدرامي في روايتها، وكلا الزمان والمكان يشكلان بُعدَينِ نفسانيين عميقَي التأثير في سير أحداث الرواية وفي تشكيل ملامح شخوصها.
إنَّ بغداد هي بؤرة المكان هنا ومسرح الأحداث، ولكن هذا المكان يتشكَّل بين يدي الروائية على نحوٍ مختلفٍ قليلاً من ناحية، ويتفاعل مع أمكنة أخرى ليشكل بدوره المكان الفني الدرامي الذي تحاول الروائية خلقه خارج المكان الحقيقي وانطلاقاً منه من ناحية ثانية، فالبطل يتحرك من مكانه في مدينة ساحلية كبيرة في قبرص، وهو موطن هربه، ولكن الأحداث التي ترتبط به يدور أغلبها في بغداد التي هي حلم عودة البطل إلى وطنه، أما تلك المدينة الساحلية فما هي إلاّ حلقة وصل بين بغداد قبل الهرب وبغداد بعد العودة، ولكنها حلقة مهمة جداً في صياغة الأحداث بوصفها مكان انطلاق السرد حول البطل أو من خلاله.
وقد نجحتْ دينا سليم في تشكيل الملامح الداخلية للمكان إلى حد بعيد ليؤدي ذلك إلى الكشف عن دواخل شخوص الرواية واستبطانها والوقوف على أبعادها النفسية، وهي ملامح لا علاقة لها بالمكان الخارجي من حيث هو واقع، بل يكون للقاص أو الروائي الحرية المطلقة في التصرف بها والتعامل معها لتتفق وما للشخوص من نوازع وهواجس وأفكار وظروف محيطة وأبعاد نفسانية أخرى، ومثال ذلك وصف مسكن البطل صارم في الغربة، ومسكنه ومسكن زوجته وابنتيه في العراق، وزنزانته، وجبهات القتال، وعودته إلى الوطن بالدراجة الهوائية والأماكن الخاصة وملامحها ذات الخصوصية الشديدة التي يتحرك خلالها أولئك الشخوص، أو تدور فيها الأحداث بعض الأحداث.
غير أنَّ تشكيل العناصر الخارجية للمكان يبدو مضطرباً بعض الشيء في الرواية، ولا يخدم دائماً الرؤية الدرامية فيها، فنهر الفرات ليس النهر الذي تحتضنه بغداد ملعب طفولة البطل كما تقرر الرواية: "اشتد عود صارم وراح كل صباح يحشر جسده بدشداشته البيضاء، يخطو نحو الفرات، حتى إذا وصل ضفتيه يقوم بخلعها...." (ص16)، والباشق ليس من الطيور المألوفة في بغداد ولا بالقرب من ضفاف النهر، فهو من فصيلة الجوارح، ولا يصح تشبيه الولد وهو يلعب به: "يلهو ويلعب كباشق" (ص16)، ولعلَّ الروائية أرادتْ تعميق الدلالة على عراقية المكان بالإشارة إلى رواية "الباشق" للروائي العراقي عبد الخالق الركابي، كما أن نَـهرَيْ دجلة والفرات لا يجتمعان في بغداد : " سيركض في شوارع بغداد يشم عبقها، يشرب الشراب من شوقها. أيطأ مسجد الحي؟ أيجلس في مقهى أم كلثوم، أيتجول على ضفة النهرين، يسبح في مائهما، أم ينطلق بين الزحام" (ص89). ومثل ذلك يُقال عن بائع عرق السوس الذي لم يعد له وجود في بغداد منذ زمنٍ سبق زمن الرواية: " بحثَ عن بائع عرق السوس، أين يكون؟ ما زالت أصداء كؤوسه تبهره..." (ص107).
ولو عمَّقتْ الكاتبة من معلوماتها بشأن أجواء هذه الرواية ومِن إحاطتها بها وبتفصيلاتها الدقيقة لتفادتْ الوقوع في مثل هذا الارتباك الذي أبعدَ الكاتبة عن خلق مكانٍ فنّي متخيَّل يخدمها بوصفه عنصراً بنائياً مهماً فيها ينضاف إلى الواقع، ومنعَها من رسم عالمٍ روائي جديد يُزيحُ جزءاً من المكان الحقيقي، ويشكل أبعاداً جديدةً له، في مقابل تحديدٍ واضح لمكان أحداث الرواية وتسميته (بغداد). إنَّ دينا سليم في روايتها هذه تكتب عن مكان لا تعيش فيه، وربما لم تره، ولكنَّ هذا لا يُعفيها من توخِّي الدقة في تقنية رسم ملامحه ليقودها إلى تشكيل رؤية فاعلة للبعد الدرامي مقيساً بالزمان اللغوي المرتبط بحركة الفعل وتمطّيه على المكان الذي دارتْ فيه أحداث هذه الرواية وتعمدتْ هي أن تسجِّله، على الرغم من اكتساب هذا المكان قيمة شعورية عالية لدى البطل من حيث ارتباطه بعاطفته ارتباطاً قوياً، ولذلك فقد اعتورت الرواية بعض الإخفاقات في صياغة البعد الزمكاني للرواية.
ومع تلك الإخفاقات الطفيفة في رسم صورة دقيقة للمكان فإن دينا سليم تحاول جاهدةً رسم ملامحه الحقيقية لتضفي الكثير من الواقعية على أحداث الرواية، وتعلن عن معرفتها بذلك المكان، من خلال ذكرها لجزئياته ورموزه، مثل الدشداشة (ص16) والكوفية والتنّور (ص 20) والدنانير (ص 38) ومثل نهر دجلة ومقهى أم كلثوم في شارع الرشيد المشهور في بغداد (ص89) وساحة الميدان (ص107) ومحمد القبانجي مطرب المقام العراقي المعروف (ص139).
تعتمد الروائية في حَكيها على أسلوب الراوي العليم بشكل أساسي، ولكنها تعوّل كثيراً على الحوارين الخارجي والداخلي على مدار الرواية لتستبطن من خلالهما نفسيات شخوصها وتعمق الإحاطة بدواخلها وتعطيهم مساحة أوسع للبوح بمكنوناتها، حتى ليقترب ذلك عندها من أسلوب تيار الوعي في استخدامها للحوار الداخلي تحديداً، فيكون عملها مرتكزاً على الجمع بين أسلوبين لا أسلوب واحد، بل يمتزج هذان الأسلوبان في بعضيهما أحياناً:
-"كيف لي إحصاء الجثث بينما تحولتْ كلها بحجم الحصاة"؟
أيّ ذنبٍ اقترفته كل تلك الأذرع المبتورة، أي خطأ عويص لم يمهل كل تلك الأقدام من البتر، لقد تغيرتْ جميع الأمور، لا يدري، يقدس الإنسان فيها أم تدنّسه؟ لحظات وقفة مع النفس والروح، أو ربما مع النفس فقط بفقدان الروح، ماذا ستسمى الآن، كلمة إنسان؟ لا تليق بالنقصان أو الانفصال. الآن أدرك فقط لمَ لا تأخذ البشرية لها إلهاً بشرياً، الآلهة أكبر من كل هزيمة، أعظم من كل فجيعة، لا ينقصها أبداً أي عضو إذا كان لها أعضاء، ولا أي روح إذا كانت لها من أرواح.
-"لماذا تتعقّبني يا هذا"؟
-"أريد معرفة طريق مسلكك، إلى أين تذهب"؟
-"ما أدراك بأني ذاهب، إني لم أعد رجل المذاهب، أعتقت حتى ديني في هذه الحياة".
تعقبه الرجل حتى الخيمة....) (ص22)
وهي تمزج حتى بين ذينك الحوارين وأساليبهما:
-"لقد فقدتُ دميتي أبي، الدمية التي أحب".
-"سآتي لك غداً بجديدة يا حبيبتي"..
فترسم الخُطيط الخاص بجملة الحوار، وتثنّي بأقواس التنصيص عندما لا يحتاج الديالوج إلى سوى الخُطيط، وهي تفعل ذلك مع المينيلوج وهو لا يحتاج أكثر من التنصيص:
( تراكض حلم العودة على شريط من ذهب. شريط الماضي للمعاناة، الجوع والقهر، أصبح جاهزاً لالتقاط صور الحاضر والمستقبل:
- "إني لا أصدّق ما أسمع".
- "ترى هل ما زالت والدتي تنتظرني، كيف أقول لها إني ما زلتُ حياً أرزق"؟
- "كيف الطريق إلى بغداد ومتى"؟ )
ثمة شيء آخر يتعلق بشكل هذه الرواية، وهو عدد فصولها الذي بلغ ثمانية وثلاثين فصلاً توزع على مائةٍ وتسعٍ وخمسين صحيفةً فقط بحجمٍ متوسط، ويتـضاءل حجم الفصل الواحد ليصل إلى صحيفة ونصف (ص 28و29)، فبدتْ الرواية عبارة عن لقطاتٍ مفككة ينبغي على القارئ ترتيبها، وهذا شيء حسنٌ لو يكون في خدمة العمل الروائي، فهل كان الأمر كذلك؟. إنَّ المبالغة في التقطيع ليست ضرورية دائماً، إذْ قد تجر إلى التشويش وانعدام وحدة الحكاية، ولكنها تدل، من ناحية أخرى، على قدرة الروائي على تفصيلها ثمَّ تجميع خيوطها ونسجها في منوالٍ واحد في نهاية الأمر وإظهارها بالشكل الذي يريده هو، كما (قد) تؤدي، أي المبالغة في التقطيع، إلى إثراء عنصر التشويق لدى القارئ، إذا أحسنَ الروائي استغلالَها وعمد إليه.
حاولت الكاتبة أن تُـثري تقنيات السرد باللجوء إلى الإفادة من المعادل الموضوعي في خلق عالمٍ يجمع بين خيالٍ حاضر وواقعٍ ماض، في مواضع متعددة من هذه الرواية، ومن خلال هذه التقنية ترسم دينا سليم صورتين متحركتين تقابل إحداهما الأخرى، وتصبح ظلاً لها، من خلال الاسترجاع الزمني، فعندما يرمي "صارم" الحجارة على البحر في الغربة تقفز صورة رميه للحجارة في نهر دجلة أيام طفولته الشقية:
(يتلذذ بقذف الحجارة داخل البحر الهادئ مكرراً بهذه الحركة أيام الشقاوة:
-"صارم، يا بني، ستملأ النهر حجارة وتأخذ مكان الأسماك إذا لم تكفّ عن ذلك...". (ص142-143)
وتتكرر مثل هذه الصور المتقابلة في هذه الرواية لتحتفل بالمزج بين الواقع والمتخيَّل لإحضار الماضي، كما تتكرر حالة التوقُّع والتخاطر لإحضار المستقبل.
وإذا كنتُ غير حريص على الغوص في عمل الروائية دينا سليم في تشخيص البعد الأيديولوجي لشخوص الرواية في هذا المقال، لحاجة ذلك إلى مقال آخر خاص به، فلا أستبعد هنا الإشارة المجردة إلى اعتنائها بهذا الشأن، ولكنني لم أرضَ لها أن تقع تحت تأثير رواية كازانتزاكي "زوربا اليوناني" تأثيراً شديداً فتستعير بعض ملامح شخصية بطلها "زوربا" لبطل روايتها "صارم" وشخوص آخرين، ومن ملامحهِ تلك رؤيتُـهُ الأشياءَ المعتادةَ لأول مرة (!):
-"ما أعظم الكون، كأني أرى البحر لأول مرة".(ص23)
ومنها تعبيره عن المشاعر بالرقص وفلسفته له: "يا لغرابة الكون، مآسي الحياة وفظاظة الأقدار، كلّ رقصة تخصص لاثنين، إلا هي لها رقصتها الوحيدة مرغمة..." (ص25).
-"هنا تبدئين رقصتك الجديدة، ينتظرك ملهم بفارغ الصبر..." (ص34).
(تحقق الحلم أخيراً؟ أم هي مكيدة أخرى تتربصها (تتربص بها)؟ تعبت من دور الضحية الدائمة، أي رقصة تنتظرها الآن؟) (ص39).
(رؤاها تحتل العالم، تعكس نظراتها، تراقب، تشرف بشغف نحو بطل رقصتها، كانت بداية الرقص على الجمر.) (ص40).
(لن يتوقف زوربا عن الرقص بسببها) (ص46)ز
(أرقص مثل زوربا...) (ص65).
-"الرقص لا يكتمل إلا باثنين". (ص120).
(حب الاكتشاف كالرقص تماماً) (ص129).
(والرقص وليد الجرأة) (ص120)
كما لا أستبعد الأبعاد الإيديولوجية والمواقف التي سجلتها دينا سليم من النفس والحياة والموت والكون والفن والمجتمع والحب والواقع والسياسة والدين والمبادئ والحرب والوطن والسلطة والاضطهاد، من خلال السرد أو بوح الشخوص، وأغلب ذلك تحمَّله "صارم" الذي يتلوَّن وتتعدد مواهبه في شيء من التعقيد، كما مرت الإشارة إلى ذلك، ليكون شاعراً أو ممثلاً أو رسّاماً أو سياسياً أو محارباً أو..... لاعب كرة قدم!.
أما بعد فإنَّ "الحلم المزدوج" رواية عراقية كُتبتْ بقلمٍ فلسطيني (!)، وقد صدرتْ طبعتها الثانية عن دار العودة ببيروت العام 2004.