قراءة في المجموعة القصصية "انتحالات عائلة" للقاص العراقي عبد الهادي سعدون
"انتحالات عائلة" هو عنوان المجموعة القصصية الجديدة للقاص عبد الهادي سعدون التي صدرتْ عن دارَيْ "أزمنة" و"ألواح" للنشر والتوزيع، وقد ضمت المجموعة تسع قصص.
عمد القاص على جعل قصته "حراكة"، في مطلع قصص المجموعة، وهي قصة أُناسٍ يبتكرون حكايات لهم تكون سبباً مُقنعاً للهرب من أوطانهم، وبطله-هو يُحاول أن "يبتكر" أيضاً حكايته، وبما أن الحكاية من نسج الخيال وحسب، فقد أطلق القاص العنان لخياله الخصب لينسج حكايته المفتعلة فتكون سبباً لوجوده في عالمٍ آخر. وما هذا العالم الآخر إلاّ نقيض للعالم الذي كان يعيش فيه، أو الذي يريد أن يتخلص منه الآن. ولكنَّ هذا اللجوء المرتجَى إلى العالم النقيض لم يتحقق، وما زال بطل القصة الذي اختاره القاص لضميره الشخصي "أنا"، ينتظر مع آخرين مثله نزَّاعين إلى الحرية من العالم –الواقع الحاضر السيِّئ إلى العالم-الواقع الأفضل... إنهم جميعاً ينتظرون الإشارة.. الإشارة إلى الانطلاق.
أما قصة "تزوير"، فهي قصته هو أيضاً، وهو هذه المرة شخص بلا ملامح وطنية، وبلا انتساب حقيقي، لا يدري مَنْ هو بالضبط بحكم عمله وارتباطه بعصابة تهريب دولية تعمل على الحدود وفي ظروفٍ بيئيةٍ وزمكانية هي غاية في الصعوبة في إطارٍ من التمويه والإستتار والتزوير، فلا يدري كما يبدو مِن سياقات الأحداث أي اسمٍ هو اسمه، لكثرة ما يُنتَحَلُ لهُ مِن الأسماء بوصفه أداةً بيد تلك العصابة، ثم لا يدري حتَّى في أيِّ أرضٍ هو الآن، لكثرة الأراضي التي يمر بها ويؤدي عمله في شعابها دون أنْ يحدِّدَ ملامحها، أو يُميِّزَ لغتَها طالما أنَّ الإشارة وحدها تكفيه للتعبير عما يُريده، أو لفهمِ ما يُراد منه، وبالجملة فهو ليس هو دائماً، ويصطلح على هذا الضياع بـالـ"هُنا" مقابل الكينونة الأولى الـ"هُناك".
ولعبة الأسماء هذه تنتهي عند اسم القاص الحقيقي "عبد الهادي" الذي هو أيضاً مُنتَحَل كما يقول البطل في بادئ الأمر لأنَّـ"هم" هم الذين أسبغوه عليه، أو لنقُلْ نحلوه إياه، و"هم" هنا تعني مُرشده الجديد الذي يَتعاملُ معه مباشرةً الذي ربما يعني هو الآخر شيئاً يقصده القاص ولا ينص عليه: الوطن.. الأهل.. التراث.. العادات .. التقاليد، فهو لم يختر اسمه، كما تنتهي تجربة التقدم باتجاه الـ"هناك" بوساطة فحولة قدميه، وهذا تعبيره هو، ويبدأ أخيراً رحلة العودة إلى ما سميناه قبل قليل "الكينونة الأولى"، بعد أنْ وصلَ إلى آخر محطاته،وهي هنا إسبانيا، ويُستدَلُّ على ذلك من خلال إشارته إلى محاولة ترجمته "محروق إصبعه"، وهو واحد من أسمائه المنتحلة، إلى الإسبانية ويذكرها بنصها الإسباني في القصة (ص30). ولكنْ هل رجع َ البطل إلى الكينونة الأولى حقاً؟. إنها أول القصص وأول أشكال الضياع.
ويعبر القاص عن ضياعٍ آخر كابده بطلُهُ- ظِلُّهُ في قصته "العنعنة" التي يبحثُ فيها البطل عن إرثٍ ضائعٍ بضياع النسب، أو التخلّي عن إرثِ مشحونٍ بِـهَـمِّ يُفكر فيه هو، ويتناقلهُ جيلٌ عن جيلٍ، وهذا مفهوم العنعنة في هذه القصة، كما أرى، يسكبهُ القاص في تهويماتٍ غريبةٍ معقدةٍ جداً في أقل من أربع صفحات.
وشيء من هذا الضياع نلمحُهُ في قصته "العاصور"، حيث يرفضُ بطل القصة وهو أنا القاص نفسه الواقعَ الذي يعيشه في إسبانيا بكل جزئياته، من خلال إشارته إلى عمله عاصراً للبرتقال في أحد المطاعم الإسبانية، وتأكيده بشكل مستمر أنَّ البطل غير قادرٍ على تعرف المكان الذي يعمل فيه، والفندق الذي يسكن فيه، والشوارع التي يمر بها، بسبب نسيانه وعدم تركيزه... إنه نسيانٌ مفتعل... يفتعله لاوعي البطل-القاص، والمكان الوحيد الذي استطاع أخيراً معرفته هو الرصيف الذي كان يجب أنْ يكون مصيراً له، وقد كان، بسبب إهماله في العمل وعدم تركيزه ذاك، وما ذاك الإهمال إلاّ إهمال مقصود يُسوِّغُهُ عدم انسجام البطل وواقعه الذي يحياه، مع حاجته الماسة للعمل لضرورة العيش، وما الرصيف الذي آلَ مصيره إليه إلاّ الضياع بعينه.
أما البطل في قصته "ماذا يمكن أنْ أكون غير مورو"، فهو بائع جوّال أو متحرك على الأرصفة في وسط العاصمة الإسبانية مدريد، وهذه صورة لِعدم الثبات والحاجة القصوى للاستقرار الذي هو المضاد الحاد للضياع، فالبطل ضائع بين "بسطته" في شوارع المدينة أو على أرصفتها، والشرطة الذين يُقاسمونه ما يحصل من نقود، والسيّاح الذين يفتقدهم أحياناً ولا يستطيع العيش بدونهم، ثم لا يجد مهرباً من هذا الضياع إلاَّ بالنوم الطويل.
أما في قصته "مصارعات ثيران" فإنَّ القاص يُحاول، من خلال كابوسٍ يتعلق بقصة لجوء بما تحمل من تداعيات، أنْ يؤكد حقيقة أنَّ إسبانيا وهو بلد يعيش فيه الآن (ساعة كتابة هذه القصة) ليس له ما يفخر به سوى هذه اللعبة الوحشية.. لعبة مصارعة الثيران، ولو لم تكن فيه للثيران مصارعة لما بقيتْ له قيمة تُذكر. إنَّ هذا النقد اللاذع لإسبانيا في تجريدها من أي شيء تفخر به، هذا التجريد الذي هو، كما ينبغي، ضياع لإسبانيا، ولكنه في الواقع ليس إلاَّ لون آخر من ألوان الضياع لدى أنا القاص، نَسَبَهُ في لاوعيهِ إلى البلد الذي يعيش فيه بدلاً من نسبتِهِ إليه هو.. إلى أناه، كما نسبَ الإخفاق في تجربة الجوهري في محاولته الطيران إلى هذا الأنا، فبدلاً من الصعود إلى أعلى كان الهبوط إلى أسفل، فيتكرر ضياع آخر في قصته "طيران بالمقلوب".
هذا هو تبسيطٌ مُخِلٌّ لأغلب قصص هذه المجموعة، وقد آثرتُ الكلامَ عليها والإخلالَ بها جميعاً وجمعتُها في سلكٍ واحدٍ لما انطوت عليه من وحدة الموضوع، وان اختلفت المعالجات والأساليب والأجواء. وأقول تبسيطٌ مخلّ لأنَّ هذه القصص لا تملك من البساطة شيئاً، وليس تأتِّيها من الأمور المتاحة للقارئ العادي، فهي وبقية القصص صعبة المراس، تنحو منحىً غير عاديِّ وغير سلسٍ، فيها كثير من الفنتازيا المتحركة، وفيها الكثير من العوالم المتشابكة. ولذلك فإن القاص يجبر قارئه على قراءة قصته أكثر من مرة واحدة، فالقراءة الأولى لا تكفي لكي يسبر القارئ أغوار عالمه المعقد، وقد بدا هذا العالم، بشكل خاص، في قصته "انتحالات عائلة" التي انتحلَ هو أيضاً عنوانها للمجموعة كلها. ولكنه مهما عقَّدَ فإنه يبدو قادراً على احتواء هذه التعقيدات والسيطرة عليها وتنميتها حتى آخر القصة دون أن يفلت من بين أنامله خيط من خيوطها، مستفيداً أقصى الاستفادة من تقنية تيار الوعي التي يبدو صوته من خلالها متداخلاً تداخلاً تاماً مع أصوات شخوصه، كما يبدو شديد السيطرة عليها من خلال وعيه النفسي بها، وهذه غاية في الحرفية التي يتمتع بها عبد الهادي سعدون في فنه القصصي. إنه يحاول أن يرسمَ للعالم الذي يراه الآخرون شكلاً آخر يراهُ هو، على أنَّ ما يراهُ مختلفٌ تماماً عما يراه الآخرون، ومن هنا تأتي خصوصيته قاصَّاً.
وعالم عبد الهادي سعدون، بعد ذلك، عالم سلبيٌّ سلبيةً تتجاوبُ والواقع الذي يعيشه ويشاركه فيه المواطن العراقي بشكلٍ خاص ولا يُستثنَى منه المواطن العربي عموماً في أحسن الأحوال، فكل شيء عندهُ مُنـتَحَل، وكل شيء عنده يسير بالمقلوب، ومركب تركيباً درامياً غريباً، فهو يحاول عن عمدٍ أو غير عمد أن يُوقع القارئ في ضلال الشخصيات التي يرسم ملامحها، أو في متاهاتها، لأنها، في الأغلب، شخصيات متحركة، فضفاضة الحدود، كما يُوقعه في ضلال الزمان والمكان، فهما عند عبد الهادي سعدون عنصران لا يتسمان بالثبات أو الوضوح، ومن هنا فهما غير حقيقيين، وكلاهما متشابك ومنسجم مع شكل الفنتازيا الذي يلجأ إليه في قَصِّهِ، ولا أقول الكوابيس التي يرويها!، كما يتجلَّى ذلك في قصته "طيران بالمقلوب"، فأين بغداد والقشلة على حافة نهر دجلة وجَدِّهِ من استانبول ومتحفها والباشا؟، وأين الجوهري المتوفَّى قبل نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) من مسرحية حديثة اسمها "الأشجار تموت واقفةً"، وخطط مخبري أجاثا كريستي"؟، وأين طيران الجوهري بجناحين من الخشب آنذاك مِن طيرانه هو بطائرة حديد (حديثة طبعاً)، وهو عندما يذكر ما يقوله جيرانه عنه:"مسكين هذا المورو" فإنما يُشير إلى مكان آخر وهو يروي قصته، وهذا المكان هو إسبانيا، لأن كلمة مورو يُطلقها الإسبان على الشخص المسلم، دون أن يعبأ بمعرفة القارئ لمعناها أو عدمه، فهو في حالة إغماءٍ أو لاوعي.
والراوي يتلبس، منذ البدء، شخص الجوهري الذي حاول الطيران متأبِّطاً جناحين من خشب، فسقطَ فمات، ولكنَّ الراوي البطل- عبد الهادي هنا مستمر في السقوط، ولم يصل إلى الأرض بعد .. إلى الخلاص، لأنَّ الريح "ريحٌ عاطلة. ريح شاسعة ولا نهاية لها".
وهو بـَـعدُ قاصٌّ ذو خيال شديد الخصوبة، فهو لا يدع تفصيلةً مهما صغرتْ تفلت من بيت أنامله دون أن يوشحها بشيء من هذا الخيال الخصب وقبل أن يُلقيها في جوف قصته، ويمكن أن تكون قصته "انتحالات عائلة" النموذج المثال لهذا، وقد يتفنن في استخدام هذا الخيال فيكتب على طريقة بعض الشعراء المحدثين، حيث اختلاط أسلوب السرد القصصي باستخدام الاستعارات البلاغية واللغوية والذهنية،والتشبيهات الغريبة، والتعابير التي قد تُفاجئ القاري بما لا يتوقَّع، في شيء من التركيز أحياناً والتعقيد أحياناً أخرى. أنظر إلى قوله: "يوقظني الصباح بعد أن يصفعني بلوحٍ من غليظ شددته برافعةٍ من حبلٍ كنتُ قد أوصلتُ عقدته بعقارب ساعة الفجر"، وإلى قوله:"الدفء الذي لم ينجُ أعمامي من محنة لحية الجد المتطاولة كل يومٍ بمقدار شبر كطابوقة ذراعه وهي تصفقهم"، وإلى قوله:"فتستحيل العتبات في جسدي زاويةً للإتكاء الذي يمليه توجُّسي، مخافة أن يسترق النظر أحد منهم فأُعاقَب يومي بالدوران بلا وجهةٍ في الشوارع المحتملة لكيِّ باطن القدمين"، وهو يشترك وإيّاهم في الفنتازيا التي نسبناها إليه قبل قليل.
وهو بعد ذلك لا يدع النص ينساب كما هو في أول طلعته، دون أن يعمل فيه سحره. فهو لا يكتب ، بل ينحتُ.. ينحتُ الكلمات والتعابير والأفكار نحتاً، ولذلك فهو من القلة الذين يكتبون بصعوبة بالغة، استناداً إلى أسلوبه القصصي وأجوائه التي يُحلق فيها. ولهذا كله نجده يبتعد تماماً عن كتابة القصص التي تُقرأ مرة واحدة وبسرعة ثم سرعان ما تُرمَى وكأنها وجبة طعام خفيفة كتلك التي تقدمها المقاصف التي اختنقتْ بها شوارع المدن الأوربية للمستعجلين من روَّادها!، وما ذاك إلاَّ لأنه قاص نضجتْ إلى حد كبير تجربته القصصية، وهذا ما يُحسُّه قارئه كلما توغَّلَ في قراءته.
وعبد الهادي سعدون لا ينفكُّ يستشهد بأسماء ورموز ثقافية وفنية وشعبية وسياسية مشهورة عراقية وعربية وأجنبية، أو يحشرها أحياناً حشراً في قصته، فتأتي على شكل كتاب كـ "انتحالات عائلة" لمجهول و"الصحاح" للجوهري، و"فصول من تاريخ الإسلام السياسي" لحسن العلوي، أو أشخاص حقيقيين أو اسطوريين أو خياليين مثل الحسن البصري والنفزاوي وكلكامش و برودسكي و الحجاج بن يوسف الثقفي وداخل حسن المطرب العراقي الشعبي وحسين فهمي وعبد الحليم حافظ وريميديوس وغادة السمان ومنعم فرات ومحمد الماغوط وبدر شاكر السياب وإيزابيل الليندي وفريد الأطرش وسعاد حسني وحجي زبالة وجبار أبي الشربت وابن ضعيفة في الفضل وأبي نواس وحرامي بغداد وعلاء الدين وفرانكو وحسين البصري المغني والإله نبتون وبارعة الجمال ثبليس وسبيلبيرغ وكوبريك ونبتونو والراهب ثسنيروس وسيدي حامد بن الجلبي، وحتى سعدي الحلي وهو مطرب شعبي أصبح شخصية شبه أسطورية تُنسج حولها حكايات الشذوذ الجنسي، وذلك من خلال ذكره كلمة "سعديون" نسبةً إلى اسمه الأول "سعدي"، وإشارته إلى واحدة من الحكايات التي تُنسجُ حوله، وتُنسَبُ إليه، وغيره وغيرهم.
كل هذه الأسماء يجدها القارئ في هذه المجموعة من القصص التسع، فإلى أي مدى استطاعت هذه الأسماء كلها أن تخدم الحدث الدرامي وأن تُنمِّـيه فعلاً؟، وماذا أراد القاص أن يقوله من خلال هذا الحشد من الأسماء، وكل اسمٍ له تاريخ وحكاية؟ هل أراد أن يُشعر قارئه بمدى ما يتمتع به هو من المعارف والمعلومات في المجالات المختلفة، أم أراد أن يسبغ على قصصه شيئاً من التلوين والتنويع وأن ينأى بها من عالم الغموض والتعقيد والفنتازيا والرتابة ولو إلى حينٍ لا يتجاوز اللحظات من عمر القصة، أم أراد أن يُغني موضوعاتها ويوضح مقاصدها، وهذا ما يجب أن يكون، من خلال هذه الرموز والأسماء، أم أراد أن يدعو القارئ إلى أن يرتفع إلى مستوى ثقافته فيبحث عما يعنيه كل ذلك حتى يتسنَّى له فَهْمُ وجودها في هذه القصص؟. إنَّ على كلٍّ من هذه الأسماء والرموز أن لا يكون وجوده اعتباطياً في الحدث، كما أن على القاص أن يتحمل مسؤولية ضيوفه الذين يؤويهم في قصصه!.
ومن هذه الأسماء شخوص اعتنى بهم عبد الهادي غاية الاعتناء وأحسن وفادتهم، بل انتمى إليهم انتماءً دموياً مباشراً على الرغم من ابتعادهم عنه زمكانياً، فـ"صاحبة اليد الرقيقة" التي تُعيد قُذالة شعره إلى مكانها هي زوجته، و"جوقة أولاد مليئون بالحكايات" هم أولاده، والجوهري صاحب كتاب الصحاح هو عمُّه،، ومنعم فرات ذلك المثّال الفنان الفطري المبدع هو خالُهُ، وآخرون هم إخوانه وأعمامه، ولا ريب فهو في حالة انتحالٍ دائم، وهذه الرموز كلها هي أفراد عائلته.. عائلته المنتحلة.
وما بقي من هذه المجموعة قصتان تبتعدان عن مسار بقية القصص من حيث الموضوع قليلاً والزمكانية كثيراً على تفاوتٍ فيهما، ، أولاهما قصة "ونين" التي يستوحيها القاص من الأنين الدائم عبر مجالس العزاء النسوية التي تُقام في العراق في المناسبات الدينية، ويبدو أنها في بيئة القاص الشيعية تُقام بمناسبة وفاة السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه التي حضرتْ مع أخيها الحسين وقعة كربلاء، وحُملتْ مع السبايا إلى الكوفة. وكعادته يغلف القاص قصته هذه بإطارٍ من الغموض والتعقيد العجيب، ويجعل من أخته
محركاً للحزن واللطم والبكاء والأنين من خلال دورانها على تلك المجالس، بوصفها نَدّابةً تقرأ على النسوة المجتمعات في كل مجلسٍ ترتاده الكتيبات التي تقص ماجريات الأحداث الخاصة بالمناسبة على شكل أشعارٍ وأشكال تعبيرية أخرى، وقد حلَّتْ في ذلك محل أمها –أمه التي أوكلتْ إليها هذه المهمة، بينما لجأتْ هي إلى الأنين على أغنيات المطرب الريفي العراقي المشهور داخل حسن... تلك الأغنيات المملوءة بالأنين تسميةً ووصفاً.
أما بطل القصة وهو أنا القاص كالمعتاد، فيرافق أخته ليعينها على حمل عدة العمل-تلك الكتيبات مع شيء من الدارسيني (القرفة)، بوصفه أخاها الصغير، ولكنَّ هذا الأخ الصغير لم يكن يبدي شكوىً أو تذمراً من هذه المرافقة المستمرة، كما يبدو من مسار القصة، وكأنه قد استعذبَ الأنين، هو الآخر، من خلال تلقيه له في العزاءات التي تدور على بيوت المنطقة، وربما كانت الأصوات النسوية الحزينة الشجية تؤثر في نفسه وتهزُّ فيها مشاعر لم يكن يدري حينذاك ما كنهها!.
ويتخذ القاص من تسجيلات أغنيات داخل حسن الغارقة بمعاني الألم والأنين والحسرة، وأمه الغارقة في سماعها محوراً أساسياً، مع ذلك، لموضوع الألم الذي يغلف نفس المرأة-العائلة العراقية، وهو الألم الذي صار صنواً للحياة، ملازماً لها تلازماً تاماً أبدياً، ويعبر القاص عن هذا التلازم باختفاء أمه عن الحياة في الوقت الذي تمَّ التخلص فيه من تلك التسجيلات التي لم يقصدها القاص لذاتها وإنما لمعاني الأنين التي تتضمنها.
وقد استخدم القاص، وقد أحسن في ذلك، كلمة الأنين باللفظ العراقي لها منذ عنوان القصة استخداماً مقصوداً، وذلك بقلب الهمزة واواً على لهجة العامة من العراقيين اعتماداً منهم على استخدامهم للفعل بالواو بدلاً من الهمزة هكذا "أونّ" بدلاً من "أئنُّ" بهمزتين كما هو في اللغة الفصيحة، فجاء المصدر كذلك بالواو بدلاً من الهمزة، وقد أحسَّ القاص بحرارة هذا اللفظ بالعامية وبرودته في الفصيحة، وبما لهذه اللفظة من الأثر في النفوس لخصوصيتها المعهودة وخلو تلك من هذه الخصوصية، لأنَّ موضوع القصة شعبي غارق في الشعبية، ولا يصلح معه استعارة ما لا يليق به، وليست اللفظة الفصيحة هنا ما يليق بموضوع شعبي، وقد نجح القاص أيما نجاح في هذا الالتقاط الذي اقترب به من الواقعية قليلاً على غير عادته، ورأى فيه تعميقاً للدلالة.
وعلى الرغم من أن القاص في هذه القصة يتعرَّضُ لتقليد شعبي عراقي عريق محض قَلَّ الإهتمام بتوصيفه أو بالإشارة إليه في القصة العراقية لأسبابٍ منها الحاجة إلى حرية التعبير عن العقائد والأفكار في العراق في العهد المقبور، لأنه شيء من تقاليد شيعية وحسب، وهذا التوصيف الذي خصَّ به القاص هذا التقليد يُحسب له باحترامٍ شديد، غير أنه لم يتخلَّ، كذلك، عن دأبه في التخييل والتغريب والتعقيد، والانتقال من مستوىً خياليٍّ إلى آخر بشكلٍ يصعب معه على القارئ العادي أنْ يُلمَّ بخيوط موضوعه جميعاً، كما يصعب تشبيه ما يصنع في قصصه بما يصنعه غيره من كتّاب القصة، فقد حاولتُ أنْ أقرنه، مثلاً، بزكريا تامر في بعض قصصه، ولكنني لم أفلحْ، فعبد الهادي سعدون مُغرقٌ في الإغراب والإنتقالات والتنويع في الحدث وعدم المباشرة في القصة الواحدة.
وثانية القصتين هي "مخبرو أجاثا كريستي"، وهي قصة عجيبة تستحق التوقف والاهتمام ، فقد استطاع القاص فيها أن يذهب بخياله وشفافية ذهنه بعيداً ليسبر أغوار المستقبل.. المستقبل الذي يمكن أن يكون بعيداً، ولكنه استعجل الخطى فجاء بعد عامٍ أو يزيد من تاريخ صدور مجموعته القصصية التي ضمت هذه القصة!، كيف ذاك؟.
لقد جعل القاص من منعم فرات المثال الذي أشرنا إليه من قبل، خالاً له وأخاً لأنه، وهو عبد الهادي سعدون صراحةً في الوقت نفسه، فهكذا يصنع مع أبطال قصصه، يتحد وإياهم بطريقة أو بأخرى، كأنه هم وكأنهم هو، وبما أن منعم فرات يصنع التماثيل فقد أَوكلَ إليه القاص مهمة صناعة التاريخ في الوقت نفسه، وجعله يتسامَى مع كل قطعة من قطعه الأثرية التي ينحتها إلى الحد الذي يُصبح هو واحداً من هؤلاء الأهل: أصحاب هذه الآثار الحقيقيين من الأقوام القديمة، يتحدثُ معهم ويتحدثون معه وينزل إليهم ويلاقيهم في أغوارهم وأماكن تواجدهم في المنطقة الأثرية العراقية المعروفة "أوروك" التي تضم آثار هذه الحضارة العريقة، وهو في هذه الحال يمثل التاريخ نفسه، ولهذا السبب هو باقٍ لم يمتْ بعدَ أنْ مات!: "منعم فرات، خالي، الذي لم تبكه أمي في ونينها لأنه لم يمت..."، وخلاصة الأمر أن الأجانب الآتين عبر الحدود القريبة يتهافتون على ما يصنع لهم منعم فرات من تماثيل على هيأة رؤوس أو بوابة أو جناح لطائرٍ عملاق أو غير ذلك ويعرضون الأموال، ولكن منعم فرات لا يأبه بأموالهم التي يرمونها تحت قدميه، كما لا يهتمُّ لانتقال هذه الآثار إلى بلادهم، فهو يرى " أنهم يفتقرون لها، بينما الأحجار أحجارنا ونحن الذين نصنع".
وأراني مضطراً لاقتباس نص جاء في نهاية هذه القصة هكذا: "جاؤوا كلهم ولم يأت فرات، فقالوا: نريد مشخوش، نعلم أنه بحوزتك. لم أتكلم ولم ألتفت لهم. جاؤوا ببنادق وشاحنات وجرافات. فقال صاحب القوقأة: الحرب قريبة وإذا لم تتعاون معنا سنهدم التل على رأسك. رحتُ ألتهم التبغ، بينما حملني المخبرون بعيداً وراحوا يفتشون ويهدمون ويطحنون الأحجار ومضت الجرافات التي تجرف برفقة عيون بعيدة كانت تراقب وهي أكثر قدرة على الجرف. فتلاقت أكثر من عين، أكثر من صوت، أكثر من صرخة، وقالوا نريده، أستمع لهم من بعيد. عليقتي تحمل بدل الدنانير رأساً من تلك التي سلمت. رأس صنعه لي فرات. أراقبهم كأن الحرب ليست سوى في تل أوروك. مضيتُ بعيداً. كنتُ في كل مرةٍ أسمع صراخهم يتعالى. كنتُ هناك أسمع صراخهم. لغط بلا كلمات، فزع وموت وهرب. وكذلك أستمع للضربات وهي تنهال على الصخر. أسمع صرخته كذلك، ضابط من جيش أميركي أو بريطاني، لا يهم فكلاهما رطن بإنكليزية لا تخطئها أذناي، رطانة مَن تعلقتْ بحبلٍ وجثتْ على الأرض تطلب ودَّ فرات".
إن القاص هنا استطاع أن يصلَ بخياله الخصب وشفافيته إلى مستوى الحدس والاستشراف، أفليس وصفه هذا وصفاً لما حدثَ فيما بعد (بعد التاسع من نيسان 2003) في العراق من نهبٍ منظمٍ، وعلى النحو الذي وصف، لثروة العراق الأثرية تحت نظر الأمريكان والإنكليز، وكأن الحرب قامت من أجل هذا النهب؟، ثم ألم يكنْ هذا الذي سطَّره القاص بأسلوبه استشرافا للمستقبل يذكِّرنا بالذي طلع به على العالم الروائي الإنكليزي جورج أورول؟.

إنَّ عبد الهادي سعدون قاص يكتب في حالة غيابٍ تام عن اللحظة، ولكنه حضور آخر في الواقع الذي رآه من قبل أو الواقع الذي سيراهُ في المستقبل على نحوٍ يرسمه هو بأسلوبه الخاص، بوصفه مبدعاً يسبح في عوالم غريبة معقدة صعبة، ويعملُ بطاقاته المستنفَرة تماماً. وما زال الكثير مما يجب أن يُقالَ في هذه المجموعة القصصية في مجالٍ آخر.

......................................
- تعليق تأريخي
نسب القاص كتاب "مختار الصحاح" للجوهري، وهو في الواقع لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، وهو اختصار لكتاب "صحاح اللغة وتاج العربية" لإسماعيل بن حماد الجوهري ومختارات منه، وقد اشتُهر هذا المعجم اللغوي الكبير بالكلمة الأولى من اسمه "الصحاح" لشهرته في الآفاق، وعلى هذا فإنَّ مختاره ليس هو، وليس مؤلف ذاك مؤلف هذا. وقد قاد الوهم القاص إلى أن يجعل محاولة طيران الجوهري من على القشلة ببغداد، بينا طار الرجل بالمقلوب من على سطح داره في نيسابور!. وقد يشفع للقاص حرصه على تداخل الأزمنة والأمكنة بما يخدم منهجه الرامي في القصة، ولكن ما الذي يشفع له نسبة الكتاب إلى غير مؤلفه بما لا تقتضيه سياقات العمل الفني؟.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية