فالرواية التي بين يديّ قدمها الأديب الفاضل في شهر أبريل من العام الماضي أثناء انعقاد مؤتمر شرق الدلتا الثقافي بالمنصورة, وشغلتني عن قراءتها أسباب أكل العيش وظروف أخرى لا داع لذكرها هنا, لكن والحق أقول, كنت متشوقًا لقراءة عمل كامل له, خاصة وأنني لم أقرأ له من قبل سوى بعض القصص القصيرة في بعض المجلات الأدبية هنا وهناك, وأخيرا قرأت رواية " ساعات الانفجار " أقول أخيرا قرأت, لأن طباعة الرواية من أسف لا تشجع على هذه القراءة , حيث الخط صغير جدًا, ولولا بقية من صحة قديمة وشباب على وشك الزوال لما استطعت الانتهاء من قراءتها .
أما وقد قرأت ـ والحمد لله ـ فـ " ساعات الانفجار " على الرغم من قلة الأحداث في متنها الحكائي وقلة الشخصيات أيضا, فإنها مزدحمة بالتفاصيل ومكتنزة بالأفكار والآراء, وبمعنى آخر مثقلة بالمضمون, وهذا يرجع في رأيي إلى الحرية الكبيرة التي منحها المؤلف لراوي الأحداث بوصفه راوٍ عليم ببواطن الأمور, يدس أنفه في كل صغيرة وكبيرة, مما أخل أحيانا بالتوازن بين المتن الحكائي والبناء الحكائي.
وقد حدت تدخلات الراوي الكثيرة, ووعيه الحاد ودقة رصده لكل شيء من شفافية السرد, فغلب على الرواية السرد الكثيف, وكأني بالمؤلف أراد أن يقول كل ما لديه في هذه الصفحات القليلة التي تكون منها متن الرواية.
ولابد من توضيح الفرق بين السرد الشفاف والسرد الكثيف " لقد كشفت الدراسات السردية المتخصصة وجود ضربين من السرد: سرد شفاف وسرد كثيف و فحينما يختفي السرد ويتوارى إلى أقصى حد ممكن لصالح الحكاية: يظهر السرد الشفاف الذي يجعل الأحداث تفرض نفسها دون أن يشعر المتلقي بوجود الوسيط السردي, أما حين يشير الراوي إلى نفسه كثيرا بوصفه منتجًا للأحداث أو مبتكرا للحكاية فإن المتلقي لا يندمج مع الأحداث, ولا تتحقق واقعية الحكاية, إنما يتمزق الإيهام, وتنكسر مقوماته, فالراوي يتدخل متحدثا عن نفسه وعن دوره مبديا ملاحظات حول كل شيء, وهنا يظهر السرد الكثيف " (1) .
وكثافة السرد عند عبد الرحمن الجمل لا تنبع من إعلان الراوي عن كيفية السرد, أو إظهار نفسه بشكل مباشر كأن يقول أنا أكتب رواية أو أنا ….. يخاطب القارئ مباشرة مما يؤثر على الإيهام السردي, إن كثافة السرد في " ساعات الانفجار " تسير بالرواية على عكس ذلك تماما و إن تدخلات الراوي تحقق واقعية الحكاية وتجعلنا كقراء نندمج مع الأحداث, بل تجعلنا نربط بين الراوي والبطل والمؤلف أحيانا .
إن كثافة السرد كما أشرت تنبع من دقة ملاحظات الراوي وتفتيشه المستمر عن بواطن الشخصيات و كما سنشير بعد قليل .
ـ
" ساعات الانفجار " عنوان غلاف الرواية وليس عنوان أحد الفصول, وكنه طبقا لاستراتيجية النص المكتوب بعناوينه الداخلية حيث يضع المؤلف لكل فصل أو قسم عنوانا, نجد أن هذا العنوان كان يمكن أن يوضع بديلا لعنوان الفصل السابع " الأخذ بالأسباب " حيث يترك فيه الراوي العليم لأول مرة حرية واسعة لإحدى شخصيات الرواية وهو عبد العاطي الدهشان, لكي يسرد تجربته في العراق وأمنياته لعزبة درويش, وأعتقد أن سبب منح هذه الحرية لعبد العاطى, أنه أقرب الشخصيات شبها ببطل الرواية منير, ذلك الذي ترك المنصورة بعد وفاة زوجت , والتقى بـ (نِحْمدُه) فتزوجها بعد الخمسين على الرغم من اعتراض أبنائه, وذهب ليعيش معها في الشرقية في عزبة "درويش" .
تتكون رواية "ساعات الانفجار" من عشرة فصول هي على الترتيب: أجنحة الربيع ـ مرتبة من ماء وطين ـ طقطقة أعواد الحطب ـ عالم ذكر البط ـ ضربة شمس ـ البراغيث تغزو نار الملائكة ـ الأخذ بالأسباب ـ بوابة النزيف ـ على فتيل المسرجة ـ أصابع للحفر على الصدر .
وهذه الفصول العشرة على تنوع مضامينها وكثرة شخوصها وازدحامها بالتفاصيل الصغيرة تتمحور حول شخصية رئيسية واحدة هي شخصية (بابا منير) على الرغم من الدور المتضخم للراوي العليم, غير أنه في الواقع يتبنى في الغالب وجهة نظر منير, فالسرد في الرواية يبدو في الظاهر موضوعيا, غير أنه بعد قليل من التأمل يعد سرد ذاتيا, حيث تروى معظم الأحداث بعين ورؤية الشخصية الرئيسية مني , بما في ذلك الفصل السابع الذي يترك فيه الراوي العليم كما أشرنا سابقا الحرية الواسعة لرواية الحدث من خلال عين عبد العاطي الدهشان إلا أن الدهشان يكاد يكون هو مني , أو بالضبط هو معادل موضوعي لشخصية مني .
إن المروية الرئيسية في السرد بطلها الأساسي منير بقطع النظر عن البداية الحقيقية للأحداث, إذ نلتقي في الفصل الأول بـ منير مع نِحمده في منزلها الريفي في عزبة درويش ومع تتابع السرد نبدأ في التعرف على الشخصيات , فمنير زوج نحمده تزوجها بعد وفاة زوجته وهو قد تخطى الخمسين, وهو أيضا مريض, وأن لنحمده بنتا وولدا, البنت اسمها نورا والولد اسمه عبد الرحمن, فمنير هو زوج الأ, ونحمده قوية صحيحة نشيطة على حين منير مريض وحالم, وهو في إجازة مرضية, وهي تكاد تكون ممرضت , إلى جانب دورها كزوجة وحارسة ل , وهو أيضا ـ منير ـ مرتبط بالكلب بوكر الذي نعرف قصة الحصول عليه وقصة ضياعه, وإلى جانب بوكر هناك أهل العزبة أو بالضبط أهل نحمده عائلة الشحات, التي جاءت من الدقهلية واستوطنت الشرقية, ومن فرع العائلة هناك رئيفة بنت عم العمدة الشحات , وزوجها عبد العاطي الدهشان, الذي تركها وسافر إلى العراق ليقاتل ضد الأمريكان والأعداء (الفصل السابع) .
وقبل هذا هناك حسن أخو نحمده وزوجته محاسن, وذكريات منير المرة والحلوة على السواء مثل رفض خالته زواجه من ابنتها وجارتهم أم حبشي وطقس النار وسبت النور, ومعظم هذه الأحداث والتفصيلات تأتي عبر وعي الشخصية لأنه الحدث الخارجي كما قلت بسيط ومحدود, يتلخص في دخول منير إلى بيته في عزبة درويش ولقائه المباشر بزوجته نحمده, ثم خروجه من العزبة لزيارة الطبيب في المنصورة .
وإذا كان المؤلف قد استهل روايته بالعبارة التالية " حالتان لا تنعم العين فيهما بالنوم: إذا استحوذ الحب على قلبه , أو إذا أصيب صدره بالمرض .
يا ويله من قصر الليل عندما يدق الحب بابه
يا ويله من طول الليل عندما تستبد به الكراهية " (ص 1) ليعبر عن حالة القلق التي يعيشها منير و فأعتقد أنه وفق في ذلك, حيث نجد بابا منير طوال الأحداث قلقا, يجتر ذكرياته كما أشرنا, ويصطدم ب ( نحمده) زوجته ويأسى لأحزان رئيفة وأهل عزبة درويش , ولكنه في النهاية يبدو راضيا عن نفسه , بعد هذه الرحلة داخل الذات وخارجها متفاعلا مع مشكلات أهل العزبة ورسائل عبد العاطي الدهشان , يؤكد ذلك هذه النهاية التي وفق فيها المؤلف كما وفق في استهلاله السردي :
" نقل حقيبته إلى اليد الأخرى , وقف لحظة يسترد فيها أنفاسه وسط أعراس العصافير والنهر والأرض التي كلما قطع فوقها خطوة كانت زبرجدا وكانت كهرمانا وذهبا لا يشعر بسيولته إلا مع هبات النسيم على رؤوس السنابل .
خلال اللحظة التي وقف فيها , شعر بأنه استراح من حمل الحقيبة المثقلة بكلمات عبد العاطي الدهشان ثم انحنى عليها ومضى ممتلئا بالرضى عن نفسه , لأنه انتزع جميع الأشياء الجميلة من مكانها ووضعها على صدره وهو يدفع بجسده داخل السيارة , وحين نظر إلى الخلف باتجاه عزبة درويش شعر بدمعتين ساخنتين تجريان على خديه , حاول إيقاف الإجهاش بحث في جيوبه عن منديل , لعله يخفي به ملامح بوكر التي صعدت إلى عينيه خلال المرات التي صاحبه غيها على هذه الطريق . " (ص 92) .
ففي هذه النهاية نشعر أن المريض قد شفي , كأنه تطهر بماء الريف المقدس , لقد انتزع جميع الأشياء الجميلة ووضعها على صدره , وبمعنى أدق داخل صدره ولكنه قد ذكر عبد العاطي رمز المقاومة وبوكر رمز الوفاء , نسي أن يذكر نحمده و وربما كان المبرر الداعي لعدم ذكرها أنه سيعود إليها مرة أخرى , فهي كما أشار في موضع آخر من الرواية حارسه الأمين .
وبعد فهذه قراءة أولى في رواية " ساعات الانفجار " للروائي المثابر عبد الفتاح الجمل , نرجو أن نكون قد وفقنا في الكشف عن أسرارها الفنية , لأن مثل هذه الرواية تحتاج في الواقع إلى أكثر من قراءة و وعند ذلك ربما تتعارض هذه القراءات أكثر ما تتلاقى , على أية حال قراءتي هذه اجتهاد قابل للنقاش , والله الموفق .
الهوامش :
(1) عبدالله إبراهيم :الرواية العربية والسرد الكثيف ،مجلة علامات ،نادى جدة الثقافى ،العدد27- مارس1988،ص104،105.
(2) صدرت رواية "ساعات الانفجار" عن سلسلة إبداع الحرية التى يشرف عليها المؤلف عام 2004 .