لماذا التاريخ؟
علل باكثير سبب إيثاره للتاريخ مصدراً لقصصه بقوله إن "أحداث التاريخ قد تبلورت على مر الأيام فاستطاعت أن تُنزع عنها الملابسات والتفاصيل التي ليست بذي بال من حيث الدلالات التي يتصيدها الكاتب للوصول إلى الهدف الذي يرمي إليه في عمله الفني، ولذا فإن أحداث التاريخ تعين الكاتب على بلوغ غايته في جعل العمل الفني يصور حقيقة أوسع وأرحب من الحقيقة التي يمثلها الواقع."([1])
ولم يكن باكثير في اعتماده على التاريخ مصدراً للكثير من قصصه يعيش في عالم بعيد عن عالم الواقع الذين يحياه، بل لقد كان يتخذ التاريخ وسيلة لنقد الواقع بطريقة غير مباشرة. تقول الباحثة مديحة عواد سلامة في أطروحتها عن مسرح باكثير: "كان باكثير من أوائل الكتاب المسرحيين الذين تصدوا لمحاولة الكشف عن الواقع العربي المعاصر بهذا الإبعاد الزمني المتمثل في استمداد عقدة المسرحيات من التاريخ، وعقد الصلة بين الماضي والحاضر بهدف تطوير الحاضر نحو المستقبل الأفضل والأكثر رقياً وازدهاراً."([2]) وتضيف قائلة: "وطبيعي أنه لم يقدم هذا الإهتمام بالواقع التاريخي لذاته وإنما كان يعمد في هذا إلى الإبعاد الزمني ليتسنى له التعليق على الواقع المعاصر الذي يحد من قدرته على تناول الأمور من الزاوية التي يراها"([3]).
التركيز:
إن أول ما يلفت نظرنا في هذه التمثيليات من حيث الشكل الخارجي هو صغر حجمها وتركيزها على موقف إنساني معين لبطل أو أبطال التمثيلية، وكذلك نلحظ تكثيف الحوار فيها بحيث تغني سطور قليلة عن تفاصيل كثيرة. وقد أشارت الباحثة مديحة عواد سلامة إلى أن باكثير في هذه المسرحيات القصيرة قد "نجح بالفعل في أن يعكس تصوره الواضح لطبيعة المسرحية القصيرة من حيث حاجتها إلى التركيز في الموضوع الذي تعرضه، فهو يعرض في كل مسرحية من هذه المسرحيات موقفاً إنسانياًَ معيناً ثم يطوره"([4]).
وبالرجوع إلى المجموعتين اللتين صدرتا في كتاب نجد أن معدل صفحات كل تمثيلية هو سبع صفحات من القطع المتوسط. كذلك نجد أن الحوار مكثف فيها بحيث تكشف الكلمات القليلة عن تفاصيل كثيرة.
الصدق التاريخي و الصدق الفني:
ومما يلفت النظر أيضاً في هذه التمثيليات هو إلتزام باكثير بحرفية الحدث التاريخي الرئيس الذي تقوم عليه القصة، فينقله لنا كاملاً كما روته كتب التاريخ، دون أن يهمل منه شيئاً أو يغيّر فيه، بل إنه لينقل لنا الحوارات بنصها كما وردت في كتب التاريخ أو كتب الأدب. على أن باكثير قد يأخذ برواية دون أخرى في حالة تعدد الروايات، لاعتبارات فنية أو فكرية تجعله يرجح رواية على أخرى. وقد يغير تغييراً طفيفاً في بعض التفاصيل الجانبية بما لا يخل بأصل الحدث التاريخي. كذلك نجد باكثير يفسر لنا الأحداث ويشرح ملابساتها ولا يكتفي بمجرد سرد الحوادث، كما سيتضح ذلك من خلال تناولنا للنموذجين الذين سنمثل بهما، وهما تمثيليتا (جار أبي حنيفة) و(ثلاثون ألف دينار).
1- جار أبي حنيفة:
نشرت هذه المسرحية ضمن المجموعة التي تحمل اسم (هكذا لقي الله عمر)، وتحكي القصة الشهيرة التي جرت للإمام أبي حنيفة النعمان –رحمه الله، مع جاره المزعج. ولمعرفة الأصل التاريخي الذي اعتمد عليه باكثير، نورد نص القصة كما أوردها ابن خلكان في (وفيات الأعيان) ، يقول ابن خلكان:
كان لأبي حنيفة جار بالكوفة إسكاف يعمل نهاره أجمع، حتى إذا جنّه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحماً فطبخه أوسمكة فيشويها ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غرد بصوت، وهو يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وكان أبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة، وأبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال وهو محبوس، فصلى أبو حنيفة صلاة الفجر من غدٍ وركب بغتله، واستأذن على الأمير، فقال الأمير: أيذنوا له وأقبلوا به راكباً ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط ببغلته، ففعل، ولم يزل الأمير يوسع له في مجلسه، وقال: ما حاجتك؟ فقال: لي جار إسكاف أخذه العسس منذ ليال، يأمر الأمير بتخليته، فقال: نعم، وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا فأمر بتخليتهم أجمعين، فركب أبوحنيفة والإسكاف يمشي وراءه، فلما نزل أبوحنيفة مضى إليه وقال: يا فتى أضعناك؟ فقال: لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيراً.
هذه هي القصة كاملة كما رواها ابن خلكان، وقد رويت بنفس الصيغة في عدد من المراجع مع بعض الاختلافات الطفيفة. فقد أضاف الإتليدي في (إعلام الناس بما جرى للبرامكة مع بني العباس) وابن حجة الحموي في (ثمرات الأوراق في المحاضرات) ما يدل على توبة الجار عن شرب الخمر: (ثم تاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل). كما أضاف الأصفهاني في (الأغاني) والقاضي التنوخي في (المستجاد من فعلات الأجواد) أن أبا حنيفة قال لجاره: (فعد إلى ما كنت تغنيه فإني كنت آنس به، ولم أر به بأساً. قال: أفعل).
ولم تذكر المصادر التي اطلعت عليها اسم الجار، فيما عدا عبدالواحد المراكشي في (المعجب في تلخيص أخبار المغرب) الذي ذكر أن اسمه عَمْراً، وذكرت بعضها أن الأمير هو (عيسى بن موسى) وذكر ابن عبدربه أن جاره كان كيالاً لا إسكافا.
والآن لنر كيف تناول باكثير هذه القصة، وهل التزم بالأصل التاريخي؟ وهل هناك إضافات أضافها باكثير؟ ولماذا؟.
لقد التزم باكثير بكل ما ورد في الأصل التاريخي، واختار من كل رواية ما يراه الأنسب من الوجهة التاريخية والفنية، فالجار كان يسكر كل ليلة ويغني البيت المذكور، وأبو حنيفة يذهب إلى الأمير عيسى بن موسى ليشفع له حتى يطلقه من الحبس بعد أن حبسه العسس، والأمير يكرم أباحنيفة لدرجة أنه يأمر أتباعه أن لا يدعوه يترجل حتى يطأ البساط ببغلته، ويطلق كل من قبض عليه مع الجار حتى يوم زيارة أبي حنيفة إكراماً له، وقد اختار باكثير الرواية التي تؤكد توبة الجار تأثراً من موقف أبي حنيفة الكريم معه.
الصدق الفني:
إلى هنا نرى باكثير ملتزماً بالأصل التاريخي كما ورد في المراجع التي أوردته، إلا أن باكثير قد أطلق لخياله العنان في سد الثغرات الفنية في القصة، بما لا يمس بالأصل التاريخي بل يتناغم معه ويكمله. فلم يشأ باكثير –مثلاً- أن يظل الجار غفلاً من الاسم فاختار له اسم (عاصم بن عبد العزيز)، كما نجده يبرر ما هو عليه من سكر وعربدة بكساد تجارته، وذلك من خلال حوار يدور بينه وبين زوجته – التي أضاف باكثير شخصيتها- في المشهد الثاني من المسرحية، كما جعل باكثير لأبي حنيفة أيادٍ أخرى على الجار فهو الذي يدفع عنه أجرة البيت دون علمه لعدم قدرته على السداد (ص ص71-73)، كذلك نجد الجار يسأل أبا حنيفة عن أحب الأعمال إلى الله ليكفر بها عن ذنبه السابق فيخبره أبو حنيفة أنه الجهاد في سبيل الله فيقرر الجار أن يلحق بركب المجاهدين ليقاتل حتى يستشهد في سبيل الله (ص 84).
غير أن باكثير قد أضاف على القصة ما هو أبعد من مجرد سد الثغرات الفنية، وذلك بسد الثغرات الشرعية، إذا جاز التعبير. فلم يشأ باكثير أن يترك تصرف الإمام أبي حنيفة يمر هكذا دون أن يشرح للقارئ (أو المشاهد) الدوافع وراءه وأن يناقشه من الوجهة الشرعية حتى لا يدع الأسئلة التي يثيرها هذا الحدث في ذهن القارئ بدون إجابات شافية. فأول ما يتبادر إلى ذهن من يقرأ قصة الإمام أبي حنيفة مع جاره السكير –كما أوردها ابن خلكان وغيره- هو: كيف يشفع الإمام في حد من حدود الله.؟ وحتى لو لم يشفع في حد، وإنما شفع ليطلق من السجن بعد إقامة الحد عليه، كيف يشفع لرجل سكير قد لقي جزاءً يستحقه؟ وللرد على هذه التساؤلات نجد باكثير يتخيل حواراً يدور بين الإمام أبي حنيفة وتلميذه النجيب أبي يوسف يناقش فيه أبو يوسف الإمام أبا حنيفة بل ويعترض عليه ويجادله، وسنقتطع جزءاً من هذا الحوار لأهميته:
أبو يوسف: لا ينبغي لأحد أن يشفع في حد من حدود الله.
أبو حنيفة: لست هناك يا يعقوب. إني لن أشفع في حد يقام عليه، ولكن سألتمس منهم إطلاق سراحه بعد ذلك. (ص 76).
أبو حنيفة: ويحك يا فتى! إن لهذا الجار أياديَ عندي تقتضيني المروءة أن أجزيه عليها.
أبو يوسف: ما سمعت كاليوم عجباً. أي أيادٍ يمكن لسكير مثله أن يسديها لأبي حنيفة؟
أبو حنيفة: (محتداً) اسمع إذن وافهم. كنت أقول لنفسي: إذا كان هذا الجار يعاف النوم ويقضي الليل كله مردداً ذلك البيت من الشعر وهو لا يرجو ثواباً من الله ولا جزاء من الناس، فما بالي أثاقل عن القيام وأنا أدعو الله وأبتهل إليه وأطمع في خير ما عنده؟
أبو يوسف: هذه يد واحدة فماذا غيرها؟
أبو حنيفة: كان يقع في نفسي أن هذا الرجل ما تخير هذا البيت خاصة ليتغنى به كل ليلة، إلا أن حيفاً ربما وقع عليه من بعض من كان يرجوهم من الناس، فهو يجد في ترديد البيت تنفيساً عن كربه وتهويناً لخطبه، فكنت أقول لنفسي: الحمد لله الذي أغناني عن الناس جميعاً فلا أشكو منهم ظلماً ولا حيفاً، وأفقرني إليه وحده سبحانه وهو العادل الرحيم لا يظلم أحداً ولا يقسو على أحد.
أبو يوسف: هذه ثانية ... والثالثة؟
أبو حنيفة: كنت أعجب من أمره كيف يرفع عقيرته باللحن ليدل العسس على مكانه ويرشدهم إلى نفسه، فكنت إذ قمت ليلة وسمعته بعد هناك تعجبت من طول حلم الله وستره عليه فأقول لنفسي: هذا ستر الله سبحانه على هذا العبد المتهتك، فما بالك بستره على المستورين من عباده. (ص ص 77-78).
وهكذا نجد أن باكثير لا يكتفي بتسجيل الحدث أو مسرحته كما هو دون أن يستكمل جميع جزئياته ودون أن يجيب على جميع التساؤلات التي قد تطرأ على ذهن القارئ أو المشاهد حين يقرأ أو يشاهد هذه القصة. فنجد باكثير يجيب على كل هذه التساؤلات، بطريقة سلسلة غير متكلفة، من خلال الحوار المتخيل بين أبي حنيفة وتلميذه أبي يوسف. وإضافة شخصية أبي يوسف تبدو غير مفتعلة ولا مقحمة، بل هي منسجمة مع أحداث القصة، فأبو يوسف هو تلميذ أبي حنيفة الذي لا يذكر أبو حنيفة إلا ويذكر أبو يوسف ولا يذكر أبو يوسف إلا ويذكر أبو حنيفة. وقد استطاع باكثير أن يحتال بذكاء حتى يجعل أبا يوسف التلميذ يوجه تلك الأسئلة إلى أستاذه، فجعل أبا يوسف يدوِّن إجابات أبي حنيفة وكأنه إنما استفزه بأسئلته ليزداد من علمه وحكمته، وتلك حيلة بارعة تتفق مع ما عرف عن أبي يوسف من الذكاء والدهاء:
(كان أبو يوسف طول هذه المدة يكتب ما يسمع دون أن يشعر أبو حنيفة بذلك إذ كان مشغولاً عنه بصوغ الحديث وإلقائه، ولكن تحين التفاتة منه الآن إلى أبي يوسف)
أبو حنيفة: ويحك ماذا تصنع يا يعقوب؟ أتتشاغل عني بالكتابة؟
أبو يوسف: بل أقيد يا سيدي ما أسمع عنك.
أبو حنيفة: هيه.. أكنت تعمدت خلافي لتستدرجني إلى هذا؟
أبو يوسف: أجل يا سيدي الإمام فهب لي سوء أدبي اليوم معك.
أبو حنيفة: قم بنا الآن إلى الأمير.
أبو يوسف: بل استمر أولاً في إملائك .. دعني يا سيدي أسمع الرابعة.
أبو حنيفة: الآن وقد كشفت حيلتك؟ انهض ويلك.
(يتهيآن للخروج) (ص 78).
كما برر باكثير تصرف أبي حنيفة بأنه واجب الجوار، وذلك من خلال الحوار الذي أداره بين أبي حنيفة وجاره في مجلس الأمير:
عاصم: (يمضي في بكائه) تسأل عني يا سيدي وتحضر لرؤيتي، وأنت تعلم أني أعصي الله في كل ليلة؟
أبو حنيفة: هذا حق الجوار يا عاصم، والله وحده هو الذي يدين العباد بذنبهم فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. (ص 83).
وهكذا نجد أن باكثير قد التزم بالأحداث التاريخية للقصة كما نقلتها لنا كتب التراث، ولكنه لم يقف عندها بل أضاف عليها من خياله ما فسرها وجعلها أكثر متعة وفائدة.
2- ثلاثون ألف دينار([5])
في هذه المسرحية يلتقط باكثير قصة ربيعة الرأي وأبيه فروخ الذي تركه جنيناً في بطن أمه وخرج مجاهداً في سبيل الله ثم عاد وقد أصبح ابنه عالماً يشار إليه بالبنان، من تلاميذه مالك بن أنس إمام دار الهجرة.
الصدق التاريخي
بداية نورد القصة كما رواها ابن خلكان في (وفيات الأعيان)، لنرى كيف تصرف فيها باكثير وعلى أي نحو، يقول ابن خلكان:
"حدثني مشايخ أهل المدينة أن فروخاً أبا عبدالرحمن بن ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازياً وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرساً وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه فخرج ربيعة، وقال: يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟ فقال فروخ: يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي، فتواثبا وتلبب كل واحد منهما بصاحبه حتى اجتمع الجيران، فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، فجعل ربيعة يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان، وجعل فروخ يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج، فلما أبصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار، فقال الشيخ: هي داري وأنا فروخ، فسمعت امرأته كلامه فخرجت وقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به، فاعتنقا جميعاً وبكيا. فدخل فروخ المنزل وقال: هذا ابني؟ فقالت: نعم، قال: أخرجي المال الذي لي عندك وهذه معي أربعة آلاف دينار، قالت: قد دفنته وأنا أخرجه بعد أيام، ثم خرج ربيعة إلى المسجد وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن بن زيد وأبن أبي علي اللهبي والمساحقي وأشراف أهل المدينة وأحدق الناس به، فقالت امرأته لزوجها فروخ: اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فنظر إلى حلقة وافرة فأتاها فوقف عليها فأفرجوا له قليلاً فنكس ربيعة رأسه يوهمه أن لم يره، وعليه دنية طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا: هذا ربيعة بن أبي عبدالرحمن، فقال: فقد رفع الله ابني، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحداً من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: فأيما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا. فقال: لا والله بل هذا، فقالت: فإني أنفقت المال كله عليه، قال: فوالله ما ضيعته."
لقد التزم باكثير هنا أيضاً بحرفية الحدث التاريخي، ففروخ يدخل على أسرته بعد غياب سبعة وعشرين عاماً دون استئذان، دافعاً الباب برمحه، ويتجمع الناس، إلى آخر ما هنالك من أحداث. بل إنه ينقل لنا العبارة التي وردت على لسان الإمام مالك كما وردت بالنص في الأصل التاريخي:
مالك: أيها الشيخ لك سعة في غير هذه الدار([6])
الصدق الفني
إن أول ما يثير التساؤل في ذهن قارئ هذه القصة هي طريقة دخول فروخ (والد ربيعة الرأي) على أهله بعد غيبة استمرت سبعة وعشرين عاماً. فقد دخل عليهم بطريقة فجة جلفة، لا تتناسب مع الأدب فضلاً عن أن تتفق مع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسنته. فهو لم يرسل لهم من يخبرهم بقدومه كي يستعدوا ويتهيأوا، كما وجهنا إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة)، ورواية مسلم في صحيحه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم أحدكم ليلا فلا يأتين أهله طروقاً حتى تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة ). وبالإضافة إلى أن فروخاً لم يبعث لأهله من يخبرهم بقدومه –التزاماً بالهدي النبوي- فإنه أيضاً لم يقرع الباب مستأذناً بالدخول بل (دفع الباب برمحه) وفي هذا منتهى الفجاجة والفظاظة، ومخالفةً صريحة لهدي الإسلام في الاستئذان، فما الذي حمله على ما فعل؟ ثم هو حين يتفاجأ بوجود رجل في داره (ابنه ربيعة) لم يسأله من أنت؟ وماذا تصنع في داري؟ بل جابهه بالإتهام قائلاً: (يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي). كل هذه التساؤلات لم يتركها باكثير تمر هكذا دون إجابة شافية، بل قدم لها تفسيراً قد لا يتفق مع الحقيقة التاريخية التي لم يحفل أحد بتدوينها ولا علم لنا بحقيقتها، ولكنه بدون شك يتفق مع هدي الإسلام وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم، ويتفق مع ما يريد باكثير للأدب الإسلامي من أن يكون نبراساً يضئ للناس حياتهم ويعلمهم أمور دينهم في قالب فني ممتع، ولا يكتفي فقط بسرد أو مسرحة حوادث التاريخ. فكيف أجاب باكثير عن هذه التساؤلات؟
لتحقيق هذا الهدف نجد باكثير قد اختلق شخصية جديدة وأضافها على مجريات القصة، هذه الشخصية هي شخصية (صالح) وهو –كما تخيله باكثير- ابن عم لزوجة فروخ، وحين انقطعت أخبار فروخ أخذ صالح يزين لها أن تطلب من القاضي أن يطلقها منه لأنه لاشك قد هلك في القتال، وكان يرغب في أن يصطفيها زوجة له طمعاً في المبلغ الكبير (الثلاثين ألف دينار) التي تركه زوجها معها، ولكنها كانت ترفض كل إغراءاته رغبة منها في انتظار زوجها وللتفرغ لتربية ابنها، مما جعل صالحاً هذا يحقد عليها ويحاول الكيد لها. وقد واتته الفرصة حين أرسل فروخ رسالة من ينبع يخبر أهله فيها بقدومه، ملتزماً في ذلك بالهدي النبوي الشريف– كما أراد له باكثير. ولكن الرسالة وقعت في يد صالح الذي أخفاها ولم يُعلم بها زوجة فروخ أو ابنه، بل لقد خرج صالح إلى ظاهر المدينة واستقبل فروخاً وشنّع له على زوجه وأوهمه أنها قد تزوجت بعده شاباً صغيراً في سن ابنها وأنها تقيم معه في بيت فروخ، وأخذ يوغر صدره عليها كما سوّل له شيطانه. وهكذا قدم فروخ مشحون القلب عارم الغضب يريد أن يثأر لكرامته المهدرة ويلقن زوجته وعشيقها الشاب درساً لن ينسياه، وبهذه الحالة من الغضب قدم فروخ فدفع الباب برمحه وحدث ما حدث.
لقد استطاع باكثير –ببراعة- أن يخدم الخط الدرامي في المسرحية بإضافة شخصية صالح وأن يزيد الأحداث توتراً وتشويقاً. وقد خدمت شخصية صالح المسرحية في ناحيتين: الناحية الأولى أنها أشارت إلى عمق تضحية هذه الأم المثالية حين ضحت بزهرة شبابها في انتظار زوج لا يعلم إلا الله إن كان سيرجع أم لا، وتنازلت عن حق كفله لها الشرع الحكيم بطلب الطلاق لانقطاع أخبار الزوج، وتنازلت بالتالي عن حقها في التمتع بما أحله الله لها من الزواج. والقصة في أصلها التاريخي كما أوردها ابن خلكان، لا تولي هذا الأمر حقه من العناية والاهتمام، ولعل القارئ غير المتخصص يقول لنفسه: لعل الشرع لا يجيز لها أن تُطلَّق لانقطاع خبر الزوج، أو لعلها غير مرغوبة من الخطاب فلم تسع في الطلاق لعلمها أن أحداً لا يرغب في نكاحها. فخلق باكثير شخصية صالح وجعله يلح على أم ربيعة في أن تُطلق من زوجها الغائب حتى يتزوجها ليبين لنا مقدار تضحيتها وعزوفها عن طلب الطلاق من زوجها السابق والزواج من جديد مع وجود من يرغب فيها بل ويلح عليها في ذلك، وبهذا نتبين مقدار تضحية هذه الأم المثالية.
والأمر الثاني الذي حققته شخصية صالح المختلقة هو أنها فسرت لنا تفسيراً منطقياً مقبولاً تصرف فروخ الفظ غير المقبول. فكأن باكثير يريد أن يقول لنا أنه لا يعقل أن يتصرف هذا الرجل المجاهد الذي قضى زهرة شبابه في الجهاد في سبيل الله بهذه الطريقة، إلا إذا كان هناك جزء من الأحداث قد سقط من الرواية أو لم يهتم الرواة بذقله إلينا، هو الذي دفعه دفعاً وحمله حملاً على هذا التصرف. وهب أن هذا المجاهد قد غفل عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعن أدب الإسلام في وجوب إخطار الأهل قبل مفاجأتهم بالقدوم وفي وجوب الاستئذان قبل الدخول، إما لجهل بالحكم الشرعي وإما لفظاظة في القلب وجلافة في الطبع، فهل يغفل عنها الأديب المسلم الذي يريد أن يتخذ من أدبه وسيلة لبث تعاليم الإسلام السامية ليتأدب المسلمون بآدابه؟ وقد تناول القصة بعض الأدباء والدعاة المعاصرين ولكنهم لم يحاولوا أن يفسروا لنا هذا التصرف الغريب من فروخ كما لم يسعهم أن يهملوا ذكره. ومن هؤلاء الأدباء –على سبيل المثال- الأستاذ محمد حسن الحمصي في سلسلته الرائعة (قصص من التاريخ) في الجزء الرابع الذي عنوانه (أم لا كالأمهات)([7])، فرغم أنه قد صاغ القصة بأسلوب أخاذٍ ممتع في أكثر من سبعين صفحة من القطع المتوسط، إلا أنه التزم بحرفية الحدث التاريخي ولم يفسره، بل لقد وضع المرجع في الهامش عند ذكر طريقة دخول فروخ على أهله (وهو كتاب تاريخ بغداد) وكأنه يريد أن يثبت للقارئ أنه نقل هذا الخبر عن كتب التاريخ، وأنه ليس من بنات خياله.
ومن الفجوات التي سدها باكثير في القصة هو سبب طول غياب فروخ في البعث كل هذه المدة (سبعة وعشرين عاماً) وانقطاع أخباره، وكأنه يريد أن يقول لنا أن ذلك لم يكن أمراً طبيعياً في كل من يذهب للجهاد، بل المعتاد أن يعود المجاهد لأهله بعد مدة قد تطول أو تقصر ولكنها لا تصل إلى هذا القدر من الزمن، أو يصلهم خبر استشهاده من خلال البريد والبعوث، فجعل سبب تأخر فروخ هو وقوعه في أسر العدو، كما ذكر ذلك لصالح حين سأله عن سبب تأخره، وأنه بعد إطلاق سراحه اشتغل بالتجارة حتى لا يعود لأهله خالي الوفاض. كما فسر باكثير سبب تكنية فروخ بأبي عبدالرحمن مع أنه لم يكن لديه ولد غير ربيعة الذي لم يكن يعلم به، فيجعل باكثير فروخاً وزوجته يرزقان بطفل يسميانه عبدالرحمن ولكنه يموت طفلاً، ثم يرحل فروخ وزوجه حبلى بربيعة دون أن يعلم بذلك. نفهم ذلك من خلال إشارة مختصرة في حوار صالح مع فروخ حين يذكر صالح لفروخ أن زوجه قد تزوجت شاباً "في سن ابنكما عبدالرحمن لو لم يمت وعاش حتى الآن".
كذلك نجد باكثير يجعل المرأة هي التي تفتح مع زوجها موضوع المال فتقول له:
أمينة: إنك لم تسألني عن الثلاثين ألف دينار التي تركتها عندي يوم رحلت؟
فروخ: أجل كم بقي منها يا أمينة؟
وكأن باكثير رأى أنه ليس من المروءة أن يسأل الرجل زوجه عن ذلك المال في نفس يوم وصوله، وقد تركها سبعة وعشرين عاماً ومن المفترض أنها كانت تعيش من ذلك المال، ولذلك نجده يجعل المرأة هي التي تذكِّره، وهو يسألها لا عن المبلغ كاملاً بل عمَّا بقي منه، فهو مال وفير- بمقياس تلك الأيام- ومن المفترض أن يكون قد بقي لديها منه مبلغ كبير. على أنه التزم بنص القصة الذي روى أنها قالت له أنها دفنت المال وأنها ستخرجه بعد أيام، وبرر ذلك بقولها "بعد أن ينقطع سيل المهنئين والزوار". وهكذا نجد باكثير لا يغفل عن تفسير حتى أبسط الحوادث، مثل إخراج المال بعد أيام، فالسؤال المتبادر إلى ذهن القارئ هو كيف رضي فروخ بأن تؤخر إخراج المال؟ وأية حجة قدمتها له؟ وكيف لم يساوره الشك أنها أتلفت المال حين طلبت منه مهلة لإخراج المال المدفون؟ كل هذا يجيب عليه باكثير بطريقة منطقية ومقبولة وهي قوله الزوجة: (حتى ينقطع سيل المهنئين والزوار). نعم، فلاشك أن كل قادم يمتلئ داره بالمهنئين والزوار مما يجعل من الصعب البحث والحفر في الدار عن المال المدفون.
الربط بالواقع المعاصر
وقد عالج باكثير في نفس القصة مشكلة اجتماعية وأبدى رأيه فيها من خلال أم ربيعة وهي سكن الأم مع ابنها وزوجته في منزل واحد. فقد بدأت المسرحية بتشكي زوجة ربيعة من أمه التي تقسو على ابنتهما في التأديب، ولكن ربيعة يتعامل مع الأمر بحزم ويقف إلى جانب أمه، بل ويستشهد ببيت شهير لصخر أخي الخنساء يقول فيه:
وأي امرىءٍ ساوى بأمٍ حليلةً فلا عاش إلا في شقا وهوانِ
وحين يقدم فروخ ويجتمع شمل الأم مع زوجها المفقود يصر ربيعة على الانتقال هو وزوجته وابنهما إلى منزل مستقل رغم إلحاح أبيه أن يظلوا معهم، قائلاً لهما أن وجوده مع أمه في السابق كان ضرورة إذ لا عائل لها غيره، أما الآن وقد عاد أبوه فينبغي أن يستقل بحياته الأسرية عنهما. وباكثير بذلك يعالج مشكلة معاصرة تعاني منها بعض الأسر الآن في ظل الشقق والبيوت الصغيرة والتوجه نحو الأسرة النووية – كما تسمى الآن ترجمة للفظ الأجنبي. ويعالج مسألة الخلاف بين الأم والزوجة ويدعو بحزم إلى أخذ موقف مساندٍ للأم، خاصة إذا كانت على حق، كما في حالة ربيعة.
ورغم أن باكثير قد استطاع أن يقنعنا بإمكانية وجود شخصية صالح في التاريخ، فمثل هذه الشخصيات الحقودة السيئة موجودة في كل زمان ومكان، إلا أنه لم يستطع –في رأيي- أن يقنعنا بصدق ترك ربيعة لمنزل أبويه من الناحية التاريخية، فمثل هذه المشكلة لم يكن لها وجود في حياة المسلمين حتى وقت قريب، بل ما زالت بعض الأسر العربية والإسلامية في الأرياف تعيش في أسر ممتدة حتى يومنا هذا. وإن كان هذا لا ينفي بالطبع وجود بعض المشكلات بين الأم وزوجة الابن في الماضي والحاضر. ولكن باكثير لا يعبأ بالصدق التاريخي فيما لم ينقله لنا التاريخ -وإن كان يلتزم به فيما نقله لنا التاريخ- في سبيل الوصول إلى هدفه الذي يرمي إليه وهو التعبير عن رأيه في مشكلات عصره ووضع الحلول المناسبة لها. وكأنه بهذا يريد أن يذكِّرنا أنه لا يلجأ إلى التاريخ ليسلينا بحكايات قد عفى عليها الزمن وإنما ليعالج مشكلات نعانيها اليوم وليضع لها الحلول المناسبة من وجهة النظر الإسلامية.
___________________
الهوامش
[1] - علي أحمد باكثير: فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية، محاضرات، مطبعة مصر، د.ت.، ص ص 35-36.
[2] - مديحة عواد سلامة: مسرح علي أحمد باكثير: دراسة نقدية، رسالة مقدمة لنيل درجة الماجستير في الأدب العربي، جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، عام 1980، مطبوعة على الاستنسل، ص 16
[3] - المرجع السابق، ص 16
[4] - المرجع السابق، ص 156
[5] - علي أحمد باكثير: ثلاثون ألف دينار، مجلة الفيصل العدد 177، ربيع الأول 1412هـ، سبتمبر/أكتوبر 1991م، ص ص 108-111
[6] المرجع السابق، ص ؟
[7] -د حسن الحمصي: أم لا كالأمهات، دار الرشيد، دمشق، الطبعة الرابعة، د.ت. ص ص 11-