توطئة:-
يحسنُ أن ننظرَ إلى استقرار المشهد الشعري العربي، بعد فترةٍ من الاستهلاكِ في المناطحة والمطاحنة ،حولَ قضايا الاصطلاح والشرعية في أنواع الشعر العربي، تلكم الفترة الطويلة والتي امتدت منذ ما قبل منتصف القرن المنصرم، وحتى هذه السنوات الأولى من القرن الجديد، ومع ذلك فبعضها ما انفكَّ يحنُ إلى تجديدِ هذا النمط من الصراعات والمناكفات التي لا طائل منها وإذا كنا سنشرعُ في تناولِ أنواع الشعر العربي، عارضينَ هذه الأنواع على محددات ومجالات بعينها، لفحص قيمة التراتبية الفنية بينها، وفصل التقديم والتأخير عليها نتيجة لهذا العرض، فإننا نفعل ذلك متجاوزين هذا الاشتباك بقبول النوعين الذين أثارا هذا الخلف والاختلاف، على مرحلتين من هذا الزمن، أي قصيدة السطر الشعري، والنسيقة أو قصيدة النثر، وبالتالي فإننا نعرضها جميعاً على أنها أنواع محددة ضمن الشعر العربي ومسيرته.
أجدني واضعاً أمام تناولي لهذا الأمر، جملةً من المستهلات التي يصلحُ البدءُ فيها، حتى تتضح الصورةُ، ولا يخرجُ الموضوع عن غايتهِ، أو يخرجهُ متقصِّدٌ محتاجٌ لإخراجهِ، وضمن هذه ملاحظة لا مندوحةَ عن التأكيدِ عليها، والانطلاقِ منها، وهيَ أنَّ مناط النوعِ فيما نتناولُ هنا من حيثُ الجودةِ أفضله وأقومهُ، وليسَ فقط ذلكَ النوعُ الذي يصلحُ معهُ في توصيفِ الإنجازِ ما قد اجتازَ، سواء في بنية الشروط أو في توافقِ المشروط.
أما الملاحظة الثانية فهي قصرُ البحثِ على الشعر العربي نفسه، وعلى أشكاله التي سنستقدمها، وفي هذا المقام فإننا نبحثُ في مادة الشعرية العربية والمنشأ على أساس عروبة كامل التجربة، ونحن بذلك نفصلُ ذلكَ النوع المترجم من الشعريات الأخرى إلى اللغة العربية، حتى وإن كانت عملية الترجمة قد ذهبت ذهاباً فنيّاً في الترجمة فأعادت الصياغة، وفق أيٍّ من اشتراطات البنية في الأنواع، كأن تكون مثلاً قد أعيدت نظماً على شكل قصيدة العمود وما إلى ذلك.
وأما الملاحظة الثالثة فهيَ أن البحث يأخذُ ما استقامَ من المعطى في النوعِ، دونَ أخذ عامل طول زمن التجربة في الاعتبار على نمط في فنون هذا القول، فإنما تلك المحددات أو المجالات التي استقدمت لقياس التراتبية في القيمة بين هذه الأنواع، قد قبلت هذه الأنواع جميعاً بمعزلٍ عن عامل طول الزمن واختلافه بين العقد والقرن، وإنما هي تشتغل على نوع الزمن والمتاح منه.
وأما الملاحظة الرابعة فهيَ أننا نعرضُ هذه الأشكالَ في النوعِ، بمنقطعٍ عن أثر وتأثير الأدوار الشعرية، فهذا سيعتبر مبحث آخر، يمكن عرض هذه الأنواع على الأدوار الشعرية ودرجة ميزتها وتفوّقها في أيٍ من الأغراض، سواء تلكم الأغراضُ التي بقيت من نمط الدور الفني الجمالي، والدور المؤسسي- مؤسسة العقيدة، مؤسسة الحب، مؤسسة الوطن-، أو الأدوار الجزئية التي ذهب بعضها وبقي الآخر، من نمط الدور الإعلاني والإعلامي، فالتعليمي فدور الحكمة إلى آخر ما فصّلنا فيه، في موضعٍ آخر في بحث مختص تناول هذه الأدوار، كان العنوان فيه" مسائل أساسية حول الشعر العربي المعاصر" ، نشر قبل عدة سنوات.
مجالات فحص التراتبية في الشعر العربي:
فلإذا كانَ المنطلقُ في هذه الدرجةِ من الوضوح، سهلَ بعد ذلكَ التناولُ، وجملةُ القولِ أننا سنستدعي من أشكال الشعر العربي التصنيفات الثلاثة، أي شعر العمود وشعر السّطر والنسيقة " قصيدة النثر"، وننظر إلى قيمها جميعاً معروضةً على مجالات البحث هذا، دونَ أن يكونَ لأيٍّ منها، يدٌ مقدّمةٌ لمسوّغات في البنية، أو في هوى النفسِ ورأيها المسبقِ عليها وفيها، فهي إذن عندنا قد اجتازت مرحلتين تامتين، غير متأخرتين لعلّة.
فالأولى:- مرحلة تمامها داخل نمط القول الشعري، وقبولِها على هذا الأساس، سواسيةً من غير تقديم ولا تأخير، واعتبارها جميعاً، على أساس ذلك، تشكيلات أصيلة في الشعر العربي، دونَ لبس.
والثانيةُ:- أننا نستقدمُ للبحثِ في أمرها، وعرضها على ما نحنُ بصددهِ هنا، أجودَ ما فيها وأعلى ما فيها من النماذجِ وأرقى ما فيها من الفنِّ والإبداع، غاضين الطرفَ عن حجم عشيرة كلٍّ منها، وكذلك عن كلِّ تفصيل ٍ في عمق التجربة ، أو في درجة الانتشار مما قد يجري بشأنها.
نحنُ إذن نستقدمُ النّوعَ خالصاً من غير ملابسات، وفي هذا يحسنُ الجزمُ بأنَّ معياراً ومتغيّراً واحداً هو محطُّ النّظرِ والاختبار، والتجربةِ والتقييم، فلا تخرجُ النتيجةُ إلا مقايسةً ووازنةً أثرَ كلٍّ منها، حيالَ هذا الذي نسألُ عنهُ، فإذا خلصَ البحثُ هذا إلى نتيجة، فإنما هو يخلصُ إلى نتيجةٍ حيالَ النوعِ ذاتهِ، ذلكَ الذي استقدمَ بأجودهِ وأعلاه.
أما المجالات التي سيعرض عليها النوعُ فهيَ:-
- المعايشة
- التعبيرية
- التفاعلية
- المناقلة
- الموالدة
وليسَ معنى حصر هذه المجالاتِ أنها غايةُ الأرب، ومنتهى أوجه المقارنة، فقد يردُ إلى الخاطرِ غيرُ ذلكَ من مجالات، ويتسعُ الأمرُ إلى ما سواها، بيدَ أنا نظرنا فوجدنا هذه المجالات تفي بغرض الأعمِّ الأغلبِ، والأهمِّ القربِ، لقياسِ قيمة كلٍّ منها، وهي إنما تغطي جوهر العملية الإنسانيةِ في التناول الشعري، وحصر الدلالات في هذا الأمر، كان غاية هذا الحيّز من المقال، وهو الأوجب بالتقديم لدينا.
ويحسنُ أن نذهبَ فنوضِّح ما قصدناهُ بهذه المجالاتِ قصداً، فتكونَ الرؤية عن بيّنة ، وحتى لا يلتبسَ المقصدُ كونَ هذه بحسبِ ظني، غيرُ مسبوقةِ التداولِ، فإن حصلَ وكانَ لها من التداولِ نصيب، صرفنا الدلالة في هذا النّظرِ إلى ما حددناهُ هنا، فلم يخرج عن مقصدهِ إلى غيره.
أما المرادُ بالمعايشة، فهو حركة التفاعل داخل النّص، لعابرٍ عامٍ يصلحُ أن يكونَ الشاعرُ أو الناقدُ أو المتلقي، وهي فترةٌ مطْلقةٌ كاملة كما يظهرُ هنا، لا تفترضُ شيئاً مسبقاً، ولا تنتظرُ حدساً خاصاً، إنها لعمرك في أوليات الحركة، دونَ قيدٍ ولا شرط، فهي إذن مفتوحةَ الإطارِ، مشرعة النوافذ على الزمنِ والمكانِ.
أما التعبيريةُ ،فهيَ قدرةُ النّصِ على تمامِ حملِ الرسالة، ذلكَ أنَّ الرسالة جزءٌ أساسٌ في اعتمادِ القولِ على منحى المفهومِ من اللّغة، ويتبعُ ذلكَ أدواتُ التعبيرِ في هذه الرسالة، وطريقة نقلها وإبلاغِها، ويتبعُ التعبيرية َ منظومة التقييم الخاص بها من حيثُ، الدقّة والسرعةِ، فالكمالُ والجمالُ، من فصاحةٍ وبلاغة.
وأما التفاعليةُ، فإنما تنظرُ العلاقة بين المرسلِ وهو الشاعر، وبينً المرسلِ إليهِ وهو المتلقي عينه،وهذه التفاعليةُ يحسنُ استقدامها أيضاً دون اشتراطاتِ الحصر، فتذهبُ في الحاضرِ والغائبِ، كما تذهبُ في الماضي والمستقبلِ دونَ حدود، ولكنها ستؤثر في نتيجة موضوعية لها وهي المناقلة.
وأما المناقلةُ، فهي حصرٌ على المحفوظِ في المنقول، وهيَ وقفٌ على الماضي دونَ غيرهِ في الزمان، وهيَ بحثٌ في القيمِ الجمعيةِ لا الفردية.
وتبقى الموالدةُ، وهي متأثرةٌ تمام التأثير بالمناقلةٍِ، وتلحظُ استدعاء المنقولِ لمعايشةٍ جديدةٍ، إن عرض حالُ الحاجةِ في المحمول، ووافقَ شوقَ المحمولِ له.
وباختصار، فإن هذه المجالات والمباحث، يمكنها قطعاً أن تورث قيمة محددة، لكلٍّ من أنواع الشعر العربي المستجلبة هنا، دونَ أن يكونَ ذلكَ حكماً على المبدع ذاته، فنحنُ وقفنا تعاملنا في هذا المقامِ على القول وليسَ على القائل، ومنطق هذا قويٌّ مكينٌ لا يقدِّم ولا يؤخرُ لعاملٍ غيرِ موضوعي، ذلكَ أنَّ في القائلينَ من ينطقُ بهذهِ جميعاً، ويأتيكَ بأنواعِها شاملةً، ومنهم من يذهبُ أو اختارَ الذهاب إلى نوعٍ بعينه، ومنهم من جاءَ بمراحلَ وانتهى إلى تفضيلِ نوعٍ ما، ومنهم من لا يستطيعُ إلا أن يكونَ في نمطٍ ما، وهكذا فمتغيّراتُ الناقلِ عديدة، أما المنقولُ فحصرٌ في ثلاثة أشكال كما قدّمنا.
لا أعلمُ سبباً واحداً يمنعُ الدرسَ النَّقدي العربي، من تناولِ هذا المبحثِ وأجدهُ غير مفهومٍ البتة، ولعلَّ هدْر الطاقاتِ على التجاذبِ حول شرعية نوعٍ بعينهِ، وقبول نمطٍ بذاتهِ، كانَ سبباً غيرَ مباشرٍ في عدم التقاط أهمية مثل هذا النّظر في المنقول ذاته، وقد ذهبت معظم الدراسات في معظم الوقت منحى الاقصائية والانعزالية، فحدثت القطيعة الكبرى والتي دفع ثمنها اثنان: المتلقي العربي أولاً ، والشعر العربي ذاته ثانياً.
لقد ذهبَ كثيرٌ من النّقاد والشعراء، ممن كان يحسنُ بهم أن يقولوا في هذا الموضع، إلى مناحٍ تتبع قاعدة السلامةِ في التسكين، مما زادَ من غلواء هذه الاقصائيات وتغوّلها، بل وحرفَ مسيرة الشعر العربي عن المتابعة وجمّد حركته في حيّز المناكفات، والأنكى من ذلكَ ما تركه من أثرٍ قائمٍ في وعي المتلقي العربي، خلّفته مرحلة الضّياعِ بينَ هذه المتناكفات، وعزوفه عن أحد أهمِّ أركان الفنِّ القولي عند العرب على طول مسيرة حياتهم.
ونعودُ إلى غايتنا في هذا المقام، فنعرضُ هذه الأنواعِ على هذه المحددات جميعاً ونقارنُ ما لها وما عليها، لنجد مخرجاً إلى تراتبية القيمة في هذه الأشكال، ونبدأ من حيثُ انتهت هذه الأشكال الفنية زمناً، أي من معطيات تجربة النسيقة أو "قصيدة النثر".
التراتبية ومدلولاتها في قصيدة النثر:
رغم أن النسيقة أو قصيدة النثر العربية، هي أحدث ما اندرج من أنواع في حركة الشعر العربي، إلا أن هذه الجدة الزمنية ليست بقصيرة، فنحن نتحدّث عن تجربة كادت تكمل العقد السادس من عمرها، وهي ليست منعزلة ولا منغلقة، بل هي تحظى بكثافة العرض في المشهد الشعري العربي، كما تحتلُّ حيّزاً لا بأس به من الانتشار والحضور، إن على مستوى المسرح المباشر، أو على مستوى التناول النقدي، فقد حظيت بعدد وافر من الدراسات النقدية العربية ولا زالت.
ترتكزُ قصيدة النثر في بنية حركتها على ثلاثة أطر، أنها تحفل بالهامشِ دون الغرض، وتحتفي بالسرعةِ والاختصار، وتلهثُ خلفَ اللاإطارية زمناً ومكاناً، وهي بهذه السمات الرئيسة تحقِّق كما تقول شعرية الرسالة أي المنقول، وهذه الإضاءة ضرورة لتفهّم حركيتها الخاصة، لاحظ أن اللاغرضية لا تعني إطلاقاً اللارسالة، وإلا لكان هذا القول مجرّد عبث لغوي كسيح ولا معنى له.
إن عرض قصيدة النثر على المحدّد الأول، والمجال الذي بدأناه، أي المعايشة، يعطي قصيدة النثر العربية- تذكّر نتحدث عن نموذج تام لها- مكاناً جيّداً، فالنّص المنطلق من هذه العوامل الديناميكية الثلاثة، تجعل قصيدة النثر ذات سرعة قصوى تتيح المجال أمام معايشة مميزة، وتستغل قصيدة النثر سمة العصر الحديث في السرعة، في التجاوب مع هذا الاشتراط العصري للفن واللغة والفلسفة والعلوم، وتصبح معها فرساً جريئةً وذات حوافر قوية وقفزات عالية، ولا شكَّ أن سرعة هذا الأداء، تقدّم معها التخفّف من الغرض الشعري- هي لا غرضية-، وكلّما كان الهامش أوسع وكان الغرض أقلَّ كانت السرعة التحليقية أكبر.
أما عند العرض على مجال التعبيرية، فثمة مشكل بنيوي أساس لا يصلحُ معهُ تجاوزَ الاشكالات المتوالية التي يلدها، من المنطقي أن يكون في الإيجاز بلاغة أحياناً، وهي كما نعلم إحدى أهم صفات الدرس البلاغي، وهي ليست قائمة بذاتها، بل هي عامل مشترك في بنية الرسالة نفسها، وبالتالي فهي ليست عاملاً مستقلاً، يعني لو كانت الرسالة كلّها تنقل منقولاً مختصراً ، بغض النّظر عن طبيعة غرضيته، هامشياً أم متنياً – في صلب المتن - ، فإن التجانس هو الأهم ، في هذه الحالة تصبح قصيدة النثر مشترطة، بمعنى أن ذلك النوع منها والذي يسميه البعض "الومضة" ، هي الأمثل للتجانس مع اشتراط التعبيرية في هذا المقام، وإلا فإنه كلما طال جسد هذه الفرس وكبر حجم هيكله، بغض النّظر عن كونه يحمل كتلة ثقيلة أو خفيفة، يصبح هو مناط الحكم، وتكفي كتلته وحدها إلى معاناة شديدة فسقوط أكثر من متوقع، في أي قفزة مهما كانت صغيرة!
أي قصيدة نثر تقدّم كتلة كبيرة، وتدعي أنها تقفز كما يحلو لها، هي قافزة عن الحقيقة، وثمة خلل كبير في امتحانها التعبيري، مهما كانت وسائلها اللغوية التي ستكون بمثابة اضافات شكلية "أكسسوارات" على ظهر الحصان، ليس أكثر من هذا، وعليه فإن ركض قصيدة النثر إلى اللا إطار، وزعم التحليق هو زعم غير صحيح، إلا في حالة واحدة فقط، وهي أن يتم التعامل مع النص تعامل فيلم الكرتون، أي التصوير المقطعي، بحيث تتعدد المقاطع والتوقف معها، وفي هذه اللحظة ثمة عائق منهجي يهدّد أساس فكرة الانطلاق نفسها وحريتها في النص، بمعنى آخر تصبح متعارضة مع ذاتها، وتصبح أي شيء آخر إلا قصيدة النثر.
في مجال التفاعلية فإن ثمة عيب واضح وفاضح لهذه القصيدة، إذ لا يبدو أنها استطاعت أن تحقِّق درجة من المحصول الكافي ليشفع لها في هذا المجال، ثمة عدد من الشكايات والذرائع يسوقها البعض، يمكن قطعاً فهم بعض منها وتفهّمه، كأن يقال أن قصيدة النثر لا زالت مرفوضةً عند السّواد الأعظم من المتلقي العربي، بسبب الجدال السابق حول شرعيتها ومشروعيتها، أو أن يقال إن عدم إدراج هذا اللون في المناهج التعليمية، أدى إلى غربة مسبقة ومستبقة بين المتلقي العربي وبين الرسالة، لكن أن يقال مثلاً أن النماذج المترجمة منها تحظى بتفاعلية عالية، عند متلقٍ آخر هو عين الحمق، أو أن يقال مثلاً أن المتلقي العربي في طبعه الكسل ولا يبذل جهْداً لاقتناص الرسالة، فهذا عيبٌ في القائل وعيب في الرسالة، طالما أن الحديث هو عن نمط قولي عام، نحن لا نتحدّث عن الفلسفة كموضوع بغض النّظر عن القولبة الخاصة كفن أو علم أو غيره، نحن لا نتحدّث عن علم الاليكترونيات ولا عن برمجة الحاسوب!
صحيح أن بعض أسباب شيوع القطيعة في مجال التفاعلية موضوعي مقبول، وأن من حق هذا النمط الشعري أن يحظى بفرصة في تجاوز هذه المعيقات الموضوعية، لكن بالمقابل هناك عدة مجالات للقول بأن هذه القصيدة قد أتيح لها أن تعوّض عن هذا النقص وهذا الحاجز بطرق أخرى، وإذا تم التدقيق وجد أنها أكثر فاعلية وقوة، فأن تكون وسائل الاعلام العربية قد أتاحت هامشاً واسعاً عريضاً لهذا النمط، حتى بات أكثر من شائع معروف –بعضها مريض بالاقصائية له فقط- لعمرك يعتبر وقد عوّض جماهيرياً بعدة مراحل، كونه لم يدرج بشكل واسع في بعض المناهج مثلاً.
أما في مبحث المناقلة فهو مبحث كما قدّمنا، يعتمد على السابقة تماماً وفيه تبدو الفضيحة أكبر، فبينما جرى نقل الرسالة الشعرية منذ ألفي عام واستمرَّ حتى الساعة، مكتوباً وملفوظاً ومحفوظاً، لم نجد حالةً واحدة تشفع لقصيدة النثر العربية في هذا المجال، ثمة شكوك أساسية حول قابلية هذا النص لاستنطاق المناقلة، إذ لم نجد على سبيل المثال من حفظ مادة بعينها نثراً، إلا أن تكون نصّاً مقدساً أو خطبة قصيرة، وما تبقى كان عليه أن يخضع لجزئية التوثيق والتدويين من فنون النثر، لكنَّ الأمر ليس كذلك في مبحث الفن القولي الشعري، فكم عدد من حفظ وتناقل عشرات المئات من الأبيات؟
قصيدة العمود لا شكّ تحتل المرتبة الأولى في هذا المبحث، ثم تليها قصيدة السطر الشعري، أما الباب أمام قصيدة النثر فهو مقفول حتى الساعة بالمطلق، وثمة شكوك من إمكانية فتحه، ليست المناقلة مقفلة على الشاعر أو الناقد، هذه ليست مناقلة ، إن المناقلة مبحث مختص بالعقل والوجدان الجمعي العربي ،وشرطها الأساس الجماهيرية والتراثية ، وتنتج عن عملية تفاعلية ناجحة، وإلا لن تحدث!
أما آخر هذه المجالات فهي الموالدة، ومثلما كانت التفاعلية مؤثرةً في المناقلة، فإن المناقلة تؤثر بشكل ٍ رئيس في هذه الموالدة، كيف يمكن لنص أن يعود إليه عائد دونَ أن يكون قد حظي بنقل؟ إن مجرّد حصول النّص على فرصة النقل والمناقلة، تحفظ له فرصةً كبيرةً بأن يعود إليه عائد، ليعيش معه من جديد أسوة بمن سبقه، فهو بلا شك يحوز على فرصة من هذا الوجدان الجمعي العربي، ويأخذ طريقه إلى حظه في التوالد مع هذا النّص المنقول من جديد.
كم مرة وجدت نفسك تعود إلى قصيدة شعرية بعينها، فتعيشها من جديد وتتوالد معها قصداً كأنك تريد إعادة انتاجها في وجدانك من جديد، ثم لا تلبث أن تشبع هذه الحاجة الماسة، ربما تمثّلت بيتاً واحداً فقط، ربما درجت بعدة أسطر من قصيدة سطرية، لكن كم مرة عدت لتقرأ من مجموعة سطر شعري من جديد؟
هذا السؤال نحيله على الجميع من شاعر وناقد ومتلقٍ، يمكن لكل منهم أن يسجّل بينه وبين نفسه الإجابة ثم يعرضها على المجموع، ولو أمكن أخذ النتيجة على مدار عدة سنوات لكانت النتيجة الاحصائية أدق، بيد أنه حتى دون هذه التجربة المعملية الذاتية، فإن المشاهد المعلوم أن قصيدة النثر العربية ليست بحاظية بأدنى فرصة في نجاح ما، إزاء هذه المحددات الرئيس، كنا نتمنى لو كان غير ذلك، ولكن الواقع والفعلي أقوى من الأحلام.
أين النتيجة ؟
النتيجة أن قصيدة النثر العربية، تحتاج لأن تضيف لتعريفها سمة رئيس فيها، وهي أنها "غير منقولة ومستهلكة"، ووفق هذه الصفة فإن قصيدة النثر العربية يمكنها أن تبقى آنية، لكنها بعكس ما طمحت إلى أن تكون فيه مطلقة وحرة فهي مقيدة من جانب مفاعيلها وقيمتها، وهي على هذا النحو ستأتي بلا شكَّ في مؤخرة تراتبية القيمة في الشعر العربي.
إن الشعرية العربية لم تسلم من مراحل عرضت فيها، فنون القول الشعري لزحافات في الغرض، صحيح أنها لم تكن في المبنى ذاته، وبقي البناء وفق اشتراطات الهيكل الخارجي، وليس ضمن اشتراطات الجودة العامة التي تشترطها صفة "العمود" في شعر البيت، وإنما كانت النتيجة مشابهة إلى حدٍ كبير، حيث اختفت هذه الزحافات والإزاحات الطارئة والتي أطلق عليها "شعر عصر الانحطاط" ، ولم تعد قائمة إلا في مجال بحث تاريخ الشعري العربي وعصوره، بينما تجاوز الوجدان الجمعي العربي كل ذلك الكمّ الكبير من هذا النتاج، كما تجاوز آثاره.
نحن لا ندعو لقطيعة مع قصيدة النثر العربية، ولا نحكم عليها بالفناء الآني ، ولكننا نقول بشكل واضح أن هذه القصيدة وهذا اللون ساقط حكماً في مجالات أساسية تبحث في قيمة المادة الشعرية، ومن حق الشاعر مثلما من حق بعض المتلقين أو النقاد، أن يستمرَّ في التداول لهذه العملة، ولكن من حق الشعر العربي أيضاً ومن حق جمهور التلقي والنقد والشعر، أن يقف على قيمة هذه العملة الآنية، وأن يثق بأنها ليست منقولة، ولا تشكّل رصيداً حقيقياً، ولا يمكن البناء عليها، لأنها تجربة منقطعة.
يبقى أن نشير في ذات المقام، أنَّ هناك لا تزال قيمة في قصيدة النثر العربية، ولا يمكن بالقطع الانتهاء إلى أنها فاقدة لهذه القيمة، وأنها لا زالت أمام تجارب في زيادة هذه القيمة ورفع مستوى الشرائية فيها، وتلبية الحاجة والاشباعية من تداولها، لكنَّ هذه التجارب، لم تفتح أيِّ منفذ آخر، نحو ترصيد هذه القيمة، وبالتالي فإن ما عدا الاحتفاء الموضعي لا زال محض وهم وادّعاء.