*برنامج أمير الشعراء هذا كان ومضات من متعة فكرية استمرت شهرين من الزمان دخلت أروقة حياتنا الاعلامية فأضاءتها بالكلمة العربية الرائقة والشعر العربي الرفيع والمعاني والصور والتعابير التي رفعت المستمع والمشاهد العربي الى مستواها ولم تهبط به إلى حضيض الشهوات والسخافات والاستهانة بالعقول الذي تمارسه معظم القنوات الاعلامية العربية المنوعة.
يكفي هذا البرنامج شرفاً انه عرّف المواطن العربي على الشاعر الشاب المتميز "تميم البرغوثي" الفلسطيني المصري المدرس في الجامعة وحامل درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والمجاز في الهندسة ، وحامل همّ أمة عبّر بلسانه عن كل أوضاعها النفسية والفكرية ، وقال بشعره كل ماتقوله هذه الأمة في كل حال من أحوالها المعيشية ، وكتب بمداده كل تطلعاتها نحو النور والأمل والصبح القادم عبر وجهه الذي أضاء شاشة أبو ظبي في "أمير الشعراء " كما أضاء حياتنا الثقافية العربية الراكدة منذ سنوات بانتظار رجل مثل "تميم" ليقول لنا بكلماته البسيطة غير المعقدة ، كلمات يفهمها ويتحدث بها رجل الشارع ورجل الجامعة ، رجل المسجد ورجل الملهى ، النساء في بيوتهن والطلبة في مدارسهم ، المولودون في ديار الغرب كما المولودين في بلادنا بلاد الغربة !!. الجميع يفهمون كيف (يطير الحمام في القدس ليعلن دولته بين رصاصتين) ، كل عربي من مشرق الأمة إلى مغربها يفهم تماما ماذا يعني أن يكون (الصبحُ حُرٌّ خارجَ العَتَبَاتِ لَكِنْ ..إن أرادَ دخولَها فَعَلَيهِ أن يَرْضَى بحُكْمِ نوافذِ الرَّحمنْ) ! ، وليس العرب فحسب بل إن الأمة الاسلامية من أقصاها إلى أقصاها تفهم تماما ماذا يعني أن ينحني الهلال في السماء ويزداد تكورا على نفسه ( مثل الجنين ..تطورت مابينه وبين الأهلة فوق المآذن والقباب في الأرض علاقة الأب بالبنين ) !! ، ومن هذا الذي لايفهم في أرجاء الأرض كلها المعاني العظيمة المذهلة المحصورة في بيت واحد بسيط يحدثك بكل صدق الشباب وحكمة الشيوخ وإرادة البشر على سطح هذا الكوكب الحزين حيث (أبلغ القصيد جميعا أننا في زماننا أحياء) ؟ .
*لاأدري في واقع الأمر إن كانت برامج هذه المسابقات الإماراتية الرائعة ستستمر على ماهي عليه من احتكار الفوز فيها بالدرجات الاولى للإماراتيين فقط ، وبشكل ملفت لنظر القاصي والداني، الشيء الذي يجهض بعضاً من أهميتها، ويثني كثيرين عن المشاركة فيها مع الزمن، لكن الذي يعرفه القاصي والداني أن الشعراء الستة الذين ترشحوا في "أمير الشعراء" للمرحلة النهائية كانوا في الواقع على درجة متشابهة من الابداع والأصالة والصدق والإجادة اللغوية والفكرية والالتزام بمشكلات الشارع العربي والأمة الاسلامية، وكانوا جميعا يحملون همّ الأمة بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معان، وكان البعد الاسلامي أكثر من واضح في أشعارهم جميعا دون استثناء، تجسدت الصحوة الاسلامية التي شهدتها الامة منذ الثمانينات وبكل أبعادها في أشعار كل من جاسم الصحيح(السعودية)وروضة الحاج(السودان) ومحمد ولد الطالب (موريتانيا) وعبدالكريم معتوق (الإمارات)و تميم البرغوثي(فلسطين) وحازم التميمي (العراق) ، وذلك على الرغم من بعض التجاوزات الشعرية الفاحشة التي أتى بها الشاعر الاماراتي في الحلقة الأخيرة من البرنامج والتي اراد من خلالها وبشكل شديد الوضح أن يرد على "البرغوثي" وهو يخاطب الجماهير بأن ( لايحُل بينها وبين هواها عند إبرام أمرها وكلاء)!.
ولاأقول الشعراء الستة فحسب، بل لقد كان البعد الاسلامي شديد الحضور في كل ماقدمه الشعراء الخمسة والثلاثون الذي ترشحوا للجائزة، وبشكل غير مسبوق فرض نفسه على أشعارهم رقيا وفكرا وهماً رناناً جمع مابين الأصالة اللغوية العربية التي عبرت بشكل كامل عن ألم منطقة لم تستطع الحدود الجغرافية ولا السياسية أن تمزق وحدتها الفكرية والتاريخية والمصيرية والانسانية، كما عبرت معانيها الاسلامية عن ذلك الانتماء والولاء الكامل للوجود الاسلامي الذي وعى معظم الشعراء ارتباطه المصيري بالمنطقة العربية، فالتعددية الفكرية والدينية والمذهبية وحتى العرقية يمكن أن تنصهر في بوتقة هذين الاطارين يرسمان معاً اليوم حدود الوجود العربي في قلب الامة الاسلامية ، الشيء الذي لم يغب عن شعر أي من الشعراء المتسابقين.
* الاسم الوحيد من بين كل أولئك الشعراء الشباب والذي سيبقى ولأمد بعيد في أذهان الشباب العرب – من وجهة نظري المتواضعة على الأقل- هو اسم "تميم البرغوثي " لأنه كان الأمير الحقيقي الذي تربع على القلوب بسلاسة لغته وبديع صوره الجديدة الجميلة الذكية الرائعة في بساطتها وارتباطها بالارض والانسان والزمان الذي نعيش ، كما بروعة إلقائه التي كانت تنبض صدقا يتفجر من كل خلية من خلاياه هماً يحمله كل عربي، عرف "البرغوثي" كيف يتحدث عنه بكل الصدق والثورة التي تسكن قلبه الشاب :
(كفوا لسان المراثي إنها ترفُ
عن سائر الموت إن الموت يختلفُ
يامن تصيحون ياويلي ويالهفي
والله ..لم يأت بعد الويل واللهف ) .
كان يتحدث عن التاريخ ..تاريخنا كما أعرفه أنا وأنت وكل رجل وامرأة يسيران في السوق وكل طفلة وطفل يذهبان صباحا الى المدرسة، وكل امراة تنشر الغسيل في بيتها وكل رجل يمضي نحو مكتب الصرافة في سوق المال :
(شهدتَ تفرع تاريخنا كغصون الخيال
وشهدتَ وداعته حين كان بريئا كعين الغزال.
وشهدتَ تيبسه كقرون الوعول) .
إننا جميعا نعرف هذا التاريخ بمنحنياته وخطوطه البيانية ، ونعرف أن :
(يا أُمَّتي يَا ظَبْيَةً في الغَارِ ضَاقَتْ عَنْ خُطَاها كُلُّ أَقْطَارِ الممَالِكْ ..
في بالِها لَيْلُ المذَابِحِ والنُّجُومُ شُهُودُ زُورٍ في البُروجْ
في بالِها دَوْرِيَّةٌ فِيها جُنُودٌ يَضْحَكُونَ بِلا سَبَبْ
وَتَرَى ظِلالاً لِلْجُنُودِ عَلَى حِجَارةِ غَارِها
فَتَظُنُّهم جِنَّاً وتَبْكِي: "إنَّهُ الموْتُ الأَكِيدُ ولا سَبِيلَ إلى الهَرَبْ").
كلنا نعيش هذا الذي وصفه لنا "تميم البرغوثي" ، كلنا اعتبرناه ناطقا رسميا باسم الامة وهو يقول :
(يَا أُمَّتِي أَدْرِي بأَنَّ المرْءِ قد يَخْشَى المهَالِكْ
لَكِنْ أُذَكِّرُكُمْ فَقَطْ فَتَذَكَّرُوا
قَدْ كَانَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ قَبْلُ وَاْجْتَزْنَا بِهِ
لا شَيْءَ مِنْ هَذَا يُخِيْفُ، وَلا مُفَاجَأَةٌ هُنَالِكْ).
وهل هناك أبلغ من شاعر يتحدث بلسان الناس ولغة الناس وهموم الناس ، ويقول كل من سمعه : إنه يقول ماكنت أريد أن أقول !! : (الليل يبدو لأمتي أبدا..كأن وعد الصباح راح سدى..علقه فوقنا معلقه وراح عنا وعنه مبتعدا..كجيش غزوتترى كتائبه..كل كريم يلقاه منفردا).
*لكن تميم البرغوثي لايستحق التربع على عروش القلوب بسبب من لغته وأفكاره وإلقائه وحمله هموم الأمة فحسب ، لكنه تميز بشيء خاص تفرد به من بين الشعراء جميعا، وهو هذا الجمع المذهل بين الإلمام الكامل بهموم الأمة وملابسات واقعها الحزين وبين حقن هذه الأمة ودون هوادة وبدأب ملفت للنظر بحقن الإنعاش والأمل ورفدها بمعاني العنفوان والقدرة على الوقوف على قدميها من جديد مراهنا على هذه الجماهير التي لم تخذله، ومنها هذا الجمهور العجيب الذي كان حاضرا في مسرح "شاطيء الراحة" في أبو ظبي، هذا الجمهور الذي أذهلني في قدرته العجيبة على التقاط الفكرة البكر في مهدها وفي نفس اللحظة التي يلقي بها الشاعر اليه، مهما كانت عصية على من يسمعها اول مرة ، كان الجمهور منتبها ذكيا متألقا واعيا تماما لكل كلمة وصورة وفكرة يلقيها "البرغوثي" كما رفاقه من أمراء الشعر العربي الشباب في أيامنا هذه، كما كانت لجنة التحكيم على درجة رفيعة من الصدق والدقة بل لقد كان مايقوله أعضاؤها أهمّ في كثير من الأحيان من الشعر الذي يقومون بنقده، إنه يحق لنا أن نفتخر بهذا البرنامج المتفرد على الرغم من أن نتيجة التتويج النهائية لم تعجب الكثيرين ، كما يحق لنا أن نفتخر بالأعضاء الخمسة في لجنة التحكيم وهذا المستوى الادبي الفكري السلوكي الرائق الذي قدموا لنا من خلاله صورة غير مسبوقة في الاعلام العربي عن مجموعة محترمة من المفكرين الذين يحترمون انفسهم ويحترمون جمهورهم ويحترمون الأمة على الرغم من تنوع أفكارهم ومشاربهم، وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي لم يكن في مكانه والذي وجهه احد أعضاء التحكيم للشاعر المتألق تميم البرغوثي في الحلقة الأخيرة من البرنامج!! كما يحق لنا أن نفتخر بالشعراء الخمسة والثلاثين الذين وصلوا الى البرنامج من أصل آلاف من الشعراء الشباب العرب الذين تقدموا الى هذه المسابقة، كما يحق لنا أن نفتخر بامارة ابو ظبي التي استطاع أن يقف فيها شاعر مثل "تميم الرغوثي" ليقول ماقال دون أن يحجر عليه أحد أو يقطع كلامه أحد أو يؤذيه أحد في نفسه ولا في شعره ، كذلك يحق لنا أن نفتخر أن برنامجا تلفزيونيا ثقافيا بمثل هذه الأبعاد استطاع ان يقدم لنا شاعرة كالشاعرة السودانية المتألقة المذهلة روضة الحاج أو الشاعر الموريتاني المبدع ولد الطالب أو الشاعر العراقي حازم التميمي أو الشاعر السعودي جاسم الصحيح ذو القامة الشعرية السامقة من حيث اللغة والصورة والابداع والفكرة ،والشاعر الاماراتي عبد الكريم المعتوق الذي جاء بما لم نسمع به من قبل عندما تحدث عن تواضع الشعراء وحب الامهات وتلك المشاعر الانسانية العامة غير المعروفة عادة بمثل هذا الوضوح في الشعر العربي .
ولكننا مع ذلك كله نريد أن نفتخر بشاب فلسطيني مصري ، أمه رضوى المصرية الأستاذة في الجامعة وأبوه مريد الفلسطيني الشاعر الذي عرفناه بابنه ، الذي كتب عن حبه وعشقه لمصر ملحمة رائعة العيب فيها انها لم تكن باللغة العربية الفصحى ، كتب عن عشقه لمصر وهو يعاتبها ففهم البعض أنه لايحب مصرا وينتقدها وفهمنا أن هذا ابلغ أنواع الحب لبلدك الذي تضعه بين الرمش والعين وتعرف كل عيوبه وتحمل كل آلامه كأنه وجع الروماتزم في مفاصلك ولكنك لاتستطيع أن تتخلى عنه لأنك تحبه وتعشقه وتعرف فضله عليك ولو أنهم أبعدوك عنه وطردوك منه وحرموك فيه من مرافقة أمك في أيامها الأخيرة وسماع كلماتها الأخيرة وتشييعها إلى مقرها الأخير في الدنيا!! ، إنني اعشق بلدي بنفس الطريقة التي يعشق بها "البرغوثي" مصر ، وكل من يسمعني أتحدث عن دمشق تثار لديه مشاعر كالتي أثارتها قصيدة البرغوثي عن ماإذا كان يحب مصرا:
(قالولي بتحب مصر فقلت مش عارف!!
المعنى كعبة وانا بوَفْد الحروف طايف.
ما يجيش في بالي هرم ما يجيش في بالي نيل
ما يجيش في بالي غيطان خضرا وشمس أصيل.
.ولا جزوع فلاحين لو يعدلوها تميل
حكم الليالي ياخدهم في الحصاد محاصيل
ويلبّسوهم فراعنة ساعة التمثيل
وساعة الجد فيه سخرة وإسماعيل
ما يجيش في بالي عرابي ونظرته في الخيل..
وسعد باشا وفريد وبقيّة التماثيل
ولا ام كلثوم في خِمسانها ولا المنديل..
الصبح في التاكسي صوتها مبوظُّه التسجيل
ما يجيش في بالي العبور وسفارة اسرائيل
ولا الحضارة اللي واجعة دماغنا جيل ورا جيل
قالولي بتحب مصر أخدني صمت طويل
وجت في بالي ابتسامة وانتهت بعويل).
*لقد تربع البرغوثي على إمارة القلوب بكل قصيدة تحدث فيها عن الصبح وكم هي كثيرة : (يَا أُمَّةً في الغَارِ مَا حَتْمٌ عَليْنَا أَنْ نُحِبَّ ظَلامَه
إِنِّي رَأَيْتُ الصُّبْحَ يَلْبِسُ زِيَّ أَطْفَالِ المَدَارِسِ
حَامِلاً أَقْلامَهُ وَيَدُورُ ما بينَ الشَّوارِعِ، بَاحِثاً عَنْ شَاعِرٍ يُلْقِي إِلَيْهِ كَلامَه
لِيُذِيعَهُ للكَوْنِ في أُفُقٍ تَلَوَّنَ بِالنَّدَاوَةِ وَاللَّهَب
يَا أُمَّتِى يَا ظَبْيَةً في الغَارِ قُومِي وَاْنْظُرِي..ألصُّبْحُ تِلْمِيذٌ لأَشْعَارِ العَرَبْ).
هاهو يتحدث باسم الهلال: (أنا الاحتمال..أنا الليل حين يخالف فطرته ويضيء
أنا الاحتمال الضئيل
أقول لكم : إن شمسا ماتزال هنا في زوايا السماء ..ووجهي عليها الدليل).
واذا مااحلولك الظلام وحتى في حديثه العفوي الارتجالي عن الليل يتحدث "تميم" عن الصبح القريب الآتي :
(لكن
اذا ما أبصرت أوجهكم وجدت وجه الظلام مرتعدا
فالصبح مولودكم ووالدكم
أكرم به والدا وماولدا
لاتحزنوا ان غزوا بلادكم
في كل صبح
سنبتني بلدا).
الأمل لدى البرغوثي همّ ٌ آخر من هموم الامة ، يعبر عنه تارة بالصبح ، وأخرى بالهلال ، وثالثة بوجوه الناس الذين لم يكن يخطب ودّهم ولكنه كان يخاطبهم يحمل إليهم رسالة :
( أيها الناس ..أنتم الأمراء ..يانجوما تمشي على قدميها كلما أظلم الزمان اضاؤوا) ، (في القدس السماءُ تَفَرَّقَتْ في الناسِ تحمينا ونحميها
ونحملُها على أكتافِنا حَمْلاً
إذا جَارَت على أقمارِها الأزمانْ).
إنه يتحدث إلى أمة فسحت له أبو الظبي الفرصة ليتحدث إليها : (يا أُمَّنا، والموتُ أَبْلَهُ قَرْيَةٍ يَهْذِي وَيسْرِقُ مَا يَطيب لَهُ مِنَ الثمر المبارَكِ في سِلالِك
وَلأَنَّهُ يَا أمُّ أَبْلهُ، فَهْوَ لَيْسَ بِمُنْتَهٍ مِنْ أَلْفِ عَامٍ عَنْ قِتَالِكْ
حَتَّى أَتَاكِ بِحَامِلاتِ الطَّائِرَاتِ وَفَوْقَها جَيْشٌ مِنَ البُلَهَاءِ يَسْرِقُ مِنْ حَلالِكْ
وَيَظُنُّ أَنَّ بِغَزْوَةٍ أَوْ غَزْوَتَيْنِ سَيَنْتَهِي فَرَحُ الثِّمارِ عَلَى تِلالِكْ
يَا مَوْتَنَا، يَشْفِيكَ رَبُّكَ مِنْ ضَلالِكْ!)
إنه يحمل رسالة وأمانة ويريد أن يبلغها ولايخشى فيها لومة لائم :
(يا أُمَّتي أَنَاْ لَستُ أَعْمَىً عَنْ كُسُورٍ في الغَزَالَةِ،
إنَّهَا عَرْجَاءُ، أَدْرِي
إِنَّهَا، عَشْوَاءُ، أَدْرِي
إنَّ فيها كلَّ أوجاعِ الزَّمَانِ وإنَّها
مَطْرُودَةٌ مَجْلُودَةٌ مِنْ كُلِّ مَمْلُوكٍ وَمَالِكْ
أَدْرِي وَلَكِنْ لا أَرَى في كُلِّ هَذَا أَيَّ عُذْرٍ لاعْتِزَالِكْ
يا أُمَّنا لا تَفْزَعِي مِنْ سَطْوَةِ السُّلْطَانِ. أَيَّةُ سَطْوَةٍ؟
مَا شِئْتِ وَلِّي وَاْعْزِلِي، لا يُوْجَدُ السُّلْطَانُ إلا في خَيَالِكْ).
أنها رسالة وأمانة وأمنية ، إنه همّ حياة استطاع بالفعل مريد ورضوى من مصر وفلسطين أن يجسداه في ولدهما الذي لم يبلغ الثلاثين ربيعا والذي كان يصغرأصغر شاعر من الشعراء الستة النهائيين بعشرة أعوام على الاقل ، ولعل في هذا وحده ماأهله للتربع على عرش قلوب الشباب من المحيط الى الخليج ، إنه شاب يمثل هذا الجيل جيل الصحوة ، جيل الانتفاضة ، جيل تعانق الهم العربي مع الهم الاسلامي في منطقة محكومة بأن تحتضن كل الصراعات الفكرية والسياسية والاقتصادية في العالم ، إنه يمثل جيلا عريضا من شبابنا الذين لاينتمون الى اي اتجاه فكري أو سياسي أو ديني في هذه الأمة إنه ينتمي إلى الأمة وحسب ، ينطق باسمها يحمل همّها ولايبكي حالها لأنه مشغول بالغناء للصبح الذي يراه قريبا ، إنه مشغول بأن يدلها على طريق الخلاص ، أن تتحرك أن تهتز أن تتزلزل أن تقوم ...فإنه أمر طبيعي كذلك !! أمر طبيعي أن تقوم أمة من مواتها ولو مرة كل خمسين عاما!!.
في كل قصيدة سمعناها كان يصر "البرغوثي " على تعميق إحساس الناس بإنسانيتهم بقدرتهم على الفعل بالفجر المناط قدومه بعيونهم وأيديهم :
(اللهُ أكبرُ تحتَ القصـفِ تَنْدَفِعُ وكلَّما ضاقَ عنها الأُفُـقُ يَتَّسِعُ
إن القَنَابِلَ تَهـْوِي وَهْيَ تَرْتَفِعُ.. نُبُوءَةٌ أَسْمَعَتْكُمْ لَوْ لَكُـمْ سَمَعُ
لا جِنَّ يَحْضُرُ إلا سَوْفَ يَنْصَرِفُ
عَنِّي خُذُوها وقُولُوا قَالَ بَشَّارُ لا تدَّعُوا العجزَ ما في العجزِ أعذارُ
تَعَمُّدُ المَــرءِ للنسيانِ تِذْكارُ وبعضُ من حَزِنُوا في حُزْنِهـم عارُ
والحزن كالذنب بالإخفاءِ يَنْكَشِفُ
لا تدّعوا العجزَ فالأعمَى له بَصَرُ والريحُ مجتاحـةً يجتاحُـها الشَّجَرُ
كما تُكَسِّرُهُ فالرِّيـحُ تَنْكَـسِرُ لا يَعذُرُ المـوتُ من يأتِـيهِ يَعتَذِرُ
وقُوَّةُ السيفِ فاعلمْ، أصلُها رَهَفُ
كُفُّوا لسانَ المراثي نها تَرَفُ).
وكيف نفعل إذا شوهوا الحقائق ؟ :
(يَبْقَى لَدَيَّ إذا ضاعَ الكلامُ سُدَى..نخلَ العراقِ اسْرُدِ التاريخَ مُكتَمِلاً ..كما شَهِدْتَ عليهِ لا كما وَرَدَا
يا رافعَ التمرِ عن أَيْدِي الرجالِ فلا يَنالُهُ أَحَدٌ إلا أذا صَعَدَا).
دون صعود وتشمير وحركة وعمل لن تنال هذه الأمة مبتغاها ، إنه صوت شاب يتكلم بلسان حال معظم شباب هذه الأمة الأحرار ، شاب درس واجتهد وعمل وقام وتحرك وبذل غاية مايمكن أن يبذله الانسان في هذه المنطقة المنكوبة بالكسل والوهن كما بالسياسات الخرقاء والعمالات والخيانات الحمقاء:
(فقال الهلال ..أنا الاحتمال..أنا الليل حين يخالف فطرته ويضيء
أنا الاحتمال الضئيل
أقول لكم : إن شمسا ماتزال هنا في زوايا السماء
ووجهي عليها الدليل
أنا الاحتمال الخفيف الثقيل..يوقن الراصدون بأن لاصباح سيطلع مني
لأني ضعيف نحيف هزيل
ولكنهم يذهلون إذا ماأًطَلَ عليكم بوجهي صباح جديد
لم أغب كنت أحضره من مكامنه.أي ..نعم مثل معجزة أتيت به
فأنا الميت الحي فيه فاذكروني إذا جاء صبح ففي كل صبح هلال جديد).
إنه مجرد شاب عربي لايدعمه نظام ولاحزب ولاحركة ولااتجاه سياسي أو ديني ، إنه مجرد شاب حر كريم شجاع يدعو الأمة أن تتبصر بأحوالها المزرية المخزية ولكن من خلال تذكيرها بقدراتها وبتاريخها وبقدرها الذي يحتم عليها أن تتحرك :( إنا نموت وفي أسماعنا شرف
حيي المآذن تحت القصف تنتصب ..حتى الطيور التي من حولها عرب
تطمئن الأهل إذ يجتاحها اللهب ..أنا بخير فلا خوف ولا رهب
ما زلت أقصف لكن لست أنقصف).
*توحدت في شخصه هاتان الفرقتان المشغولتان في فلسطين عن فلسطين بكراسي السلطة وشهوة السيطرة والرغبة في الحكم ، أنساهما "البرغوثي" وهو في جولته المقدسة تلك في القدس همّ الكراسي ووجع الكراسي وقرف الكراسي :( في القدسِ صَلَّينا على الأَسْفَلْتْ
في القدسِ مَن في القدسِ إلا أنْتْ؟؟.
وَتَلَفَّتَ التاريخُ لي مُتَبَسِّماً
أَظَنَنْتَ حقاً أنَّ عينَك سوفَ تخطئهم، وتبصرُ غيرَهم
ها هُم أمامَكَ، مَتْنُ نصٍّ أنتَ حاشيةٌ عليهِ وَهَامشٌ
أَحَسبتَ أنَّ زيارةً سَتُزيحُ عن وجهِ المدينةِ يابُنَيَّ
حجابَ واقِعِها السميكَ لكي ترى فيها هَواكْ
في القدسِ كلًّ فتى سواكْ
في القدسِ من في القدسِ إلا أَنْتْ
يا كاتبَ التاريخِ مَهْلاً،
فالمدينةُ دهرُها دهرانِ
دهر مطمئنٌ لا يغيرُ خطوَه وكأنَّه يمشي خلالَ النومْ
وهناك دهرٌ، كامنٌ متلثمٌ يمشي بلا صوتٍ حِذار القومْ).
لكن البرغوثي لم ينشغل بهؤلاء القوم واقتتالهم واستباحتهم دماء بعضهم البعض في فلسطين ، كان نظره أبعد وهمه اكبر يمتد عبر التاريخ ويستشرف المستقبل ولايقف عند هؤلاء الذين لايصنعون التاريخ ولكنهم اكتفوا بمحاولة تسويد المزيد من صفحاته السوداء ، ترك البرغوثي الأمة مذهولة برائعته البديعة في القدس وحملها لتطير متجاوزة زماننا الأجرب نحو كل الأزمنة :
(في القدس تنتظمُ القبورُ، كأنهنَّ سطورُ تاريخِ المدينةِ والكتابُ ترابُها
الكل مرُّوا من هُنا
فالقدسُ تقبلُ من أتاها كافراً أو مؤمنا
أُمرر بها واقرأ شواهدَها بكلِّ لغاتِ أهلِ الأرضِ
فيها الزنجُ والإفرنجُ والقِفْجَاقُ والصِّقْلابُ والبُشْنَاقُ
والتاتارُ والأتراكُ، أهلُ الله والهلاك، والفقراءُ والملاك، والفجارُ والنساكُ،
فيها كلُّ من وطئَ الثَّرى
كانوا الهوامشَ في الكتابِ فأصبحوا نَصَّ المدينةِ قبلنا
يا كاتب التاريخِ ماذا جَدَّ فاستثنيتنا).
جال بنا في القدس في سيارة تاكسي صفراء تدور على الأمكنة وتسجل جغرافيتها عينه التي لاتخطيء المكان فهو مكانه رغم الحرمان ، ولا تخطيء الزمان فهو زمان القدس رغم الاستيطان ، ولا تخطيء الانسان .. ليتيقن كل من يسمع القصيدة أنه لاشيء يدوم في القدس إلا هو ..في القدس من في القدس إلا أنت؟!.
*هذا هو تميم البرغوثي أمير الشعراء الذي لم يعطيه العرب حقه من النقد والدرس والتغطية الاعلامية اللائقة به وبالبرنامج الإماراتي المتميز الذي قدمه هدية غالية للعالم العربي ولشباب وفتيان العالم العربي اليوم الذين لايكادون يجدون شخصية يتمسكون بها ويقتفون آثارها وينسجون على منوالها إلا الراقصين والراقصات والساقطين والساقطات ، إنه زمن نحتاج فيه إلى هذا الصوت الندي وهذا العزف الشجي على وتر وجودنا المؤلم ، زمن يفتقر فيه شباب الأمة وفتيانها إلى مثلٍ وقدوة في حياتهم يتمتع بمثل هذه الشجاعة وهذه العصامية وهذه الشخصية الفذة في أيامنا العجاف النحسات ، زمن بين زمنين يؤذن بصبح جديد يخرج من وجوه شبابنا، من قلوب أبناء الجيل الآتي ، جيل الصحوة والانتفاضة ، جيل لايلوي على أخطاء الذين سبقوه ولا يلتفت إليها لأنه مشغول بالبحث عن كوى الخلاص والنور : ( معين الدمع لن يبقى معينا..فمن أي المصائب تدمعينا
زمان هون الأحرار منا ..فديت، وحكم الأنذال فينا
لو أن الدهر يعرف حق قومي ..لقبل منهم اليد والجبينا
عرفنا الدهر في حاليه حتى تعودناهما شداً ولينا.
سنبحث عن شهيد في قماط ..نبايعه أمير المؤمنينا
ونحمله على هام الرزايا..لدهر نشتهيه ويشتهينا
فإن الحق مشتاق إلى أن ..يرى بعض الجبابر ساجدين).