مصطلح عمود الشعر لغةً واصطلاحًا .
المبحث الأول : عمود الشعر لغةً واصطلاحًا .
في اللغة : العمود: عمود البيت وهو الخشبة القائمة في وسط الخباء، والجمع أعمدة وعمد، وعمود الأمر : قِوامه الذي لا يستقيم إلا به، والعميد : السيد المعتمد عليه في الأمور أو المعمود إليه(1).
وفي الاصطلاح : هو طريقة العرب في نظم الشعر لا ما أحدثه المولدون والمتأخرون، أو هي القواعد الكلاسيكية للشعر العربي التي يجب على الشاعر أن يأخذ بها، فيحكم له أو عليه بمقتضاها(2).
ويُعرَّف كذلك بأنه : هو مجموعة الخصائص الفنية المتوفرة في قصائد فحول الشعراء، والتي ينبغي أن تتوفر في الشعر ليكون جيدًا .
ويُعرَّف بأنه : التقاليد الشعرية المتوارثة أو السنن المتبعة عند شعراء العربية، فمن سار على هذه السنن، وراعى تلك التقاليد، قيل عنه: إنّه التزم عمود الشعر، واتبع طريقة العرب، ومن حاد عن تلك التقاليد، وعدل عن تلك السنن قيل عنه: إنّه قد خرج على عمود الشعر، وخالف طريقة العرب .
يلاحظ في المعنى المُعجمي أنه لم يُذكر ارتباط كلمة العمود بالشعر كما هو الأمر في المعنى الاصطلاحي، إلا أن هذا لا ينفي أن يكون المعنى الاصطلاحي مستوحىً من المعنى اللغوي، فكما أن خشبة بيت الشَعر هي الأساس الذي يقوم عليه ذلك البيت، فإن أصول الشعر العربي وعناصره التي يُشير إليها المعنى الاصطلاحي تُعدُّ أيضًا بمثابة الدعامة والركيزة الأساسية التي لا يقوم نظم الشعر الجيد الصحيح إلا عليها .
المبحث الثاني : المصطلح عند الآمدي .
الفرع الأول : نشأة مصطلح عمود الشعر عند الآمدي .
عند تتبع هذا المصطلح تاريخيًا، فإنني لا أجدُّ من النقاد قبل الآمدي من تحدث عن عمود الشعر بهذا اللفظ، وإنما نحن نواجه هذا المصطلح عنده لأول مرة، لذا فإنه يُنسب له فضل الإسهام في تأسيس هذا المصطلح وتأصيله، ولكن من أين استمد الآمدي هذا المصطلح ؟ وكيف استطاع أن يقع عليه ؟ .
لا يمكن القطع برأي محدد في مصدر هذا المصطلح عن الآمدي، وإنما نحن نفترض افتراضًا أن يكون الآمدي استفاد في وضعه من بعض المصطلحات التي ترد كثيرًا في كتب النقد القديمة مثل : مذهب الشعر، وطريقة الشعر، ومذاهب العرب، ومسالك الأوائل، وما شاكل ذلك من العبارات التي تقترب من معنى عمود الشعر .
أو لعله استفاد من مصطلح (عمود الخطابة) الذي ورد عند الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، فقد جاء فيه : " أخبرني محمد بن عباد بن كاسب ... قال سمعت أبا داود بن جرير يقول : " رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحليها الأعراب "(3).
أو لعله استفاد من بعض عبارات أخرى للجاحظ في قوله : " وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة ... وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، ... فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالاً "(4).
كما أن ربط الآمدي بين الجانب الشكلي لأبيات القصيدة العربية وبيت الشعر، مسكن العرب قديمًا قد يكون واردًا؛ لأن الشعراء أحبوا أن يجعلوا الأقاويل مرتبة ترتيب أحويتهم وبيوتهم في البصر، فقصدوا أن يحاكوا بيوت الشعر التي كانت مساكنهم، ولما قصدوا أن يجعلوا هيئات ترتيب الأقاويل الشعرية ونظام أوزانهم بمنزلة وضع البيوت وترتيبها فتأملوا البيوت فوجدوا لها كورًا أي جوانب وأركانًا وأقطارًا أي نواحي وأعمدةً وأسبابًا وأوتادًا، وجعلوا الوضع الذي يُبنى عليه منتهى شطر البيت، وينقسم البيت عنده نصفين بمنزلة عمود البيت الموضوع وسطه(5).
وفي رأيي أن الآمدي لم يحدد مفهوم عمود الشعر وعناصره بالشكل الدقيق، وإنما هو شيء سنحاول أن نستنبطه من ثنايا كلامه على كل من مذهبي أبي تمام والبحتري، وعن تصوره الخاص لطريقة الشعر عند العرب .
وقد صرّح الآمدي بلفظ عمود الشعر أكثر من مرة بوصفهِ شيئًا معروفًا ومتداولاً بين الناس، ثم نص صراحةً على أن البحتري قد التزم هذا العمود ولم يخرج عليه، فقال : " أن البحتري كان أعرابي الشعر مطبوع، وعلى مذهب الأوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف "(6).
وفي حين يرى الآمدي أن أبا تمام خرج عليه، ولم يقم به كما قال البحتري، حين قال على لسان البحتري الذي سُئل عن نفسهِ وعن أبي تمام فأجاب : " كان أغوص على المعاني مني، وأنا أقوم بعمود الشعر منه "(7).
ومن الواضح أن الآمدي قد نسب هذا المصطلح إلى البحتري في قولهِ السابق حين سُئل عن نفسه وعن أبي تمام، فكان جوابه بأنه أقوم بعمود الشعر منه، وفي رأيي أنه لو ثبت أن البحتري قد قال ذلك حقًا لكان هو أقدم من استعمل هذا المصطلح في حدود ما وصل إلينا، ولكننا لا نجد هذا الخبر إلا في كتاب الموازنة، مما يجعلنا نعتقد تمامًا أن الآمدي يسوق معاني البحتري بألفاظه ومصطلحاته الخاصة .
وهذا يؤكد في رأيي بأن المصطلح قد جاء من الآمدي خدمةً للبحتري، أي تأييد الآمدي لشعر البحتري؛ لأنه أتهم أبا تمام بالخروج عليه، بيد أن المرزوقي والجرجاني كما سنرى لاحقًا تحدثا عن عمود الشعر ولكن لم يتهما أبا تمام بذلك .
ويرد مصطلح (عمود الشعر) في موضع آخر من كتاب الموازنة على لسان البحتري يقول : " وحصل للبحتري أنه ما فارق عمود الشعر وطريقته المعروفة، مع ما نجده كثيرًا في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة "(8).
يدل النص السابق على قبول الآمدي للصنعة في عمود الشعر، إذ لم تخرج إلى حيز الإفراط والمبالغة، وما نجده في طريقة البحتري التي هي (عمود الشعر)، إنها لم تكن خالية من الصنعة باعتراف الآمدي نفسه .
ويقول الآمدي في شأن ذلك : " وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ، واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في موضعها، وأن يورد المعاني باللفظ المعتاد فيه المستعمل في مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له وغير منافرة لمعناه، فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف، وتلط طريقة البحتري "(9).
فطريقة البحتري هذه ـ كما يتحدث عنها الآمدي ـ لم تنفِ أن يكون فيها صنعة، كما أن البحتري كان يأخذ من فنون البديع وأشكاله، حتى كاد بعض النقاد أن يلحقه بأبي تمام في ذلك، ويجعلها طبقة واحدة، كما فعل ابن رشيق القيرواني حينما قال : " وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما، فقد كانا يطلبان الصنعة، ويولعان بها "(10).
إذن يمكن القول بأن عمود الشعر عند الآمدي لا يتجافى مع الصنعة، ما دامت في حدودٍ مقبولة، لا تبلغ الإفراط الزائد، ولا تصل إلى التكلف المذموم، والشاعر الذي يحسن تناولها بهذه الصورة شاعر مطبوع، على مذهب العرب، ولم يفارق عمود الشعر العربي .
ونودُّ أن نُشير إلى أن مصطلح (عمود الشعر) الذي ورد في كتاب الموازنة للآمدي، وذكره ثلاثة مرات تصريحًا، كان بمعنى قِوام الشعر وملاكه الذي لا ينهض إلا به حتى يُقال عنه أنه شعر، والمرجعُ في ذلك أشعار العرب القدماء في معانيها وصياغتها وصورها .
ونخلص مما سبق بأن الآمدي هو أول من حام حول ما أسماه (عمود الشعر) وحدده بالصفات السلبية وأورد ما تورط فيه أبو تمام من تعقيد، وألفاظ مستكرهة، وكلام وحشي، وإبعاد في الاستعارة، واستكراه في المعاني، مما لو عكسنا تلك الصفات لأصبحت صفات البحتري في شعرهِ .
وليس من شك في أن الآمدي كان يُؤثر طريقة البحتري، ومن أجل ذلك جعلها (عمود الشعر) ونسبها إلى الأوائل، وصـرّح لنا بأنه من هذا الفريق يقول : " والمطبوعون وأهل البلاغة لا يكون الفضل عندهم من جهة استقصاء المعاني والإغراق في الوصف، وإنما يكون الفضل عندهم في الإلمام بالمعاني وأخذ العفو منها كما كانت الأوائل تفعل، مع جودة السبك وقرب المأتى، والقول في هذا قولهم، وإليه أذهب "(11) .
الفرع الثاني : تصور الآمدي للمصطلح .
كما ذكرنا سابقًا بأن الآمدي قد بدأ في مصطلح (عمود الشعر) منتصرًا للبحتري؛ لأنه أكثر التزامًا بتقليد أساليب القدماء في الشعر، تلك الأساليب التي يُشير إليها هذا المصطلح، فكان أول من أسس له، بعدما كان الجاحظ قد ألمح إليه(12).
إذن فالآمدي تحدث من خلال (عمود الشعر) عن تصوره للشعر وطرائقه ومناهجه من خلال شعر البحتري أنموذجًا للشعر القديم، فقد تحدث عنه من حيث الأسلوب، ومن حيث المعاني، ومن حيث الأخيلة والصور .
أما الأسلوب فإن عمود الشعر ينشد في الألفاظ السهولة والألفة، وألا تكون ألفاظًا حوشيه غريبة، والشعر يؤثر السهولة والوضوح، ويتجه إلى الشعر القريب الذي يخاطب القلب من أسهل الطرق، وبالتالي فهو يُنفر من كل ما يمكن أن يُفسد في الشعر بساطته ويبعده عن عفويته أو يعقده ويغمضه(13).
فالآمدي يُنفر من الفلسفة والأفكار الدقيقة إذا دخلت في نسيج الشعر؛ لأنها تجعله بحاجةٍ إلى استنباط وإدامة النظر والتفكير، فيصبح الشعر بعيدًا كل البعد عن عمود الشعر العربي المعروف، ويُخرج صاحبه من دائرة الشعراء والبلغاء، ويُسمى وقتها حكيمًا أو فيلسوفًا؛ لأن طريقته ليست طريقة العرب ولا على مذهبهم(14).
إذن فأصحاب عمود الشعر هم من أنصار اللفظ الذين يكون الفضل عندهم لسلامة السبك، وجودة الرصف، وإشراقه ديباجة الشعر، وحسن اختيار الألفاظ، وإيقاعها في الجملة موقعها الملائم بحيث تكون مشاكله لما قبلها، وما بعدها، وملائمة للمعنى الذي اُستعملت فيه بلا زيادة ولا نقصان(15).
ومما يحرص عليه الآمدي وهو يرسم عناصر عمود الشعر قرب الاستعارة، وهذا القرب يتأتى إذا كانت العلاقة واضحة بين المشبه والمشبه به، وكل ما كانت الصلة واضحة بين هذين الركنين، وكان وجه الشبه الذي يربطهما متميزًا جليًا كانت الاستعارة قريبة، وبالتالي مستحسنة(16).
كما أن الاستعارة تكون قريبة حينما تحمل اللفظة المستعارة معنى أو فكرة تصلح لذلك الشيء الذي اُستعيرت له، أما إذا استعرنا ما كلمة لا تصلح له، أو لا تتناسب معه فهي عندئذٍ استعارة مستكرهة، ويقول الآمدي : " وإنما تُستعار اللفظة لغير ما هي له إذا احتملت معنى يصلح لذلك الشيء الذي استعيرت له ويليق به؛ لأن الكلام مبني على الفائدة في حقيقته ومجازه، وإذا لم تتعلق اللفظة المستعارة بفائدة في النطق فلا وجه لاستعارتها "(17).
إذن فنستنتج مما سبق بأن الاستعارة من أسباب خروج أبي تمام على عمود الشعر؛ لأن استعارته اتسمت بالبعد، فأصبح شعره " لا يشبه الأوائل، ولا على طريقتهم، لما فيه من الاستعارات البعيدة "(18).
فإذن فالآمدي يولي عنايةً خاصة في عموده للأسلوب، فهو يهتم كثيرًا بجودة السبك، وسلامة التأليف، ونصاعة ديباجة الشعر وحلاوة اللفظ، وكذلك أن تقع الألفاظ في مواقعها المناسبة في الجملة مشاكلة معانيها وغير متنافية معها .
ويمكن القول : أن الآمدي كان يتمثل شعر البحتري وهو يضع عناصر عموده، لا بل إن بعض الدارسين يرى أن عمود الشعر عنده جاء صورةً لشعر البحتري، ووُضع أساسًا خدمةً له، فعناصر ذلك العمود هي الخصائص التي تتوافر في شعر البحتري، ويتجافى عنها شعر أبي تمام(19). في حين يرى إحسان عباس أن عمود الشعر عند الآمدي نظرية وُضعت خدمةً للبحتري وأنصاره فأبعدت الموازنة عن الإنصاف(20).
إذن يمكن القول بأن الآمدي قد نعى في مواضع كثيرة من الموازنة على أبي تمام استعماله الغريب المستكره من الألفاظ، مما يعد مخالفة لعمود الشعر، وأشاد في المقابل كثيرًا بالبحتري؛ لأنه ابتعد عن ذلك، وآثر ما سهل من الألفاظ، وكان خفيف الوقع مأنوسًا مفهومًا لدى كل الناس .
ونخلص مما سبق بأن عمود الشعر عند الآمدي من حيث الأسلوب كان ينفر من الألفاظ الغريبة، والكلمات غير المألوفة، فهي لا تتفق مع جمال السبك، ورشاقة الرصف اللذين ينشدهما، ولا تتفق أيضًا مع ما يتطلبه عمود الشعر في الشعر من سهولة وبساطة، وبعد عن التكلف والتعقيد والغموض .
أما من حيث المعاني فعمود الشعر يوليها المرتبة الثانية بعد حسن الأسلوب، وسلامة التأليف وهو يؤثر فيها السهولة والبساطة والوضوح، فالشعر في نظر الآمدي تصوير للأحاسيس والعواطف، وهو حديث إلى القلب والمشاعر، فهو بذلك ينفر من المعاني الصعبة، والأفكار الدقيقة التي تحوج إلى طول تأمل وتفكر، وإلى استنباط واستخراج(21).
ولذلك نجده ينتصر للبحتري؛ لأنه كان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ، ووحشيّ الكلام، أمّا أبو تمام فإنه في رأيه فارق عمود الشعر؛ لأنه شديد التكلف، صاحب صنعة، ويستكره الألفاظ والمعاني(22).
أما من حيث الخيال فمن الواضح أن عمود الشعر يهام بالصنعة، ويرى فيها مزية وفضلاً وهو يدعو إلى الأخذ بها، والاهتمام بشأنها ولكن ألا تجاوز المألوف، وألا تبلغ حد الإفراط والإسراف فتصل إلى التكلف والتصنع الممقوت(23).
وقد ذكرنا آنفًا أن الآمدي كان يولي الصنعة اهتمامًا، بشرط أن تكون في حدود المقبول وألا تتجاوز الإفراط، كما كان عمود الشعر يولي عناية خاصة للاستعارة وينشد أن تكون قريبة واضحة، ويتأنى لها هذا القرب من ظهور العلاقة بين المشبه والمشبه به وانكشافها(24).
ونخلص مما سبق بأن الآمدي كان يستمد خصائص عمود الشعر التي تحدثنا عنها سابقًا (الأسلوب، والمعاني، والأخيلة) من الشعر القديم، ولا ننسى أنه كان من أنصار القديم، وأن ذوقه محافظ تقليدي يميل إلى أشعار القدماء .
كما أن هذه الخصائص التي يتسم بها عمود الشعر ـ كما صوره الآمدي ـ تتفق تمامًا مع مذهب البحتري، وفي رأيي كما ذكرتُ سابقًا بأن ذلك المصطلح جاء خدمةً للبحتري بدليل أنه أتهم أبو تمام بالخروج على العمود، بيد أن المرزوقي والجرجاني لم يتهما أبو تمام بالخروج والمخالفة، فالبحتري في رأيه كان يعني بجودة السبك، وسلامة التأليف، وحلاوة الألفاظ، هذا من ناحية الأسلوب، أما من ناحية المعاني فكان يأخذ ما بدأ له في قرب وعفوية وبساطة، وأما من حيث الخيال فاتصفت صنعته بسهولتها، فلم تتعقد عنده .
وبالمقابل هذا كله خالف أبو تمام، فلم يعنَ بأسلوبه كما كان يُعنى بمعانيه، فلم يخلُ شعره من نسج رديء، وعبارة سيئة، وألفاظ وحشية مستكرهة، فتعقدت صنعته، وبلغت درجة التكلف الممقوت .
المبحث الثالث : المصطلح عند الجرجاني .
الفرع الأول : تصور الجرجاني لمصطلح عمود الشعر .
قد قرأ القاضي الجرجاني ما كتبه الآمدي عن عمود الشعر، فحاول أن يستفيد من مصطلحه(25)، وأراد أن يطور على ما جاء به الآمدي من خصائص في مصطلح عمود الشعر، إلا أن هذه الخصائص " كانت أكثر توافرًا في عمود الشعر على النحو الذي تصوره الآمدي، وأشد وضوحًا منها في عمود الشعر على النحو الذي تصوره الجرجاني في الوساطة "(26).
فالجرجاني في كتابه الوساطة قد تعَّرض فيه لبعض خصائص الشعر العربي، ولكثير من الأحكام النقدية، ومن ذلك إشارته إلى (عمود الشعر ونظام القريض) في قوله : " ولم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة إذ حصل لها عمود الشعر ونظام القريض "(27).
إلا أن هذا التعبير (عمود الشعر) لم يذكره الجرجاني في رأيي كمصطلح له حدوده الجامعة المانعة، بل ذكره في معرض كلامه على المرتكزات الأساسية للمفاضلة بين الشعراء .
ويقول الجرجاني بناءً على ذلك : " وكانت العرب إنما تفاضل بين الشعراء في الجودة والحسن، بشرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، وتسلّمُ السّبق فيه لمن وصف فأصاب، وشبّه فقارب، وَبدَه فأغزر، ولمن كثرت سوائرُ أمثاله وشوارد أبياتهِ "(28) .
فمن هنا فكانت معظم العناصر التي تحدث عنها الجرجاني على أنها مقياس المفاضلة والسبق بين الشعراء، وكذلك على أنها معيار الشعر الجيد، وهذه تكاد تكون عناصر عامة تتوافر في الشعر القديم مثلما تتوافر في الشعر الحديث كذلك .
فمثلاً ذكر الجرجاني صحة المعاني، وإصابة الوصف، واستقامة اللفظ، والغزارة في البديهة، وكثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة، فهي ليست خصائص للشعر القديم فقط، ولا هي مقصورة عليه، وإن منها ما يعد أصلاً من أصول الشعر الذي لا يستغني عنه، ولا يقوم إلا به في أي عصر كان(29) .
ويمكن القول بأن الجرجاني لم يتحدث عن عمود الشعر حديثًا واضحًا محددًا، وإنما أشار إليه إشارة عابرة سريعة، فحدد للشعر ستة عناصر يتعلق بعضها باللفظ الذي ينبغي أن تتوافر فيه الجزالة والاستقامة، ويتعلق بعضها بالمعنى الذي يشترط فيه الشرف والصحة، ويستحسن منه ما كان سهلاً مفهومًا يسير أمثالاً على الألسنية، وأبياتًا شاردة يتناقلها الناس ويحفظونها حكمًا وشواهد، ويتعلق بعضها بالخيال، ويؤثر عمود الشعر عند الجرجاني ما كان مطبوعًا سهلاً، قريب المتناول، يُصيب الوصف، ويقصد الغرض من سبيل صحيح(30) .
فنلاحظ مما سبق بأن الجرجاني قد تحدث عن عناصر أو خصائص عمود الشعر بشكلٍ عام فلم يحصرها في الشعر الجاهلي كما فعل الآمدي، وإنما هو يحدثنا عن عمود الشعر الذي يُعني مجموعة عناصر الشعر ومقوماته الأساسية التي لا يقوم إلا بها في الشعر القديم والشعر الحديث .
فالجرجاني من خلال حديثه عن عمود الشعر فهو يكشف لنا عن إدراكه بأن الآمدي قبله أفاض في القضية، وهو يدرك المآخذ التي يمكن أن تؤخذ على تناوله لها، ولهذا جاءت معالجة الجرجاني لعمود الشعر مجسدة لميزة بارزة هي إطلاق القضية من عقال أبي تمام والبحتري خاصة إلى أفق أعم وأرحب، وإطار يصلح تطبيقه على كل شاعر وكل شعر(31) .
وأشرنا سابقًا عن أهم العناصر التي ذكرها الجرجاني، وكان قد أشار إليها الآمدي ولكن بعباراتٍ واصطلاحاتٍ مختلفة، أما العنصرين الآخرين وهما: الغزارة على البديهة، وكثرة الأبيات السائرة والأمثال الشاردة، فهذان العنصران يستند الجرجاني فيهما إلى الذوق العام، ويفتح بها الباب بقوة لكثير من نماذج الشعر الحديث وشعرائهِ .
ولعل أن أهم مُلاحظة تُذكر للجرجاني في هذا الصدد عمده إلى تجنب تحديد المقصود بهذه المصطلحات وذلك حرصًا منه على تأكيد مرونتها وإضفاء طابع تعميمي عليها؛ ليجعلها أداة صالحة للتقويم المتشرب لطبيعة الذوق الخاص بالناقد(32) .
الفرع الثاني : مقارنة بين تصور الجرجاني والآمدي للمصطلح .
بدا الجرجاني ناجحًا أكثر من الآمدي في مبدأ المقايسة، عند دفاعه عن المتنبي، " وما كان الآمدي إلا معلمًا للجرجاني، فنجح الآمدي نظريًا فقط، بينما نجح تلميذه في منهجه نظريًا وعمليًا، أما في الآراء والنظرات النقدية، فإن الجرجاني لم يأتِ بشيء جديد، وإنما التقت عنده أكثر الآراء والنظرات النقدية السابقة، فأحسن استغلالها في التطبيق والعرض "(33) .
فقد كان الجرجاني في وساطته مثالاُ للناقد الفذ في نزاهة الحكم، وقد كان في قوله بآراء نقدية سابقة، وإهماله قضايا نقدية كقضية اللفظ والمعنى، ما يؤثر التطور النقدي والحاجة إلى طرائق جديدة في الغرض النقدي .
ويلتقي الجرجاني مع الآمدي في إيثاره للشعر المطبوع، وفي تفضيله لما كان سهل المتناول قريب المأخذ، ولكن الآمدي قد يكون أكثر تقبلاً منه للصنعة إذا كانت في حدود مقبولة لا تبلغ الإسراف الشديد، فقد رأينا أن البحتري عنده ـ على الرغم من أنه من أصحاب البديع، وقد أكثر من فنونه وأشكاله ـ فهو شاعر ملتزم بعمود الشعر العربي، لم يفارق أصوله القديمة، ولم يخرج عليها(34) .
بينما هذه الصنعة تأتي هامشية في عمود الشعر عند الجرجاني؛ لأن العرب ـ على حد تعبيره ـ " لم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة، ولا تحفل بالإبداع والاستعارة، إذا حصل عمود الشعر ونظام القريض "(35) .
وقد رأينا فيما سبق بأن عمود الشعر عند الآمدي لم يكن يعبأ بالمعاني الموّلدة الجديدة، فقد رفض هذه المعاني أساسًا في الشعر، بل أن هذه المعاني التي يأتي بها أبو تمام أحيانًا مخالفًا ما ألفته العرب، ويعدها خروجًا على عمود الشعر .
ولذلك يقول الآمدي في شعر أبي تمام : " لا يشبه أشعار الأوائل ولا على طريقتهم؛ لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني الموّلدة "(36) .
أما الجرجاني فقد نظر إلى المعاني من زاوية أوسع وأرحب، فاشترط فيها أن تكون شريفة صحيحة، ومن الواضح أن هاتين الصفتين في المعنى تُفسحان المجال للأفكار الجديدة، والمعاني الموّلدة، ولا تعدانها خروجًا على عمود الشعر أو مخالفة لطرائقه .
ومثال ذلك أنه يمكن أن يُستنتج من عبارة (الإصابة في الوصف) وهي عبارة عامة أن تدخل تحت مدلولها الأوصاف الجديدة التي يبدعها خيال الشاعر ما دام قد أصاب في وصفهِ، وأتى بالغرض على وجهه الصحيح الكامل(37) .
ونخلص مما سبق بأن نظرة الجرجاني كانت أوسع مدى من نظرة الآمدي الذي رأيناه أضيق صدرًا، وأقل تقبلاً لهذه الأوصاف المبتدعة الجديدة التي كان يأتي بها أو تمام .
ومع ذلك فعمود الشعر عند الجرجاني يلتقي مع عمود الآمدي في أنه ينفر من المعاني المعقدة الغامضة التي تُستخرج بالغوص والفكرة، وتحتاج إلى تأمل ونظر كما رأينا سابقًا .
فكان الجرجاني كالآمدي لا يرحب كثيرًا بدخول الفلسفة إلى مجال الشعر، ويكره فيه أن يكون معرضًا للنظر والمحاججة، أو الجدل والقياس، فلذلك في نظره هذا مما يعقد الشعر، فيبعده عن النفس، وينفرها منه، ويقول : " والشعر لا يُحبب إلى النفوس بالنظر والمحاجة، ولا يحلي في الصدور بالجدال والمقايسة، وإنما يعطفها عليه القبول والطلاوة، ويقربها منه الرونق والحلاوة .. "(38) .
وقد ذكرنا آنفًا بأن الآمدي قد ذكر صراحةً وفي أكثر من موضع على أن البحتري قد التزم بعمود الشعر، وقام بأصوله حق قيام، على حين أن أبا تمام فارق عمود الشعر، وخرج عليه، وخالف طريقة العرب .
أما الجرجاني فإننا لا نلمح له موقفًا محددًا من هذه القضية، فهو لم يتهم أبو تمام بالخروج على عمود الشعر، حتى انه لم يتحدث في وساطته بين المتنبي وخصومه عن صلة المتنبي بعمود الشعر .
وأنا في رأيي بأن السبب في ذلك حتى تكون معالجة الجرجاني لقضية عمود الشعر أوسع منها عند الآمدي، وحتى تكون صالحة في كل عصر وكل زمان، بحيث يمكن تطبيقها كما ذكرنا على كل شاعر وكل شعر .
إذن فالجرجاني يمرُّ بالمصطلح مرورًا عابرًا سريعًا، لا يتوقف عنده، ولا يُشير إلى علاقة أبي الطيب به، فهو يكتفي بأن يضع للشعر وعموده تلك العناصر الستة التي أشرنا إليها سابقًا دون شرح لها أو حتى توضيح لمدلولاتها، ودون أن يقيس عليها شعر المتنبي؛ ليرى مدى اتفاقه معها أو مجافاته لها .
وكما ذكرنا سابقًا بأن خصائص عمود الشعر بشكل عام كانت مستمدة من الشعر القديم ومستنبطة من أصولهِ ومبادئهِ، وهذه ظهرت عند الآمدي حيث مثلها وطبقها على البحتري أنموذجًا للشعراء الأوائل، بينما كانت تلك الخصائص عند الجرجاني تمثل المفاضلة بين الشعراء بشكلٍ عام، وكانت تتوافر في الشعر الجيد وهي عناصر عامة تتوافر في الشعر القديم مثلما تتوافر في الشعر الحديث .
إن نظرية عمود الشعر هذه كما عرضها الجرجاني قد أصابها تطور كبير عما كانت عليه من قبل، مثلاً كانت تلك النظرية عند الآمدي محصورة في نطاق ضيق تتمثل في الشعر القديم أو في شعر البحتري، بينما نجد غير ذلك عند الجرجاني فأخذت تتسع وتمتد، وتصبح أكثر انفتاحًا، وأشد انفساحًا .
وفي نهاية الأمر، أنوّه إلى أن من خلال طريقة سوق الكلام وصياغته لدى كل من الآمدي والجرجاني ـ في توضيح عمود الشعر ـ لا توحي بأنهما يعمدان إلى تحديد مصطلحٍ نقديٍّ لم يكن قد أُشتهر بعدُ، ولا عُرف قبلهم، كما لا توحي بأنهما هما اللذان وضعاه ابتداءً .
المبحث الرابع : المصطلح عند المرزوقي .
الفرع الأول : المرزوقي وتصوره لمصطلح عمود لشعر .
تعرض أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي المتوفَّى (421 هـ) للحديث عن عمود الشعر في المقدمة التي كتبها على شرحهِ لحماسة أبي تمام، فقد مهّد لشرحهِ بمقدمة نقدية قيمة عالج فيها عددًا من القضايا النقدية المهمة، أتى في جانبٍ منها على ذكر عمود الشعر ,
والواقع أن ما كتبه المرزوقي عن عمود الشعر يعد أول محاولة جادة لتحديده، وبيان عناصرهِ، ومقياس كل عنصر من هذه العناصر، وقد استفاد ـ كما سنرى ـ في صياغتهِ لنظرية عمود الشعر من كل الآراء النقدية التي سبقته .
والحقيقة هنا أن نظرية عمود الشعر قد ارتبطت بالمرزوقي، فإذا ذُكر أحدهما دون الآخر يكون ناقصًا حتى يُذكر الطرف الآخر، وربما السبب في ذلك في رأيي أنه لم يستطع أحد من النقاد من بعده أن يُضيف إليه شيئًا آخر جديدًا .
فبعد الآمدي والجرجاني، أصبح الطريق معبّدًا أمام المرزوقي لكي يتكلم صراحة عن عمود الشعر كما عرفه العرب، حتى يتميز في رأيه يقول: " تليدُ الصنعة من الطريف وقديمُ نظام القريض من الحديث "(39) .
ويقول المرزوقي في ذلك: " ... الواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب، ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث، ولتعرف مواطئ أقدام المختارين فيما اختاروه، ومراسم إقدام المزيفين على ما زيفوه، ويعلم أيضًا فرق ما بين المصنوع والمطبوع، وفضيلة الأتي السمح على الأبي الصعب "(40) .
إذن ماذا عرف العرب عن عمود الشعر؟ يقول المرزوقي في ذلك: " إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه والمستعار له، ومشاكله اللفظ للمعنى، وشده اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار "(41)
إذن يمكن القول من خلال رؤيتنا للنص السابق الذكر، إلى أن العناصر السابقة هي معالم واضحة عند النقاد السابقين من أمثال الآمدي والجرجاني، ولم تكن بخافية عليهم، وهذا ما يقودنا إلى القول إلى أن المرزوقي اعتمد في تحديده لعناصر العمود على كلام كل من الآمدي والقاضي الجرجاني .
ولهذا يمكن القول أن المرزوقي في تحديده للعناصر عاد إلى تلك العناصر الستة التي ذكرها الجرجاني من قبل في وساطتهِ فأعتمد أربعة منها وهي : شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، والمقاربة في التشبيه .
واستغنى عن العنصرين الآخرين اللذين كانا عند الجرجاني، وهما (سوائر الأمثال وشوارد الأبيات، والغزارة في البديهة) فجعل الأول منهما مؤلفًا من اجتماع العناصر الثلاثة الأولى، واستغنى نهائيًا عن الثاني، ولم يعده من عناصر عمود الشعر، وأضاف من عنده ثلاث عناصر وهي : التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له ومشاكله اللفظ للمعنى وشده اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما(42) .
على الرغم من أن المرزوقي عاد إلى ما ذكره كل من الآمدي والجرجاني، إلا أنه يختلف عنهما، فالآمدي مثلاً حدد عناصر العمود تبعًا للشعر القديم آخذًا بالبحتري أنموذجًا له، بينما المرزوقي لم يحدد ذلك بل جعلها عامة للشعر الجيد وكذلك الجرجاني، ودليلي في ذلك قول المرزوقي بعد أن حدد هذه العناصر والمعايير قال: " وهذه الخصال هي عمود الشعر عند العرب، فمن لزمها بحقها، وبنى شعره عليها فهو عندهم المفلق المعظم والمحسن المقدَّم، ومن لم يجمعها كلَّها فبقدر سُهمته منها يكون نصيبه من التقدم والإحسان، وهذا إجماعٌ مأخوذ به، ومتَّبع نهجه حتى الآن "(43) .
وفي رأيي بأن المرزوقي لم يُلزم أحدًا بأتباع أركان عمود الشعر، وهذا عكس الآمدي الذي اتهم أبو تمام بالخروج عليه ومخالفة طريقة العرب، ولذلك يقول المرزوقي: " فمن لزمها بحقّها فهو عندهم (أي العرب) المفلق المعظم ...." فمن أراد التجديد أو الخروج على عمود الشعر فعليه أن يُثبت جدارته ويحقّق شروط منحاه لئلا يترك الحبلُ على الغارب، وتعمُّ الفوضى .
وأرى بأنه لا مسوغَ لتلك التُّهم التي ألصقت بالمرزوقي، بل ينبغي علينا أن نعترف له بالفضل؛ لأنه أجمل لنا الكلام في ذلك الموضوع كما يفعل كثير من أمثالهِ في عصرنا هذا، فمن شاء فليأخذ، ومن شاء فليدع .
ولا يفوتنا إلى جانب ذلك أن المرزوقي يؤكد على قيمة الاعتدال حتى ينبه إلى ذلك بقوله: " أن لهذه الخصال وسائط وأطرافًا، فيها ظهر صدق الواصف، وغلو الغالي، واقتصاد المقتصد "(44) .
ويبني المرزوقي على عناصر عمود الشعر مقومات التفريق بين المطبوع والمصنوع من الشعر، ونصيب القدماء والمحدثين من هذا وذالك، وهو بذلك يتبنى موقف الجرجاني في الحرص على الاعتدال ومجافاة الإفراط في الصنعة وتجاوز المألوف في البدعة(45) .
ونستطيع أن نُجمل ما فصّله المرزوقي في وصفهِ لعمود الشعر، أن منها ما يعود إلى اللفظ، ومنها ما يعود إلى الأسلوب، ومنها ما يعود إلى الخيال، أما اللفظ فيطلب منه المرزوقي الشرف، والرفعة، والصحة والصواب، أما الأسلوب فيطلب منه المتانة، والانسجام، والألفاظ المتميزة، والقافية المواتية للمعنى، أما الخيال فيطلب منه قرب التشبيه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له(46) .
ونخلص مما سبق بأن نظرية عمود الشعر التي برزت في العصر العباسي عالجها المرزوقي في مقدمتهِ لشرح الحماسة لأبي تمام، بعد أن أطّلع على كل الآراء النقدية السابقة أمثال ابن قتيبة، وابن طباطبا، وقدامه، والجرجاني، والآمدي، حيث أنه غربل ما غربله، وانتخب ما ينسجم مع ما توصل إليه بشأن هذه النظرية .
ولكن على الرغم من أن المرزوقي قد حدد عناصر العمود بصورة واضحة، ووضع لكل عنصر معيارًا يُقاس به، وتُعرف جودته من رداءتهِ عند العرض عليه، إلا أن المأخذ عليه في رأيي أنه لم يحاول أن يشرح لنا مدلولات هذه العناصر، ولم يحاول أن يتوقف عندها على الرغم ما كان يعتريها من غموض، وعدم وضوح في الدلالة .
الفرع الثاني : شرح عناصر المرزوقي ومناقشته لها .
عناصر عمود الشعر كما استقرت عند المرزوقي، صدرت عن طريقة العرب في قول الشعر وكشفت عنها، ذلك أن المنهج النقدي عند المرزوقي حاول أن يتبين العناصر الناضجة، التي ينبغي الإبقاء عليها، للحفاظ على الشعرية العربية(47) .
وكما ذكرنا آنفًا قد نص المرزوقي على عمود الشعر بقولهِ: أن العرب في قولهم الشعر إنما " كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، والمقاربة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه والمستعار له، ومشاكله اللفظ للمعنى، وشده اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب منها معيار "(48) .
وسوف ندرسَ كل عنصر على حدة وهي كالتالي :ـ
(1) ـ شرف المعنى وصحته :
من الواضح أن هذا العنصر يشترط أن تتوافر في المعنى صفتان اثنتان: الشرف والصحة، أما الشرف فقد يتبادر إلى ذهن السامع لأول وهلة بأنه يرتبط بالمعنى الأخلاقي أي أن يكون شريف(49)، ولكن هذا المعنى غير مقصود وإنما المقصود هو أن يكون من أحاسن المعاني المستفادة من الكلام بأن يتلقى فهم السامع مستغنيًا به باستفادة الغرض الذي يُفاد به، ومن أكثر أسباب شرف المعنى أن يكون مبتكرًا غير مسبوق، ثم أن يكون بعضه مبتكرًا وبعضه مسبوقًا، وبمقدار زيادة الابتكار فيه على المسبوقية يدنو الشرف، وشروط المعاني تختلف باختلاف محالها من أغراض الكلام، من إثارة حماس أو استعطاف أو غزل أو نحو ذلك(50) .
إذن فشرف المعنى، أي سمو المعنى في مناسبته لمقتضى الحال، ذلك السمو الذي يرتضيه، العقل السليم، والفهم النافذ، وكذلك عرض المعنى في صورة زاهية مشرقة تشعر بصحته، والصواب في المعنى أداؤه للغرض الذي يعالجه بأمانه ووضوح(51) .
ونحن نوافق ذلك المعنى لذلك العنصر، والذي يؤيد وجهة نظرنا في ذلك قول بشر بن معتمر في صحيفته المعروفة فقد تحدث عن المعنى الشريف فيقول: " والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف مع الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، ومع ما يجب لكل مقام من المقال "(52) .
فنخلص من النص السابق الذكر بأن مدار الشرف في المعنى ثلاثة أشياء وهي: الصواب، وإحراز المنفعة، وموافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال، أما الصواب فذكرناه سابقًا، وأما إحراز المنفعة أي أن يكون المعنى الذي يقوله الشاعر له فائدة تذكر، وأما الأخير فتتحقق موافقة المعنى للحال بوضع المعاني في موضعها الملائم، وإحلالها في المكان المخصص لها، بحيث تكون هذه المعاني موافقة للمقام الذي تُقال فيه(53) .
ونريد أن نضرب مثالاً على ذلك، ونذكر تعليق الجرجاني عليه وهذا التعليق يدلنا على أن الجرجاني ذهب إلى ذلك في معنى الشرف، يقول امرؤ القيس(54) :
وأركبُ في الروعِ خيفانة كسى وجهها شَعرٌ منتشر
إذ يرى الجرجاني في هذا الوصف أنه وصفًا لفرس ليس بالكريم ولا بالأصيل؛ لأن شعر الناصية إذا غطى وجه الفرس ، لم يكن أصيلاً(55) .
أما قول المتنبي :
ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى عدوًا له ما مِن صداقته بُدُّ
فإنه معنى يشهد العقل بصوابهِ وحقق شرف المعنى الثلاثة(56) .
أما قول أبي تمام :
سأحمدُ نصرًا ما حييتُ وإنّني لأعلمُ أن قد جلَّ نصرٌ عن الحمدِ
فأبو تمام في بيتهِ السابق يرفع ممدوحة عن الحمد الذي رضيه الله تعالى لنفسهِ، وهذا يخالف شروط شرف المعنى ولا يتقبله العقل السليم، ولا الفهم الثاقب(57) .
أما الشرط الثاني من العنصر السابق والذي يشترطه في المعاني هو الصحة أي صحة المعنى والمقصود بصحة المعنى أن تتحقق مطابقته لحقيقة ما يتحدث عنه المتكلم، واتفاقهما مع ما فيه من خصائص وصفات، وهذا يتضح في المثالين السابقين، ومثال ذلك أيضًا غلط أبو نواس في قولهِ يصف الكلب :
كأنما الأظفورُ من قنابهِ موسى صَنَاعٍ رُدَّ في نصابهِ
لجهلهِ ببعض الحقائق، إذ " ظن أن مخلب الكلب كمخلب الأسد والسنّور الذي ينستر إذا أراد حتى لا يتبينا، وعند حاجتهما تخرج المخالب حجنًا محددة يفترسان بها، والكلب مبسوط اليد أبدًا غير منقبض "(58) .
وقد وضع عمود الشعر للمعنى حتى تتوافر فيه هذه الشروط معيارًا يُعرض عليه، وهو العقل الصحيح والفهم الثاقب، قال المرزوقي: " فعيار المعنى أن يُعرض على العقل الصحيح والفَهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبتا القبول والاصطفاء، مستأنِسًا بقرائنهِ، خرج وافيًا، وإلاّ انتقص بمقدار شوبه ووحشتهِ "(59) .
وهذا أمرٌ لا شك فيه في أن إدراك حقائق المعنى، ومعرفة أسرارها، والنفاذ إلى بواطنها تحتاج إلى فهم ثاقب، وبصر نافذ، وتحتاج إلى العقل الصحيح الواعي، وهذا هو المعيار الذي وضعه المرزوقي لمعرفة مدى تحقق المعنى من الشرف وصحته .
(2) ـ جزالة اللفظ واستقامته :
فاللفظ في عمود الشعر ينبغي أن يتوافر فيه شرطان: الجزالة، والاستقامة، فأما جزالة الفظ فهي قوة فيه ومتانة، جاء في لسان العرب: "الكلام الجزل : القوي الشديد، واللفظ الجزل: خلاف الركيك"(60) .
والمرجعُ في هذه القوة والمتانة في اللفظ الجزل هو أنه من كلام العرب الفصحاء الذي يُرجع إليهم في أمور اللغة، بمعنى أن يكون كلام مروي عن العرب فهو يميل إلى الألفاظ القديمة من الألفاظ الحديثة(61) .
ويقول الجاحظ في ذلك: " وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميًا وساقطًا سوقيًا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبًا وحشيًا ... "(62) .
ونفهم من النص السابق بأن اللفظ الجزل يقع بين حالتين، الأولى أن يسلم من الغرابة والوحشية والاستكراه، والثانية أن يرتفع عن السوقية والابتذال والعامية .
إذن أن جزالة اللفظ تكون بما فيه من قوة وشدة ومتانة، ولكن هذه القوة كما ذكرنا لا تُعني أن يكون غريبًا وحشيًا، وإنما يجب أن يكون مأنوسًا مفهومًا، وكذلك أن لا يكون سوقيًا مبتذلاً، ولا هو من كلام العوام .
أما الشرط الثاني من العنصر وهو الاستقامة والمقصود بها هو اتفاقه مع أصول اللغة وقواعدها المتعارف عليها، فكل لحن أو خطأ أو مخالفة لقاعدة من قواعد النحو والصرف تعد فرقًا لاستقامة اللفظ .
ويؤدنا في ذلك قول قدامه بن جعفر في عيوب اللفظ يقول: " أن يكون ملحونًا وجاريًا على غير سبيل الإعراب واللغة، وقد تقدم من استقصى هذا الفن، وهم واضعوا صناعة النحو "(63) .
ومثال ذلك قد أخطأ الشاعر في قولهِ :
الحمد الله العلي الأجلل
وذلك ؛ لأنه خالف القاعدة الصرفية، "فإن قياس بابه الإدغام، فيقال الأجل"(64)، ويقول المرزوقي في هذا الموضع: " كأن يكون اللفظ وحشيًا، أو غير مستقيم، أو لا يكون مستعملاً في المعنى المطلوب، وقد قال عمر رضي الله عنه في زهير: (لا يتبع الوحشيّ ولا يعاظل في الكلام، أو يكون فيه زيادة تفسد المعنى أو نقصان) "(65) .
ولا يفوتنا ذكر ما اشترطه البلاغيون في فصاحة اللفظ المفرد وكذلك الكلام المركب، فاللفظ ينبغي أن يكون مأنوسًا مألوفًا، عذبًا على اللسان، غير مبتذل، وأن يكون لفظًا عربيًا صحيحًا لا يخالف قوانين اللغة وغيرها من صفات(66) .
ونلاحظ بأن المرزوقي قد وضع صفات محددة للفظ الجيد، وغيرها يعد خروجًا لعمود الشعر، كما وضع لهذه الصفات التي ينبغي أن تتوافر في اللفظ عيارًا تُقاس به، وتُعرض عليه، يقول: " وعيار اللفظ الطبع والرواية والاستعمال، فما سلم مما يُهجّنه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم، وهذا في مُفرداته وجملته مُراعى؛ لأن اللفظة تُستلزم بانفرادها، فإذا ضامَّها مالا يوافقها عادت الجملة هجينًا "(67) .
أما الطبع فهو سليقة الأديب، وملكته اللغوية التي تتكون عنده بطول الدربة وكثرة ممارسته كلام الفصحاء والأعراب ورجال البلاغة، وأما الرواية والاستعمال فهما شيئان يكشفان عن صحة اللفظ وسلامته واستقامته عند عرضه عليهما، فلا شك أن ما جاء من كلام العرب الفصحاء، ووردت الرواية به في أشعارهم، وكان متفقًا مع قواعد استعمالهم له، هو عندئذٍ اللفظ الصحيح المستقيم .
(3) ـ الإصابة في الوصف :
والمقصود بذلك أن يحسن الشاعر التعبير عن الغرض الذي يتناوله، سواء أكان ذلك مدحًا أم هجاءً أم غزلاً، وذلك بأن يذكر الشاعر من خصائص الموضوع الموصوف ما يلائمه أو يصحّ أن يُنسب إليه، وأن يقع على الشيء الذي يتحدث عنه وقوعًا يُحيط به، ويلم بمعالمه إلمامًا سليمًا صحيحًا .
إذن تأتي الإصابة في الوصف عندما يصور الشاعر الشيء تصويرًا مطابقًا لما هو عليه، وإلاّ سيؤدي إلى خطأ في الوصف ومثال ذلك، قول أبو تمام الذي أخطأ في وصف الديار فيقول :
شهدتُ لقد أقوت مغانيكم بعدي ومحَّت كما محّت وشائعُ من برد
إذا جعل الوشائع حواشي الأبراد، أو شيئًا منها وليس الأمر كذلك، إنما الوشائع غَزل من اللحمة ملفوف يجره الناسج بين طاقات السدى عند النساجة(68) .
وكذلك قول المسيب بن علس :
وقد أتناسى الهم عن احتضاره بناجٍ عليه الصعيرية مكدم
فقد أنزل المسيب الصعيرية غير منزلها، فهي سمة للنوق لا للفحول(69) ، وكذلك قول امرؤ القيس في وصف لفرسهِ :
فللسوط ألهوبٌ وللساق درةٌ وللزجر منه وقعُ أخرَج مُهذبِ
فهو في معرض مدح فرسه، ولكن وصفه بما لا يسبغ عليه هذا الحسن الذي يريده له، فقد بدت هذه الفرس من خلال حديثه عنها، "بطيئة؛ لأنها تحوج إلى السوط، وإلى أن تركض بالرجل وتُزجَر"(70) .
وأما العيار الذي يتحقق به الإحساس بإصابة الوصف، وإدراك هذه الإصابة وتحقيقها هو الذكاء وحسن التمييز، يقول المرزوقي: " وعيار الإصابة في الوصف الذكاء وحسن التمييز، فما وجداه صادقًا في العلوق، ممازجًا في اللصوق، يتعسر الخروج عنه، والتبرؤ منه فذلك لا سيما الإصابة فيه "(71) .
إذن لإدراك خصائص الأشياء، والوقوع على سماتِها ومعالمِها البارزة، يحتاج ذلك إلى حسن التمييز بين هذه الأشياء؛ لإعطاء كل موصوف صفته التي تُليق به، وإنزال كل نعت على منعوتةِ الذي يستحقه، ويكون أهلاً له .
ونلاحظ أخيرًا أن من اجتماع هذه العناصر الثلاثة التي تحدثنا عنها سابقًا وهي: شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، تتكون (سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات)، ومعنى ذلك أن عمود الشعر يشترط في البيت حتى يذيع على الألسن ويذهب في الناس مذهب المثل والبيت الشارد والنادر أن يكون معناه شريفًا صحيحًا، ولفظه جزلاً مستقيمًا، وأن يُصيب وصف الشيء الذي يسعى إليه من أوضح الطرق وأقربها .
إلاّ أن المثل السائر والبيت الشارد ليس عنصرًا مستقلاً من عناصر عمود الشعر عند المرزوقي، كما سبق أن رأينا ذلك عند الجرجاني، وإنما هو يتكون من اجتماع هذه العناصر الثلاثة المذكورة آنفًا .
(4) ـ المقاربة في التشبيه :
ويعني ذلك قوة الشبه ووضوحه بين طرفي التشبيه: المشبه والمشبه به، وهذا أمرٌ عائد إلى فطنة الشاعر وحسن تقديره، إذ يستطيع أن يدرك ما بين الأشياء من صفات مشتركة .
وأحسن التشبيه ما وقع بين شيئين بينهما من الاشتراك في الصفات أكثر مما بينهما من الاختلاف؛ ليظهر وجه الشبه دون تعب، أو أن يكون المقصود بالتشبيه أشهر صفات المشبه به؛ لأن التشبيه يكون واضحًا بينًّا لا لبس فيه، كما إذا شبّهت الرجل بالأسد في الشجاعة التي هي أشهر خصائص الأسد(72) .
ولهذا يستحسن النقاد العرب التشبيه الواضح القريب مثلما يستقبحون التشبيه الغامض البعيد، قال المبرد: " وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب فيه الحقيقة، ونبه بفطنته على ما يخفى عن غيره، وساقه برصف قوي، واختصار قريب "(73) .
وقال المبرد أيضًا: " والعرب تشبه على أربعة أضرب: فتشبيه مفرط، وتشبيه مصيب، وتشبيه مقارب، وتشبيه بعيد يحتاج إلى التفسير ولا يقوم بنفسهِ، وهو أخشن التشبيه "(74) ، وقال ابن الأثير: " وحد التشبيه هو أن يُثبتَ للمشبه حكم من أحكام المشبه به، فإذا لم يكن بهذه الصفة، أو كان بين المشبه والمشبه به بُعد فذلك الذي يُطْرحُ ولا يُستعمل "(75) .
فمن هذه التشبيهات البعيدة قول خفاف بن ندبة :
أبقى لها التعداءُ من عَتَداتها ومتونها كخيوطةِ الكتان
العتدات: تعني القوائم، والمتون: الظهور، فيقول: " دقت حتى صارت متونها وقوائمها كالخيوط وهذا بعيد جدًا "(76) .
وقول بشر بن أبي خازم :
وجـرَّ الرامساتُ بها ذيولاً كأن شـمالها بعد الدبور
رمـادٌ بيـن أظآرٍ ثـلاثٍ كما وشم النواشر بالنؤور
فشبه الشمال والدبور بالرماد(77) .
ولا شك أن الشيئين اللذين يُشبهان ببعضهما بعضًا يشتركان في صفات، ويفترقان في صفات أخرى، وكلما كثرت الصفات التي يشتركان فيها كان التشبيه واضحًا قريبًا مستحسنًا، قال قدامه بن جعفر: " إنه من الأمور المعلومة أن الشيء لا يشبه بنفسهِ، ولا بغيره من كل الجهات، إذ كان الشيئان إذا تشابها من جميع الوجوه، ولم يقع بينهما تغاير البتة اتحدا، فصار الاثنان واحدًا، فبقي أن يكون التشبيه إنما يقع بين شيئين بينهما اشتراك في صفات تعمهما، ويوصفان بها، وإذا كان الأمر كذلك فأحسن التشبيه هو ما وقع بين الشيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما فيها، حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد "(78) .
ويقول أبو هلال العسكري: " والتشبيه يزيد المعنى وضوحًا، ويكسبه تأثيرًا، ولهذا ما أطبق جميع المتكلمين من العرب والعـجم عليه، ولم يسـتغن أحد منـهم عنه "(79) .
ومن التشبيه الجيد قول الشاعر في وصف مطاردة العقاب للثعلب :
تلوذُ ثعالبُ الشرفين منها كما لاذَ الغريمُ من التّتبيع
فشبه ذلك بروغان المدين من الدائن، إذ إنّ الدائن يلاحق المدين الذي يجتهد في الاختفاء من الدائن، وهو تشبيه واقع في موقعهِ؛ لأن حال العقاب مع الثعلب كذلك .
وأما رديء التشبيه كذلك قول الشاعر :
وخالٍ على خدّيك يبدو كأنّه سَنا البدر في دَعجاءَ بادٍ دُجونها
لأن الخدود بيض، والمعروف أن يكون الخال أسود، ولكنّ الشّاعر شبّه الخدود بالليل، والخال بضوء البدر وهو مغلوط .
أما العيار الذي تتحقق به المقاربة في التشبيه هو الفطنة وحسن التقدير، قال المرزوقي: " وعيار المقاربة في التشبيه الفطنة وحسن التقدير، فأصدقه ما لا ينتقض عند العكس، وأحسنه ما أوقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليتبين وجه الشبه بينهما بلا كلفه، إلا أن يكون المطلوب من التشبيه أشهر صفات المشبه به، وأملكها له؛ لأنه حينئذٍ يدل على نفسه، ويحميه من الغموض والالتباس "(80)
(5) ـ التحام أجزاء النظم، والتئامها على تخير من لذيذ الوزن :
إن هذا العنصر من عناصر عمود الشعر يتحدث عن شيئين اثنين: الأول التحام أجزاء النظم، والثاني التئام أجزاء النظم هذه مع الوزن اللذيذ المتخير، أما الأول فالمقصود به هو حسن تأليف الكلام فتأتي كل كلمة في موقعها، مما يُضفي على الكلام سلاسة وانسيابًا، فلا يتعثر اللسان في النطق به .
وكما أن التحام أجزاء النظم الذي يتحدث عنه عمود الشعر يقوم على مبدأ تعدد فنون القصيدة على أن يحسن الشاعر ربط هذه الفنون، وحسن الوصل بين أقسامها بحيث لا يبدو الانتقال من غرض إلى آخر مفاجئًا أو مبتور الصلة عما قبله وبعده(81).
ويقول ابن طباطبا في ذلك: " وإن للشعر فصولاً كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة قوية، فيتخلص من الغزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي بألطف تخلص، وأحسن حكاية بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، وأن يكون متصلاً به، ممتزجًا معه "(82) .
وحتى يتحقق هذا الالتحام في أجزاء النظم، ويبدو ترابط القصيدة متينًا، ينبغي للشاعر أن يتقن ما سماه البلاغيون (حسن الانتقال) أو (حسن التخلص)، وذلك يكون بأن يمهد في خاتمة الغرض الأول للغرض الثاني الذي ستستقبله القصيدة(83) .
ومثال ذلك قول النابغة الذبياني :
فكفـكفتُ منـي عبـرة فـرددتـها على النحر منها مستـهل ودامعُ
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت: ألمّا أصحُ والشيـب وازع
وقـد حـال همٌّ دون ذلك شـاغـل مكان الشغاف تبتغيه الأصـابعُ
وعيد أبي قابـوس في غـير كـنهه أتاني ودوني راكس فالضـواجع
وقد استطاع النابغة أن ينتقل إلى غرض آخر في قصيدته _ وهو العتاب ومخاطبة الأمير ـ انتقالاً حسنًا لا يبدو معه بين الغرضين فجوة أو انفصال، ويقول الحاتـمي: " وهذا كـلام متناسب تقتضي أوائله أواخره، ولا يتمـيز منه شـيء عن شيء "(84) .
ويقول ابن طباطبا: " وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظامًا ينسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نقض تأليفها "(85) .
كما أن التحام أجزاء النظم ما يكون بين أبيات القصيدة نفسها، سواء أكانت مؤلفة من مجموعة من الأغراض، أو كانت قائمة على غرض واحد، وهو حسن ترابط الأبيات مع بعضها، وأن تتسلسل تسلسلاً منطقيًا، وتتدرج تدرجًا طبيعيًا، يقود البيت الأول إلى الثاني، والثاني إلى الثالث وهكذا .
وبعد أن يتحقق هذا الالتحام في أجزاء النظم ينبغي للشاعر أن يختار لهذه الأجزاء المتلاحمة الوزن اللذيذ المتخير، بحيث أن يكون للكلام إيقاعٌ جميل يطرب الذوق له، وموسيقى لفظية تزيده جمالاً وبهاءً .
ويقـول قدامه: " نعت الوزن أن يكون سهل العـروض من أشعار يوجد فيها ذلك "(86)، كما أن التحام المعنى مع الوزن يتحقق في " أن تكون المعاني تامة مستوفاة، لم يضطر الوزن إلى نقصها عن الواجب، ولا إلى الزيادة فيها عليه، وأن تكون المعاني مواجهة للغرض، لم تمتنع من ذلك، ولم تعدل عنه من أجل إقامة الوزن، والطلب لصحته "(87) .
وحتى يتحقق ائتلاف اللفظ مع الوزن ينبغي " أن تكون الأسماء والأفعال في الشعر تامة مستقيمة كما بينت، لم يضطر الوزن إلى تأخير ما يجب تقديمه، ولا إلى تقديم ما يجب تأخيره منها، ولا اضطر إلى إضافة لفظه أخرى يلتبس المعنى بها، بل يكون الموصوف مقدمًا، والصنعة مقولة عليها "(88) .
والقافية جزء من الوزن، وهي عنصر مهم فيه، ولذلك ينبغي أن تخص بفضل عناية، وأن يسبغ الشاعر عليها كثيرًا من الاهتمام، كما أنها مركز الإيقاع الموسيقي في القصيدة، وهي نقطة تجمع النظم الشعري، ولذلك ينبغي أن تجتنب العيوب التي تسيء إلى هذا الإيقاع، وتُفسد تساوقه اللذيذ، كالتجميع، والإقواء، والإيطاء(89) .
وأما العيار الذي وضعه عمود الشعر ليتحقق به التحام أجزاء النظم، والتئام هذه الأجزاء على الوزن اللذيذ هو الطبع واللسان، قال المرزوقي: " وعيار التحام أجزاء النظم، والتئامه على تخير من لذيذ الوزن: الطبع واللسان، فما لم يتعثر الطبع بأبية وعقوده، ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمرا فيه، واستسهلاه بلا ملال ولا كلال، فذلك يوشك أن تكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة تسالمًا لأجزائه وتقارنًا "(90) .
فالطبع هو الحصيلة المكونة من طول الخبرة والدربة والمراس، ومن موهبة أصيلة توجد في النفس، وأما اللسان فهو الذي يشعر بخفة الوزن، وسهولة انسيابه وتدفقه، ويشعر أيضًا بمدى ما في أجزاء النظم من تآلف والتحام، أو تعثر وتحبس واضطراب، فما استطاع اللسان النطق به بارتياح وسهولة فهو المتلاحم(91) .
(6) ـ مناسبة المستعار منه للمستعار له :
هذا هو العنصر السادس من عناصر عمود الشعر فقد سُبق المرزوقي إلى ذلك حيث أن النقاد السابقين كانوا يطالبون بالمناسبة بين المستعار منه والمستعار له، حيث يقول الآمدي: " وإنما استعارت العرب المعنى لما ليس هو له إذا كان يقاربه أو يناسبه أو يشبهه في بعض أحواله، أو كان سببًا من أسبابه، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له، وملائمة لمعناه "(92) .
ويرى الدكتور حسين نصار أن القاضي الجرجاني الذي كان أول من جمع بين مصطلح عمود الشعر وبعض القواعد، وهو لم يجعل الاستعارة قاعدة أساسية حيث إن العرب برأي الجرجاني: " لم تكن تعبأ بالتجنيس والمطابقة ولا تحفل بالإبداع والاستعارة وإذا حصل لها عمود الشعر ونظام القريض "(93) .
ويقول الجرجاني كذلك: " وإنما الاستعارة ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصل، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها تقريب الشبه، ومناسبة المستعار له للمستعار منه، وامتزاج اللفظ بالمعنى حتى لا يوجد بينهما منافرة، ولا يتبين في أحدهما إعراض عن الآخر "(94) .
وآخر المطاف نقف عند المرزوقي حيث يقول: " وملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حيث يتناسب المشبه والمشبه به ثم يكتفي فيه بالاسم المستعار؛ لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له "(95) .
إذن هو يدعو إلى أن يكون بين المشبه والمشبه به في الاستعارة علاقة واضحة، وصلة قوية، فيكون وجه الشبه ظاهرًا للمخاطب، وهذا الأمر مطلوب في التشبيه، ولكنه في الاستعارة أولى، والحاجة إليه أكبر؛ والسبب في ذلك أن التشبيه يقتضي وجود الطرفين (المشبه والمشبه به)، أما في الاستعارة فأحد الطرفين محذوف، فإذا لم تكن العلاقة ظاهرة معروفة جاءت الاستعارة بعيدة غير مقبولة .
ومن الواضح أن عمود الشعر في حديثه عن الاستعارة ما يزال ينظر إليهاـ كما يعرفها البلاغيون ـ على أنها نوع من أنواع التشبيه: تشبيه بليغ حُذف أحد طرفيه، ولذلك كان ملاكها عند تقريب الشبه، ووضوح العلاقة بين المشبه والمشبه به، أو بين المستعار منه والمستعار له(96) .
ومثال على الاستعارة القريبة الواضحة، تظهر في قول أبي ذؤيب الهذلي :
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارَها ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ
فالموت في فتكهِ بالناس كالوحش الذي ينقضّ على فريسته .
أمّا الاستعارات البعيدة فمثل قول أبي نواس :
بُـحَّ صـوتُ المالِ مما مـنك يشـكو ويصـيح
وقوله :
ما لرِجلِ المالِ أضحت تَشتـكي منـك الكـلالا
فقد جعل للمال صوتًا مبحوحًا في البيت الأول، ورِجلاً تشكو التعب في البيت الثاني، وهما استعارتان لا مناسبة فيهما، فليس من علاقة بين الرِجل والمال أو الصوت والمال(97) .
ويقول أبو هلال العسكري: " ومن سوء الاستعارة وليس لحسن الاستعارة وسوء الاستعارة مثال يُعتمد، وإنما يُعتبر ذلك بما تقبله النفس، أو ترده، ويعلق به أو تبو عنه فما تنبو عنه قول علقمة الفحل :
وكل قوم وإن عزوا وإن كرموا عريفهم بأثافي الشرِ مرجوم
أثافي الشر بعيد جدًا "(98) .
ومعنى ذلك أنه ليس هناك قانون ثابت يحكمها، وإنما هي تميز بقبول النفس لها، وإحساس الذوق بها، وهي لذلك خاضعة لتغيير الأذواق، واختلاف الطبائع والنفوس .
وأما عيار الاستعارة في عمود الشعر فالذهن والفطنة، وقال المرزوقي: " وعيار الاستعارة الذهن والفطنة "(99)، فهما عمادان للذوق السليم، والطبع الصحيح الذي يدرك الصلات بين الأشياء، ويميز العلاقات تمييزًا سليمًا .
(6) ـ مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائها للقافية حتى لا منافرة بينهما :
وقد أشار النقاد السابقين إلى هذه القاعدة فها هو الجاحظ في كتابة البيان والتبيين يُشير إليها حيث إنه أفاد من الصحيفة الهندية ومن صحيفة بشر بن المعتمر، فأورد منهما نصوصًا توضح هذا العنصر(100) .
ويقول الجاحظ على اللفظ: " إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواقع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ والشريف الكريم من المعاني "(101)، ويقول: " ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ، ولكل نوع من المعاني نوع من الأسماء، فالسخيف للسخيف، والخفيف للخفيف، والجزل للجزل "(102) .
إن مشاكلة اللفظ للمعنى ضرورة تحتمها طبيعة الصلة بين هذين العنصرين، هذه الصلة التي تقوم على الالتحام التام، والامتزاج الكامل بينها امتزاجًا يشبه امتزاج الروح بالجسد .
ومعنى هذه المشاكله إلباس كل معنى ما يليق به من الألفاظ، وإعطاؤه ما يستحقه من العبارات، فلكل معنى ألفاظ تليق به، كما لكل مقام مقالاً، فما يُستعمل في المدح غير ما يُستخدم في الهجاء، والألفاظ التي تناسب شعر الغزل تختلف عن الألفاظ التي تُستعمل في شعر الحرب .
ويقول بشر: " ومن أراغ معنى كريمًا له لفظًا كريمًا، فإن من حق المعنى الشريف اللفظ الشريف " (103) ، ويقول الجاحظ كذلك: " وإنما الألفاظ على أقدار المعاني، فكثيرها لكثيرها، وقليلها لقليلها، وشريفها لشريفها، وسخيفها لسخيفها "(104) .
فمثلاً يقول حبيب :
يا أبا جعـفر جُعِلتُ فداكا بّزّ حسنَ الوجوه حسنُ قفاكا
مما لم يُستعمل فيه اللفظ في المعنى اللائق به، فحبيب في معرض المديح، ولكن (القفا) ليس يليق إلا بطريقة الذم(105) .
وقول أبو تمام في مدحهِ :
ما زال يهذي بالمكارم دائبًا حتـى ظننا أنّهُ محمـومُ
فقد عُيب عليه أنه جعل ممدوحة محمومًا يهذي، فهذه ألفاظ لا تُليق بالمدح، ومن باب المشاكله أن يناسب الكلام مقتضى الحال، وأن يحقق القاعدة (لكل مقام مقال)، فلا يصح مخاطبة رجل الشارع بألفاظ الخاصة والعلماء، كما لا يجوز مخاطبة الخاصة من الناس إلا بما يليق بهم(106) .
ومما يحقق المشاكله بين اللفظ والمعنى أن يُحيط اللفظ بمعناه بحيث يوفيه حقه من الإيضاح والإبانة والتصوير دون زيادة ولا نقصان، وإنما يكون اللفظ على قدر المعنى، قال المبرد: " أن حق البلاغة إحاطة القول بالمعنى "(107) .
وبعد أن تتحقق هذه المشاكله بين هذين العنصرين المهمين من عناصر عمود الشعر يهتم عمود الشعر بربطهما بالقافية، ربطًا محكمًا متينًا، فالقافية الجيدة هي القافية التي يسوق إليها المعنى سوقًا، وتبدو متلاحمة مع ألفاظ البيت تلاحمًا قويًا يأخذ برقاب بعض، بحيث أن تكون كما وصفها المرزوقي: " كالموعود المنتظر، يتشوفه المعنى بحقه، واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقة في مقرها، مجتلبة لمستغنى عنها "(108) .
وعندما تقول شدة اقتضاء اللفظ والمعنى للقافية، هذا يُعني كما ذكرنا بأن تكون كلمة القافية قد جاءت في موضعها؛ لأن المعنى يؤدي إليها، واللفظ يتطلبها، لا أن يكون الشاعر قد اضطر إليها اضطرارًا .
فمثلاً يقول الشاعر :
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت له من عدوّ في ثـياب ........
فماذا تتوقع أن تكون القافية، فالمعنى واللفظ والروي الذي بُنيت عليها القصيدة كلّها تقتضي أن تكون الكلمة (صديق) .
وكذلك مثل ما قال أبو تمام :
كالظبية الأدماء صافت فارتعت زهر العرار الغض والجثجاثا
فجميع هذا البيت مبني لطلب هذه القافية، وإلا فليس في وصف الظبية بأنها ترتعي الجثجات كبير فائدة(109) .
وأما عيار عمود الشعر في مشاكله اللفظ والمعنى، وشدة اقتضائها للقافية " فطول الدربة ودوام الممارسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضها ببعض، لا جفاء في خلالها ولا نبو ولا زيادة فيه ولا قصور، وكان اللفظ مسوقًا على رتب المعاني قد جعل الأخص للأخص، والأخس للأخس فهو البريء من العيب "(110) .
الخاتمة
ونخلص مما سبق بأن قضية عمود الشعر التي تناولناها بالدراسة كانت تدور في نطاق القضية النقدية المشهورة في أدبنا العربي وهي: القديم والحديث، وتسبح في فلكها، فحينما كان ذوق ناقدنا تقليديًا محافظًا لا يرى الشعر إلا ما كان للقديم أو شاكله، كانت صورتها مستمدة من هذا القديم نفسه، وحينما اتسع أفق هذا النقد، وانفتح على الشعر الحديث، وأصبح يرحب به، ويفتح له بابه، اتسعت نظرية عمود الشعر لتحتوي القديم والحديث، ولتصبح قوانينها عامة شاملة تكاد تحيط بأصول الشعر العربي كله .
وقد بينّا نشأت نظرية عمود الشعر عند الآمدي لأول مرة تحت هذا المصطلح خدمةً للبحتري، ودفاعًا عنه، وإعجابًا به، فبسبب من تفضيل الآمدي لأسلوب البحتري، ونفرته من طريقة أبي تمام، استمد من شعر البحتري تصورًا خاصًا للشعر، وأطلق على هذا التصور ذلك المصطلح .
وكما نوهنا في ثنايا البحث بأن الآمدي لم يشرح لنا تلك العناصر، وإنما هي عناصر مستمدة من شعر البحتري فقط، وكانت النظرية عنده مرآة لشعر البحتري أنموذجًا للشعر القديم، وكما تحدثنا عن تصور الآمدي لمصطلح عمود الشعر بحيث كان من أنصار اللفظ .
وبينّا كذلك نشأة عمود الشعر عند الجرجاني من خلال كتابه الوساطة، حيث أشار إليه الجرجاني إشارة عابرة سريعة، من خلال حديثه عن أبي الطيب من أخطاء على أخطاء من تقدمه لبيان أن ذلك حظ مشترك لم يعرَ منه أحد، وهو لم يصرح بماهيته، ولا يشرحه، وذكر فقط ستة عناصر تتعلق بألفاظ الشعر، ويذكر أنها مقياس المفاضلة والسبق بين الشعراء، وهو لا ينص صراحة على أن هذه العناصر الستة عمود الشعر .
وفي النهاية بينّا نظرية عمود الشعر عند المرزوقي وذلك في مقدمة شرحه لحماسة أبي تمام، وأخذت تلك النظرية تتسع عنده حيث أصبحت تشمل الشعر العربي كله، وهي في صورتها عنده تنفتح لتشمل الشعر العربي كله حتى لا يكاد يخرج منها شاعر من شعراء العربية .
ونوهنا كذلك بأن المأخذ في رأيي الذي أُخذ على المرزوقي بأنه لم يشرح لنا تلك العناصر، حيث اضطررنا للعودة إلى كتب النقد القديمة، من أجل توضيح مدلولاتها ومعانيها النقدية .
ويمكن القول بأن النقاد الثلاثة الذين تحدثوا عن عمود الشعر وحددوا عناصره إنهم لم يخترعوا هذه العناصر اختراعًا من عندهم، فما هي إلا مفاهيم معروفة ومصطلحات متداولة كثيرًا في كتب النقد القديمة، وكذلك المصطلح لم يكن مصطلحًا نقديًا له حدوده الجامعة المانعة، عند كل من الآمدي والجرجاني، وإنما كان مصطلح مرتبط بالمعنى اللغوي المعروف وليس بالمعنى الاصطلاحي الآن .
وفي الختام، أَشهدُ أنّني في بحثي هذا لم أَدّخر وُسعًا في إعطاء المعلومة الصحيحة، وبذل الجهودِ المضينه للوصول إلى الحقيقة، غير حاسبٍ لصحَّتي ووقتي حسابًا ومُردّدًا قول ابن الأثير في المثَل السّائر " ليس الفاضِلُ مَن لا يَغلطُ، بل الفاضِلُ من يُعَدُّ غَلَطه " .
وبهذا ....
أتمنى أن أكون قد وفقت في تقديم بحثي هذا ، وإن كنت قصّرت عن ذلك، فلأن النقص من طبائع البشر .
__________________________________
قائمة المصادر والمراجع
أولاً: المعاجم .
1. ابن منظور، العلاّمة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم الأفريقي المصري (1410هـ ـ 1990م)، لسان العرب، المجلد التاسع، الطبعة الأولى، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت .
2. مجمع اللغة العربية، سنة النشر (بلا)، جمهورية مصر العربية، المعجم الوسيط، الجزء الأول، دار الدعوة .
ثانيًا: المؤلفات .
1. الجاحظ، عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، ط1، 1961م .
2. ابن رشيق القيرواني، العمدة في صناعة الشعر ونقده، تحقيق، محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، بيروت، لبنان، ط5، 1981م .
3. محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار نهضة مصر للنشر، القاهرة، 1973م .
4. حازم القرطاجني، مناهج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب، تونس، د.ط، 1966م .
5. الآمدي، الموازنة بين الطائيين، تحقيق: السيد صقر، دار المعارف، ذخائر العرب، 1965م .
6. وليد قصاب، قضية عمود الشعر العربي القديم، المكتبة الحديثة، العين، ط2، 1985م .
7. ابتسام الصفار و ناصر حلاوى، محاضرات في تاريخ النقد عن العرب، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، بغداد، د.ط، د.ت .
8. إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1971م .
9. الجرجاني، القاضي علي بن عبد العزيز، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، المكتبة العصرية، بيروت، د.ط، 1966م .
10. صلاح رزق، أدبية النص، دار الثقافة العربية، القاهرة، ط1، 1989م.
11. إحسان عباس، تاريخ النقد عند العرب (نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري)، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط2، عمان، 1986م .
12. طه أبو كريشة، النقد العربي التطبيقي بين القديم والحديث، مكتبة لبنان، بيروت، ط1، 1997م .
13. المرزوقي، شرح ديوان الحماسة، القاهرة، نشره: أحمد أمين وعبد السلام هارون، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط1، 1951م .
14. محمد البرازي، في النقد العربي القديم، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1987م .
15. رحمن غركان، مقومات عمود الشعر ( الأسلوبية في النظرية والتطبيق )، دمشق، ط1، 2004م .
16. قدامه بن جعفر، نقد الشعر، تحقيق: كمال مصطفى، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1963م .
17. حسين نصار، في الشعر العربي، مكتبة الثقافة العربية، ط1، 1421 هـ .
18. المرزباني، الموشح، تحقيق: على محمد البجاوي، دار النهضة، القاهرة، ط1، 1965م .
19. القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، د.ت .
20. أبو هلال العسكري، الصناعتين، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ط1، القاهرة، 1952م .
21. د. إبراهيم السعافين وآخرون، النقد الأدبي والعروض للصف الثاني ثانوي، وزارة التربية والتعليم، عمان، ط2، 1999م .
22. المبرِّد، الكامل في اللغة والأدب، تحقيق: محمد البجاوي وشحاتة، دار المعارف، القاهرة، د.ط .
23. ابن الأثير، المثل السائر، تحقيق: الحوفي وطبانة، طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة .
24. ابن طباطبا، عيار الشعر، تحقيق: طه الحاجري ومحمد زغلول سلام، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، د.ط .
25. الجاحظ، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، القاهرة، ط1، 1938م .