تعد البنيوية التكوينية أو التوليدية، فرع من فروع البنيوية، نشأ استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد والماركسيين، للتوفيق بين أطروحات البنيوية في صِيغيتِها الشكلانية وأُسس الفكر الماركسي أو الجدلي في تركيزه على التفسير المادي والواقعي للفكر والثقافة عموماً.
ولما كانت هذه المناهج الأدبية الحديثة محور النقاش عند العديد من النقاد والدَّارسين أردتُ أن أكون واحداً من الذين يقلبون صفحات الكتب للحصول على معلومات قد تكون لدى طالب العلم والمعرفة الخلقية حول هذه المناهج.ومن هنا تناولت دراستي منهج البنيوية التكوينية وهو أحد المناهج سالفة الذكر، وتقوم هذه الدراسة على توضيح معنى البنيوية التكوينية( التوليدية)، ومن ثم الحديث عن المفاهيم والمعايير التي تتَضَمْنُها البنيوية التكوينية، و انتقلتُ للحديث عن خطوات المنهج البنيوي التكويني في النقد الأدبي ومنهج غولدمان في التحليل البنيوي التكويني، ثم تناولت الحديث عن أبرز أعلام هذا المنهج، ومن ثم انتقلت للحديث عن البنيوية التكوينية في العالم العربي والمآخذ التي تدور حول المنهج البنيوي التكويني.
ومن أبرز المراجع التي اعتمدتُ عليها في كتابة هذا البحث كتاب ( البنيوية التكوينية والنقد الأدبي) للوسيان غولدمان، وكتاب ( فضاء النص الروائي) لمحمد عزام، وكتاب ( ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب) لمحمد بنيس وغَيْرِها من المصادر والمراجع.
الجـــــانب الأولــــــ،
معنـى البنيويـة التكوينيـة:
قال ابن رشيق: ( التوليد) أن يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدّمه أو يزيد فيه زيادة، فلذلك يسمّى (التوليد)، وليس (باختراع) لما فيه من الأقتداء بغيره، ولا يقال له أيضاً( سرقة) إذا كان ليس آخذاً على وجهه، مثل ذلك قول امرئ القيس:
سموتُ إليها بعدما نام أهُلها
سمُوَّ حَبَابِ الماءِ حالاً على حالِ
فقال عمر بن عبدالله بن أبي ربيعة، وقيل وضاح اليماني:
فأسقط علينا كسقوط الندى
ليلةَ لا ناهٍ ولا زاجرُ
فولّد معنى مليحاً أقتدى فيه بمعنى امرئ القيس، دون أن يشركه في شيء من لفظة، أو ينحو نحوه إلا في المحصول، وهو لطف الوصول إلى حاجته في خفية(1).
وكلمة البنيوية التي تشتق منها البنائية هي نزعة مشتركة بين عدّة علوم كعلم النفس، وعلم السلالات لتحديد واقعة بشرية بالنسبة إلى مجموع مُنظم، فهي نظرية قائمة على تحديد وظائف العناصر الدّاخلية في تركيب اللغة، ومُبينة أن هذه الوظائف المحدّدة لمجموعة من الموازنات والمقابلات هي مندرجة في منظومات واضحة، وليس للأعضاء وجود مستقل إلا من خلال تحديد وظائفها العامة (2).
ويتضح "إن مفهوم البنية (Structure)، ومفهوم التكوين (Genese) هما الأساس الذي تقوم عليه البنيوية التكوينية " (3).
التكوين أو التوليد لا يتضمن أي بعد زمني يعيد الشيء المدروس إلى تاريخ ولادته ونشأته. فالبعد الزمني في هذا الشأن ثانوي جداً ولا يخفي غُلدمان عدم أرتياحه لكلمة بنية لخشيه من الثبات والسكون اللذين يمكن إضفاؤهما عليها، فيقول في هذا الشأن" تحّمل كلمة بنية، للأسف،انطباعاً بالسكون. ولهذا فهي غير صحيحة تماماً. ويجب ألا تتكلم عن البنى؛ لأنها لا توجد في الحياة الاجتماعية الواقعية إلا نادراً ولفترة وجيزة، وإنما نتكلم عن عمليات تشكل البنى" (4).
ومن هذا المنظور فإن البنية التي يأخذ بها غولدمان ترتبط بالأعمال والتصرفات الإنسانية، إذ يكون فهمها محاولة لإعطاء جواب بليغ على وضع إنساني معين؛ لأنها تُقِيم توازناً بين الفاعل وفعله أو بين الأشخاص والأشياء. فصفة التكوين أو التوليدية هنا تعني الدلالية، دون الرجوع إلى النشأة بالضرورة.
وقد أشار عبد السلام المسدّي في كتابه قضية البنيوية بهدف هذا المصطلح من منظور غولدمان إلى إقامة توازن بين العالم الخارجي( الذي يحيط بالإنسان ويرسل إليه الحروب والفتوحات والنزوحات والاختلال مثلاً)، والعالم الداخلي( الذي ينبعث من الإنسان والمجموعة البشرية بغية التفاعل أو الرفض)، ويرى غولدمان أن هذا التوازن يتبدل من مجتمع إلى آخر ومن حقبة زمنية إلى أخرى(5).
الجــــانب الثــــاني
المفاهيم والمعايير المنهجية التي تتضمنها البنيوية التكوينية:
* البنيـة الدلاليــة:
يفترض مفهوم البنية الدلالية، الذي أدخله غولدمان، لا فقط وحدة الأجزاء ضمن كلية والعلاقة الداخلية بين العناصر، بل يفترض في نفس الوقت الانتقال من رؤية سكونية إلى رؤية دينامية، أي وحدة النشأة مع الوظيفة بحيث نكون أمام عملية تشكل للبنيات متكاملة مع عملية تفككها. إن مفهوم البنية الدلالية يشكل الأداة الرئيسية للبحث في أغلب الوقائع الماضية والحاضرة، مع ذلك فهنالك عدد من قطاعات الواقع التي يبدو أنها تقتصر على مفهوم البنية، من حيث أننا لا نستطيع فصل الجوهري عن العرضي ولا دمجها في بنيات أوسع، فيما يتعلق بمقولة البنية يشير غولدمان إلى أنها، مع الأسف، ذات رنين سكوني، مما يجعلها غير دقيقة دقة صارمة، لذلك لأننا نصادف في الحياة الاجتماعية الواقعية بنيات قليلة بل بالأحرى نصادف عمليات لتشكل البنيات، عمليات يمكن وضعها في علاقة مع البنيات الذهنية الخاصة لا بأفراد بل بالمجموعات وبالطبقات. إن اتجاه تشكل البنية نحو بنية جديدة، الخاص بالمؤلفات الفلسفية الكبرى، وبالمؤلفات الأدبية والفنية، يعبر عن نظام وعن انسجام الموقف العام للإنسان تجاه المشاكل الرئيسية التي تطرحها العلاقات القائمة بين الناس والعلاقات القائمة بين الناس والطبيعة، في حين أن تفكك البنيات يعبر عن المسافة التي تفصلها عن البنيات القديمة وعن المواقف التي كانت المجموعة الاجتماعية تسعى نحوها في الماضي(6).
ويؤكد غولدمان أن البنيات الذهنية والوجدانية والبنيات السلوكية هي دوما بنيات تاريخية، يؤثر بعضها على بعض تأثيراً متبادلاً، وتتدامج ضمن بنيات تحتويها وتشملها. والنتيجة أنه لا يوجد أي سبب يدفع إلى التوقف في التحليل عند كتابة ما أو عند نتاج أو عند فردية المؤلف أو حتى عند الوعي الجماعي(7).
ويوصي غولدمان النقد الأدبي، بتبني منظور واسع، لا يغفل التحليل الداخلي للنتاج، واندراجه ضمن البنيات التاريخية والاجتماعية ولا يغفل كذلك دراسة السيرة الذاتية ونفسية الفنان، كأدوات مساعدة. كما يدعو إلى إدخال النتاج في علاقة مع البنيات الأساسية للواقع التاريخي والاجتماعي(8).
* رؤيـــة العالـــم:
لا يأخذ غولدمان مقولة رؤية العالم في معناها التقليدي الذي يشبهها بتصور واعٍ للعالم، تصور إرادي مقصود، بل هي عنده الكيفية التي يحس فيها وينظر فيها إلى واقع معين، أو النسق الفكري الذي يسبق عملية تحقق النتاج: إن ما هو حاسم، ليس هو نوايا المؤلف بل الدلالة الموضوعية التي يكتسبها النتاج، بمعزل عن رغبة مبدعة وأحياناً ضد رغبته، ويرى غولدمان، في منظور مادي جدلي أن الأدب والفلسفة من حيث أنهما تعبيران عن رؤية للعالم- في مستويين مختلفين- فإن هذه الرؤية ليست واقعة فردية بل واقعة اجتماعية تنتمي إلى مجموعة أو إلى طبقة. وتبعاً لبرهنته، فإن أي رؤية للعالم هي من وجهة نظر متناسقة ووحدوية حول مجموع واقع وفكر الأفراد الذي يندر أن يكون متناسقاً ووحدوياً باستثناء بعض الحالات. لا يتعلق الأمر هنا بوحدة ميتافيزيقية ومجردة، بدون جسم ولا شكل، بل يتعلق الأمر بنسق فكري يفرض نفسه، في بعض الشروط على مجموعة من الناس توجد في شروط مشابهه، أي على بعض الطبقات الاجتماعية(9).
* القيمـــة:
إن إحدى المعايير الأساسية لقيمة النتاج- حسب غولدمان- هي مقدار تمثيلها لرؤية متناسقة للعالم على مستوى المفهوم وعلى مستوى الصورة اللفظية أو الصورة الحسية. إن التفسير العلمي لنتاج ما لا ينفصل عن إبراز قيمته الفلسفسية أو الجمالية، مما يفترض استخراج الرؤية المعبر عنها والتأويل الموضوعي لها. نحن نعرف مع ذلك أن الرؤية المتناسقة ليست هي المعيار الصالح الوحيد. وفي العلوم تتدخل الحقيقة، أما في الفن فإن المعايير تناسب الواقعية. وتضيف البنيوية الفرنسية بأنه يمكن القول أن نظرية علمية ما تأخذ قيمتها حين يعترف بها كنظرية خاطئة، في حين أن عملاً فنياً ما لا يمكن أن يكون غريباً كل الغربة عن كل واقعية- كما يحدث في العلم المعاصر- دون أن يفقد بذلك قيمته الجمالية. وإذا كان الفرق بين العلم والفن أمرا بديهيا، فإننا نعرف بأننا لا ننجح في فصل المعنى الأكسيولوجي المضفي على الواقعية(10).
يعلن غولدمان أنه يناصر الفكرة التي تبلورت في علم الجمال التقليدي، والتي تعرف القيمة كـ ( توتر متجاوز ومتغلب عليه) بين الثراء الحسي والوحدة التي تنظم هذا التعدد في مجموع متناسق. ويبدو هذا المنظور صادقاً بقدر ما يكون التوتر هو في نفس الوقت توتراً أكبر ومتغلباً عليه بصورة أكثر، أي بقدر ما يكون الثراء والتعدد الحسي للنتاج كبيرين، وبقدر ما يكون عالم النتاج عالما منظماً صارماً ويشكل وحدة بنيوية. فإن التناسق الذي يعتبر هو أيضاً رغم عدم كفايته كمعيار أساسي بجانب رؤية العالم وبجانب السمة التوترية للنتاج(11).
إن القيم الحقيقية في مفهوم غولدمان، ليست هي القيم التي يعتبرها الناقد أو القارئ كذلك، بل هي القيم التي تنظم ضمنياً مجموع عالم النتاج. ومن البديهي في هذا المنظور أن لكل نتاج في حد ذاته قيمه الخاصة. حين يتعلق الأمر بالفن، فإن وجود القيم ليس وجوداً مفهومياً ومجرداً، وجوداً يأخذ في وعي المبدع صورة أخلاقية، والتي عبر عنها لوكاش قائلاً بأن ( أخلاقية الروائي تصبح مشكلة جمالية للنتاج). أي أن الأمر لا يتعلق هنا بقيمة النتاج بل بالقيم التي يستدمجها، لذلك من غير الكافي أن تكون القيم الأخلاقية المعنية قيماً أساسية حتى يكون العمل الفني ناجحاً من وجهة نظر علم الجمال(12).
أن القيم الفكرية الحقيقية لا تنفصل عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي بل بالعكس تتكئ عليه، وهي تدقيقات في غاية الأهمية، رغم أن إطار حل المشكلة يمر عبرها بصعوبة. وبالفعل فإن الميكانيزم الملموس لتقييم النتاج مفقود فيها. إن فكرة أهمية المضمون ( المأخوذة من لوكاش)، وواقع أننا أمام كائنات ملموسة وواقعية أنه يتعين علينا في تقديراتنا أن نأخذ ثراء ووحدة العالم المبدع بعين الاعتبار، ولكنها تبقينا في نفس المنظور العام. وإن التحليلات الملموسة التي يقوم بها المؤلف تنطلق في معظمها من الأعمال الفنية ومن مؤلفين معروفين، ومع أننا نتفق مع المواقف المبدئية لغولدمان- إلا أننا نأسف لواقعة أعماله تشعر المرء بضرب من (المضمونية) وأن المشاكل (اللغة) لا تعالج إلا في مدى ضعيف(13).
* النتــــــاج:
النتاج حالة خاصة ومتميزة للسلوك الإنساني في المعنى الذي يتعين فيه على السلوك الإنساني أن يعبر عن بنية دالة تنتمي لا إلى الفرد بل إلى المجموعة أو إلى الطبقة التي يمثلها هذا السلوك. إن التفاعل المتبادل بين الذات والموضوع مصوغة بصورة في منتهى الدقة، مبرهنة على أنهما بعيدان عن أن يكونا متموضعين في قطبين متعارضين تعارضاً كلياً أو أنهما لا يتداخلان فيما بينهما. إن الموضوع العالم الطبيعي والاجتماعي هو جزء كبير منه منتوج للأنشطة الإنسانية أي للذات إذن، في حين أن البنيات التي تحكم نشاط الذات وفي المقام الأول المقولات الفكرية والقيم- هي منتوج التطور التاريخي للعالم الطبيعي والاجتماعي(14).
* الفــن:
إن تصورات غولدمان المتعلقة بطبيعة الفن ليست تخليلات داخلية للفن( باستثناء بعض الحالات) بقدر ماهي مقدمات لإنشاء منهجية ضرورية للبحث، وليس من الصحيح أن الفن يقوم في شكل مستقل عن المضمون أو يمكن أن يأخذ صفاءه بواسطة اقتراب أكبر من الحياة الواقعية ومن الصراعات الطبقية ، لذلك لا يمكن تقدير قيمة نتاج ما من خلال مضمونه، باسم بعض المذاهب أو بعض المعايير. فالفنان لا ينسخ الواقع، بل يبدع كائنات وأشياء تشكل عالماً موسعاً وموحداً إلى هذا القدر أو ذاك، عالما ذا تناسق ومنطق داخلي منظوراً إليه من زاوية معينة(15).
وعليه يقول غولدمان أنه:
1. لا يتعين علينا، في فهم النتاج، إيلاء اهتمام خاص للنوايا الشعورية لمؤلفه؟.
2. لا يتعين تقدير أهمية الفرد تقديراً زائداً ، خلال التفسير؛ لأن التفسير هو قبل كل شيء، البحث عن ذات فردية أو جماعية بحيث يكون للبنية الذهنية التي تسود النتاج الفني دور وظيفي ودلالي بالنسبة لهذه الذات.
3. ليس لـ ( التأثيرات) أية قيمة تفسيرية بل أنها هي ذاتها تشكل عناصر يلزم تفسيرها.
4. إن قيمة طريقة التفسير ليست واحدة في منظور علم الاجتماع البنيوي وفي منظور التحليل النفسي، ولكنها ليست مع ذلك متعارضة بل هي بالأولى متكاملة.
5. إن نظام القواعد الخاصة بالنتاج ليست أبدا محايثة ولا موجودة قبل البنية الاجتماعية، بل العكس إن هذا النظام هو نتيجة عمليات تحويل اجتماعية شمولية(16).
الجـــــانب الثـــــالث
خطوات المنهج البنيوي التكويني في النقد الأدبي:
الخطـــوة الأولـــى: البدء بقراءة ألسنية للنص، وذلك عن طريق تفكيك بنياته إلى وحداتها الصغرى الدّالة، وذلك باكتشاف( البنية السطحية) للنص، وبيان بنيات الزمان والمكان فيه. ثم تركيب هذه الاجزاء للخروج منها بتصور (البنية العميقة) للنص، أو رؤية العالم كما تجسدت في الممارسة الألسنية للنص(17).
الخطـــوة الثانيــــة: إدماج هذه البنيان الجزئية للوحدات الدالة في بنية أكثر اتساعاً. وتفكيك هذه البنية الأشمل، أيضاً، للعثور على دلالتها الشاملة. وبهذا ننتقل من ( النص الماثل) إلى النص الغائب)، وذلك أن النص الماثل ليس ذرة مغلقة على نفسها، بل هو نتاج اجتماعي تاريخي، يعّبر عن طموحات فئة اجتماعية أو طبقة اجتماعية. وبذلك تصبح قراءة النص الأدبي كشفاً لبنياته المتعددة، ثم ادماجها في البنية الاجتماعية لبيئة المبدع وعصره(18).
وهكذا تبحث البنيوية التكوينية في أربع بنيات للنص هي:
1- البنية الداخلية للنص.
2- البنية الثقافية أو (الايدولوجية).
3- البنية الاجتماعية.
4- البنية التاريخية. وهذه البنيات متكاملة ومتفاعلة فيما بينها. فإذا كانت القراءة الداخلية للنص تقدم لنا خطوة نحو فهم القوانين المتحكمة في البنية الداخلية، فإن هذا الفهم بحاجة إلى تفسير. وهذا ما ينبغي التماسه في البنية الثقافية. غير أن هذا التفسير يظل مجرداً ، إذا لم يتحول إلى فهم ، فيصبح بدوره بحاجة إلى تفسير، مما يستدعي مقاربة البنية الثالثة( الاجتماعية) (19).
الجــــانب الرابــــــع
منهج غولدمان في التحليل البنيوي التكويني:
يمكن تحديد منهج غولدمان في النقد البنيوي التكويني في النقاط التالية:
1. دراسة ما هو جوهري في النص، وذلك عن طريق عزل بعض العناصر (الجزئية) في السياق، وجعلها كليات مستقلة.
2. إدخال ( العناصر) الجزئية في( الكل)، علماً بأننا لا نستطيع الوصول إلى كلية لا تكون هي نفسها عنصراً أو جزءاً، فجزئيات العالم مرتبطة ببعضها بعضاً، ومتداخلة بحيث يبدو من المستحيل معرفة واحدة منها دون معرفة الأخرى، أو دون معرفة الكل.
3. دمج العمل الأدبي في( الحياة الشخصية لمبدعه).
4. إلقاء الأضواء على ( خلفية النّص) الاجتماعية، وذلك بدراسة مفهوم( العالم) عند الجماعة التي ينتمي إليها الكاتب، والتساؤل عن الأسباب الاجتماعية والفردية التي أدت إلى هذه الرؤية كظاهرة فكرية عبّر عنها العمل الأدبي في زمان ومكان محددين. وهذه الرؤية هي ظاهرة من ظواهر الوعي الجمالي الذي يبلغ ذروة وضوحه في نتاج المبدع(20).
الجــــانب الخــــامس
البنيويــة التكوينيــة ( أبرز الرواد):
ومن أبرز أعلام البنيوية التكوينية ما يلي:
1. لوسيان غولدمان:
ولد لوسيان غولدمان ببوخارست سنة 1913م، وقضى طفولته فـي مدينة بوتوزالن فـي رومانيا حيث أتم دراسته. بعـد البكالوريس هيأ إجازة فـي الحقوق في بوخارست حيث احتك أول مرة بالفكر الماركسي، انتقل سنة 1933م إلـى فيينا حيث اكتشف الأعمال الثلاثة الكبرى للوكاش (الروح والأشكال)، (نظرية الرواية)، (التاريخ والوعي الطبقي). بعد تحرير فرنسا عاد إلـى باريس وحصل على منصب ملحق المركز الوطني للبحث العلمي، ثم علـى منصب مكثف للأبحاث، فـي هذه الأثناء هيأ رسالة دكتوراه فـي الأدب بعنوان: ( الإله المختفي، دراسة في الرؤية المأساوية فـي " أفكار" باسكال ومسرح راسين) وهـي دراسة تحليلية ماركسية للأدب بدلالة البنيات الذهنية الجماعية التي أنشأتها المجموعات الاجتماعية. ثم ألف غولدمان- بطلب من اميل برييه- (العلوم الإنسانية والفلسفة) الذي ظهر سنة 1952م(21).
نشر سنة 1959م ( أبحاثاً جدلية) وهـي مجموعة أبحاث حول علم اجتماع الأدب والفلسفة. سنة 1964م أصبح مدير قسم علم الاجتماع الأدبي فـي مؤسسة علم الاجتماع فـي جامعـة بروكسيل الحرة. وأصدر( من أجـل علم اجتماع الرواية)، وركز اهتمامه فـي الفترةالأخيرة من حياته علـى مشاكل المجتمع الغربي المعاصر، وكتاباه الآخيران (البنيات الذهنية والإبداع الثقافي) و( الماركسية والعلوم الإنسانية)، يعبران عن اهتمامه النظري بالعوامل التي يمكن أن تسمح للمجتمع الغربي بالاتجاه نحو الاشتراكية(22).
ويعد لوسيان غولدمان أحد أهم الأعلام في منهج البنيوية التكوينية، فهو الذي أرسى دعائم هذا المنهج حين أعتمد بعض مقالات أستاذه جورج لوكاش، وطورها، فشغل النقد الأوروبي، كما فعل دولان باورت في النقد العالمي، والبنيوية التكوينية اتجاه نقدي يرى أن المنهج البنيوي الشكلاني قد وصل بالنقد إلى الطريق المسدود، حين اقتصرعلى النص وحده دون أن يربطه بظروفه الاجتماعية، فجاء المنهج البنيوي التكويني ليرفد الدراسة النصية للأدب بدراسة الوسط الاجتماعي الذي ابدعه(23).
" ويستهدف لوسيان غولدمان من وراء بنيويته التكوينية رصد رؤى العالم من الأعمال الأدبية الجيدة عبر عمليتي الفهم والتفسير بعد تحديد البنى الدالة في شكل مقولات ذهنية وفلسفية. ويعد المبدع في النص الأدبي فاعلاً جماعياً يعبر عن وعي طبقة اجتماعية ينتمي إليها، وهي تتصارع مع طبقة اجتماعية أخرى لها تصوراتها الخاصة للعالم. أي إن هذا الفاعل الجماعي يترجم آمال وتطلعات الطبقة الاجتماعية التي ترعرع في أحضانها، ويصيغ منظور هذه الطبقة أو رؤية العالم التي تعبر عنها بصيغة فنية وجمالية تتناظر مع الواقع"(24).
ويقدم المنهج البنيوي التكويني كما يرى محمد بنّيس في كتابه ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب على مبدأين عبّر عنهما غولدمان :
المبدأ الأول: كما قال غولدمان: "إن أول معاينة عامة يرتكز عليها الفكر البنيوي تكمن في أن كل تأمل في العلوم الإنسانية يحدث لا من خارج المجتمع، بل إن هذا التأمل جزء –تقل أو تكبر أهميته حسب الوضعية بطبيعة الحال- من الحياة الثقافية لهذا المجتمع، ومن خلالهما، للحياة الاجتماعية العامة، بالاضافة إلى أن التكوين الخاص للفكر، وبالمقياس نفسه حيث إن الفكر جزء من الحياة الاجتماعية، يغير قليلاً أو كثيراً، حسب أهميته، وفعاليته، هذه الحياة الاجتماعية نفسها(25).
المبدأ الثاني: فيقول عنه "إن الفكرة الثانية الأساسية لكل علم اجتماع جدلي وتكويني بنيوي هو أن الأفعال الإنسانية أجوبة شخص فردي أو جماعي، تؤسس محاولة لتغيير وضعية معطاة في اتجاه ملائم لتطلعاته. وهذا يعني أن كل سلوك، وبالتالي كل فعل إنساني، له خاصية دالة ليست دائماً واضحة، ولكن الباحث يجب عليه عن طريق عمله اظهارها(26).
فهذان المبدآن يوضحان كل الخطوات العلمية التي ينهجها المنهج البنيوي التكويني في قراءته لكل مظاهر السلوك أو الفعل الإنساني في مرحلة من مراحله التاريخية وهما يحددان العلاقة الجدلية الموجودة بين القراءة الداخلية والقراءة الخارجية لكل عمل أدبي ومدى تفاعلهما؛ لأن كل داخل بحاجة إلى خارج يفسره.
2- جورج لوكاش:
يعد لوكاش من أهم الأعلام الذين أهتموا بالمنهج البنيوي التكويني، وذلك بالقول، إن جل الجهود التي بذلت في نطاق هذا المنهج كانت موجهة بالدرجة الأولى إلى الأعمال الروائية، مما يعطي الإنطباع بأن نظرية الرواية قد بدأت – مع هذا المنهج بالذات- تأخذ طريقاً نحو الشكل. وليس من قبيل الصدفة أن يكتب " لوكاش" نفسه كتاباً يحمل عنوان " نظرية الرواية" سنة 1920م(27).
من المعروف أنه كان من بين من بلور فكرة " رؤية العالم" تلك التي تبناها بعده " غولدمان" ؛ ففي دراسة عن " والترسكوت" ربط الرؤية الفكرية لهذا الكاتب بتصور عن التاريخ بدأ يتشكل فـي أوروبا تحت تأثير فلسفـة " هيجل" ، وهو تصور يؤمن
بالتطور ولكن في حدود الاصلاحات الجزئية التي لا تغير الواقع بشكل تام(28).
وقد ألمَحَ لوكاش لرؤية العالم بـ " المفهوم التاريخي الفلسفي" . وفي دراسته أيضاً عن " بالزاك والواقعية الفرنسية" أسهب في تحليل الخلفيات الفكرية، والايدولوجية التي كانت وراء ابداع بالزاك " لرواياته" ، فوجد عنده إيماناً بمبادئ الأرستقراطية، وفي الوقت نفسه ميلاً ملموساً نحو مناقضة هذا الفكر الأرستقراطي نفسه، ومن خلال هذه الاسس الفكرية التي َوجَّهَتْ أعمال " بالزاك" ، أثار " لوكاش" موضوعاً شديد الأهمية فيما يتعلق ببناء نظرية الرواية، وهو التفاوت الموجود احياناً بين الانتماء الاجتماعي، والانتماء الفكري للكاتب. ولقد كانت هذه النقطة بالذات لا تعطى اهتماماً كبيراً من طرف النقاد الجدليين الأوائل؛ ولهذا السبب فإن لوكاش كان من أوائل من نبهوا بشكل واضح إلى ضرورة احتياط الناقد من الوقوع في الخطأ الفادح الذي ينشأ عن النظرية الميكانيكية في تفسير أعمال الروائيين، اعتماداً على أنتماءاتهم الاجتماعية أو اعتماداً على معتقداتهم التي يعلنون عنها بشكل مباشر، فعندما يتعلق الأمر بالابداع الروائي فإنه قد يحدث أحياناً تفاوت كبير بين المعتقدات النظرية والايدولوجية للكاتب وبين الرؤية الفكرية التي تتحكم في عمله أو بعض أعماله، فالإبداع يجرد المبدع أحياناً حتى من افكاره الراسخة(29).
الجـــانب الســـادس
البنيوية التكوينية في العالم العربي:
يمكن القول بأن البنيوية التكوينية أكثر المذاهب النقدية الغربية انتشاراً في العالم العربي، وعلى نحو لم يتح للفرع الآخر من البنيوية وهو البنيوية الشكلانية. ويمكن القول أيضاً إن سر هذا الانتشار يعود إلى هيمنة الاتجاهات الماركسية تحديداً، في أكثر البيئات النقدية العربية. فحين تأزمت تلك الاتجاهات وجد بعض النقاد العرب مخرجاً مؤاتياً في شكل نقدي يجمع بين تطورات النقد الغربي الحديث، لا سيما ما نزع منه نحو العلمية، وبين الأسس الماركسية التي قامت عليها البنيوية التكوينية في الغرب، كما رأينا عند غولدمان. ومن النقاد العرب السائرين في هذا الاتجاه، أو ما يقرب منه: المغربيان محمد برادة، ومحمد بُنيّس، واللبنانية يمنى العيد. صدر عن هؤلاء وغيرهم دراسات تحليلية عديدة منها دراسة يمنى العيد في معرفة النص (1983م)، ودراسة محمد برادة وتنظير النقد العربي (1979م). كما صدر كتيب تعريفي مترجم بعنوان البنيوية التكوينية والنقد الأدبي (1984م) تضمن دراسات لعدد من أعلام البنيوية التكوينية في فرنسا خاصة(30).
الجـــانب الســـابع
المآخذ التي وجهت حول المنهج البنيوي التكويني:
1. المجهود الكبير الذي بذله غولدمان خاصة، كان موجهاً في أغلبه إلى توضيح المرتكزات الفلسفية لعلاقة الرؤية بالوعي والواقع.
2. ضرورة إخضاع العمل الروائي إلى التحليل الداخلي في الخطوة الأولى التي دعاها مرحلة الفهم.
3. لم يستطع أن يخصب نظرية الشكل الروائي بوضع أو اقتراح الوسائل والأدوات العملية التي تُمكن في القيام بذلك التحليل، حيث يقر معتمداً على حدسه الخاص في كشف بنية النص الدالة.
4. دراسة الأعمال الروائية من الداخل عند غولدمان بقى مُجرد مبدأ نظري ليس له ما يوازيه من الوسائل، والتقنيات التي تُسهل انجازه على مستوى التطبيق.
5. عند دراسته للأعمال "مالدو" الروائية؛ إذ تراه ينتقل بين النصوص دون خطة واضحة حتى أن القارئ لا يستطيع إطلاقاً أن يتعرف إلى المقاييس التي تتحكم في أسلوب اكتشاف الناقد للبنيات الدالة في العمل(31).
الخاتمة
أهـــم النتائــج:
ومن خلال ما تقدم من عرض مفصل للشخصيات يمكن للباحث أن يخلص إلى أبرز النتائج:
1. بيان معنى البنيوية التكوينية، وما آلت إليه من توليد وبنية وتكوين، وتوضيح هذه المفاهيم.
2. بيان المفاهيم والمعايير المنهجية التي تضمنها البنيوية التكوينية ،وما بها من مفاهيم البنية الدلالية، ورؤية العالم والقيمة والنتاج والفن.
3. توضيح خطوات المنهج البنيوي التكويني في النقد الأدبي.
4. بيان منهج غولدمان في التحليل البنيوي التكويني.
5. بيان أبرز رواد البنيوية التكوينية، حيث يُعد لوسيان غولدمان، وجورج لوكاش من أهم أعلام هذا المنهج.
6. توضيح البنيوية التكوينية في العالم العربي، والمآخذ التي وجهت حول هذا المنهج.
قائمـــة المصـــادر والمراجــــع:
1. غولدمان، لوسيان وآخرون، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، بيروت، لبنان، 1986م.
2. عزام، محمد، فضاء النص الروائي –مقارنة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان-، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، اللاذقية، سوريا، 1996م.
3. لحمداني، حميد، النقد الروائي والإيديولوجيا- من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي- المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت، الحمراء، الدار البيضاء، الشارع الملكي، 1990م.
4. جمال، شحيد، في البنيوية التكوينية، مجلة المعرفة، السنة التاسعة عشرة، العددان 225- 226، تشرين الثاني (نوفمبر) كانون الأول، (ديسمبر) 1980م.
5. الرويلي، ميجان، البازعي سعد، دليل الناقد الأدبي، -إضاءة لأكثر من خمسين تيار ومصطلحاً نقدياً معاصراً- المركز الثقافي العربي، ط2، 2000م.
6. المسدي، عبدالسلام، قضية البنيوية دراسة ونماذج، وزارة الثقافة، ط1، تونس، 1991م.
7. حمداوي، جميل، مدخل إلى البنيوية التكوينية، مقال على شبكة الانترنت، موقع منبر الوطن.
8. بنيس، محمد، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب، مقارنة بنيوية تكوينية، دار التنور للنشر، ط2، 1985م.
9. طبانة، بدوي، معجم البلاغة العربية، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1982م.
10. عبدالنور، صبور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، ط2، لبنان، بيروت، 1984م.
الحواشي:
1. بدوي طبانة، معجم البلاغة العربية، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1982م،ص948.
2. صبور عبد النور،المعجم الأدبي، دار العلوم للملايين، ط2، لبنان، بيروت،1984م، ص52.
3. حميد لحمداني، النقد الروائي والإيديولوجيا، - من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي- المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت الحمراء، الدار البيضاء، الشارع الملكي، 1990م، ص68.
4. شحيد جمال، في البنيوية التكوينية، مجلة المعرفة، السنة التاسعة عشر، العددان(225، 226)، تشرين الثاني( نوفمبر) كانون الأول، (ديسمبر)، 1980م، ص29.
5. عبد السلام المسدي، قضية البنيوية، دراسة ونماذج، وزارة الثقافة، ط1، تونس، 1991م، ص208.
6. لوسيان غولدمان وآخرون، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، بيروت، لبنان، 1986م، ص46.
7. المرجع نفسه نفسه، ص47.
8. المرجع نفسه ، ص48.
9. المرجع نفسه، ص48
10. المرجع نفسه ص49.
11. المرجع نفسه، ص50
12. المرجع نفسه، ص50.
13. المرجع نفسه ، ص50.
14. لوسيان غولدمان، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ص51.
15. المرجع نفسه، ص52.
16. المرجع نفسه، ص53.
17. محمد عزام، فضاء النص الروائي، مقارنة بنيوية تكوينية، ص42.
18. المرجع نفسه ، ص41 .
19. المرجع نفسه ، ص42.
20. محمد عزام، فضاء النص الروائي:( مقارنة بنيوية تكوينية في أدب نبيل سليمان)، ص47.
21. لوسيان غولدمان وآخرون، البنيوية التكوينية والنقد الأدبي، ص11/12.
22. المصدر نفسه، ص21.
23. محمد عزام، فضاء النص الروائي،ص 42-43.
24. جميل حمداوي، مدخل إلى البنيوية التكوينية، مقال على شبكة الانترنت، موقع منبر الوطن.
25. محمد بنيس، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب،( مقارنة بنيوية تكوينية) دار التنور للنشر، ط2، 1985م، ص333.
26. نفسه، ص333.
27. حميد لحمداني، النص الروائي والإيديولوجيا، ص61.
28. نفسه، ص61.
29. نفسه، ص62.
30. نفسه، ص61.
31. نفسه، ص62.