لا ينفكُّ الشاعر علي جعفر العلاق يستمدُّ أجواءه وموضوعاتهِ من عناصر الطبيعة بنوعيها الحيّ والجامد.. الثابت والمتحرك منذ ديوانه الشعري الأول (لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء)، حتَّى جعل ذلك ميسماً من مياسم دواوينه التالية: (وطن لطيور الماء) و(شجر العائلة) و(فاكهة الماضي)، بل تجاوزَ ذلك إلى إبداعاته النقدية، فكان من كتبه (هاهي الغابة فأين الأشجار؟)، غير أنني لن أتحدث عن الأشجار ولا عن الماء، لشهرتهما في شعره، بل عمّا تلوَّنَ به (سيِّدُ الوحشتين) من مظاهر الطبيعة وعناصرها الأخرى. وإذْ يلجأ إلى الطبيعة فلأنه يرى أنها ما زالتْ طَـيِّعةً لمعاني العصر الحديث وموضوعاته الآنية، كما يرى أنَّ الشعر العربي لم يستنفد طاقاتها على الرغم من استخدامه لها عبر العصور الشعرية الطويلة التي امتدت ما يقرب من خمسة عشر قرناً من الزمان، ولذلك تأخذ عناصر الطبيعة ومكوناتها عنده أشكالاً طريفةً، وينـزع فيها منازع مختلفة، في الغالب، ليعبر تعبيراً شِعرياً بليغاً عن مراميه.

فإذا كانت صفة الحصى، وهو مكون من مكونات الطبيعة الجامدة، الصلابة والقوة في ذاته، فإنَّ علي جعفر العلاّق، يشحذ هذا العنصر ليجعله غنياً بمعانٍ أخرى متنوعة، فضلاً عن معناه الأصلي الذي يستفيد منه في قوله:لك أن تتوهمَأن المتاهات أشرعةوالحصى سحبٌممطرةْ.   ص7  

فيُحيلُ إلى معنى صلابة الحصى واستحالة تحوله إلى مادة سائلة، ليكون ذلك معادلاً موضوعياً لحالة الوهم، ومخالفة الواقع، وقد ينعكس الأمر لديه فتتحول المادة اللينة إلى حصى: (طيور الحصى تأكل عينيه. ص20)، غير أنه استخدم الحصى في مواضع أخرى من هذه المجموعة ليحيل إلى معانٍ أخرى كالاختناق والوحدة كآبةً: (وحيداً يرى أيامه تمضي:/ الحصى جاثمٌ على أغانيه. ص19)، والهدوء والسكينة حزناً: (اهدئي، يا طيور المنافي/ لوِّحي لبلاد الأسى بالدموعْ. ص27)، وأرض الوطن حبَّاً وتعلُّقاً: (حجبتها الحروبُ/ أدنو فتمضي مثلما الغيم/ كم غسلتُ حصاها بالشذا. ص39)، والجدب والفقر: (الحقول حصى. ص55) مقابل الخير والغنى: (بلاداً قديمةً:/كنتُ أنمو بين غزلانها/ أكان حصاها/ فضةً في دمي تُضيء؟. ص72)، وتضحيات بلا طائل: (تمضي لتأتي/ ليس إلاَّ الذئاب تسطعُ/ في الليل: دماءٌ على الحصى/ وغناء على النعوش. ص41)، مقابل طقوس اعتقادية: (ثَمَّ نساءٌ يبتهلنَ/ إلى الحصى، ويغنينَ.. ص74).   وليس الحصى كالحجر الذي استحضره الشاعر لينفذ منه إلى معنى انكفاء الدلالة القديمة على دلالة جدية هي سلبية دائماً عنده لا تتعدى فقدان قيمة إيجابية ذات أهمية، فيداه أصبحتا متصلبتينِ حيث لا نماء، بينما يورقُ العكّازُ بينهما، وهذه صورة من صور التحول التي يريد بها الشاعر إتمام المشهد السوداوي الكئيب الذي يغلف وحشة روحه... صورة تكشف عن تناقض مخيف مؤلم: (مورقٌ عكَّازُهُ الأعمَى/ وأحجارٌ يداه. ص6)، وقد أضاف صفة العَمَى للعُكَّاز ليجعل الصورة أكثر تأثيراً وعُمقاً ودلالة، فضلاً عمَّا جنحَ إليه مِن تركيز تبادل الوظائف بين الأعمى وعُكَّازه.

وفي قوله: (لغتي من حجارٍ، وغائمةٌ/ شفتايْ. ص55) يرسم الشاعر ملمحاً آخر من ذلك المشهد القاتم عندما يصف لغته بعدم القدرة على التعبير والنظم، لضياع مدلولاتها في مثل حالته، كما أنَّ الحجار تصلَّبَ فلم يعد قادراً على التحلل والتركُّب، وفي كلتا الحالتين يكون التحوُّل من السيولة إلى الصلابة، ومن الإيجاب إلى السلب، وحتى في قوله: (ولماذا كلُّ شيءٍ حجرٌ/ مكتئبٌ أو ورقُ؟. ص12-13)، فالسؤال هنا يعبّر عن اندهاش الشاعر من كون الأشياء جميعاً حجراً، وإنكارهِ لهذه الكينونة التي هي استحالة سلبية دلَّ عليها الاندهاش والإنكار.

وتـتجلى (البئر) في عدة دلالاتٍ، ليس منها ما هو إيجابي:1-   كيفَ أوغلتَ؟ حفرتَ البئرَ حتّىبكت الإبرةُ، واشتدَّ عليكَ الليلُحتى اختلط الحابلُ بالنابلِ، والموحشُبالآهلِ، حتى بلغتْ حيرتُك الكبرى/مداها، فلماذايأسك الوارفُ لم يبلغْ مداه؟    ص5-62-   عمِّقوا البئرَ،ونادوا الذئبَمن أقصى النوايا المظلمةْحاصروا كلَّ دروب الريح:لايدخلْإلى مكمنه المائيّ نجمٌ،أو إلى عزلتهِ المزدحمةْحجرُ الضوءِ.. /تعبنالتكن آخرَ بئرٍ هذه البئرُ، ترابٌ أم فوانيسُ مناللوعةِ والياقوتِ؟ليلُ البئرِ غربانٌ من الفولاذِ تنقضُّعلى يوسفَ: هل يوسفُطفلُ البئرِ أم حيرتُناالكبرى؟    .........ضوءٌ يغتلي في البئر، رشّوامطرَ اليُتمِ على أطفاله الغافين ص23-243-   هل تمتلئ الآبارُ بالوحشةِ أمبالضوءِ؟أقمارٌ مدمَّاةٌسماواتٌمن الأشلاءِ، مَن كان قتيلَالبئرِ، يا يوسفُ:فجرٌ همجيٌّ ورياحٌ مُبهمةْ   ص25   ففي النص الأول تكون البئر متاهةً لا تُفضي إلى طائل، وفي النص الثاني تتبدَّى يأساً مفضياً إلى حيرة كبرى، وفي النص الثالث هي ضياع وعلامة استفهام ما وراءها مِن جواب بحسب ظاهر القول.

أما الريحُ فتأخذ حيِّزاً كبيراً من هذه المجموعة، ولنْ تختلف في دلالاتها السلبية عن العناصر الأخرى، فهي سبب الخطر والكوارث والمؤذن لها: (حاصروا كلَّ دروب الريح. ص 23)، و(فجأةً: داهمتنا الريح/ وانكسر النهار. ص77)، و(مثل البدايات تصعدُ/ أي الينابيع تدفعها صوبَ هذا الرماد المشاكس؟ أية ريحٍ تؤجج ماءَ أنوثتها؟. ص52)، وهي الفتنة والبلاء والطغيان: (ماذا تحملُ الريحُ إلى بابلَ؟ ص26)، و(أي ريحٍ/ تهبُّ من موطني الذبيح؟ ص62)، و(ملكاً كنتُ على الريحِ/ وكانت بضحايايَ تموجُ الطرق. ص11)، وهي الوحشةُ والتشتتُ والضياعُ والمتاهةُ والموت والقاتل والضحية: (يتُها الريحُ الخريفيةُ/ يا قُبَّرةَ الوحشةِ، مَن أيقظك الليلة؟. ص6)، و(مراكب تترى: فمِنْ عائدٍ/ تقتادهُ الريحُ،/ ومِن راحل. ص19)، و(أيّ السلالات نحنُ؟: قبائلُ للرملِ أم للهزائمِ؟ للريحِ أم للضجر؟. ص85)، و(كيفَ أوغلتَ؟ حفرتَ البئر حتّى بكت الإبرةُ واشتدَّ عليك الليلُ/ حتى اختلط الحابل بالنابل، الموحشُ/ بالآهل. ص5-6)، و(غرقنا في دم الريحِ. ص77)، و(فجأةً/ تتخطفها الريحُ. ص53)، و(نشيد قاتمٌ ينهشُ لحمَ الريحِ. ص25).وهي بَـعدُ رقيب شامتْ وقوة شريرة دائمة الشر ولا تصلح لجنى الورد: (وهل تنـتهي شماتة الريح؟
 ص20) و(الريحُ لن تهدأ. ص20)، و(سألنا الريحَ/ هل حملت إلى قصائدنا ورداً؟/ وهل كسرتْ عاداتها؟. ص46).

ويستخدم الشاعرُ الريحَ ليرسمَ صورة دقيقة الملامح لواقعٍ متبدِّل، استحالَ فيه الفرح حزناً، والعشب جدباً، والقربُ بُعداً:1-             كنا مضيئين،بل كنا نفيضُ أسىًوغبطةً، وتُغنّيحولَنا الريحُ     نُعاسنا مُمطرٌعُشباً،ويقظتنا غَمامتانِوأيدينا المصابيحُ/ندنو من النارِ،نَفنى في تشمُّمهاحتَّى نُجنَّأحلماً كان؟ /تنأى بنا الريحُ:كلٌّ صوبَ هاويةٍيسوقنا مطرٌأعمىوتبريحُ.. ص29-31    أما عناصر الطبيعة الحيّة فلم تكن بمستثناة لديه من دلالات سلبية بما أستطيع معه التعميم، فالذئبُ رمزٌ للغدر والفتك والقتل: (عمِّقوا/ ونادوا الذئب/ من أقصى النوايا المظلمةْ. ص23)، و(ونادوا/ ذئبنا الهائجَ في أرواحنا المضطرمةْ.. ص25)، و(تمضي/ لتأتي/ في الليل دماء على الحصى/ وغناء على النعوشِ. ص42)، و(أيها الرمحُ الذي/ يعولُ مثل الذئبِ، لم يبقَ نديمٌ/غير هذا الموت. ص50) و(ذئبٌ معتمُ يتبعني. ص63).   وأما الغراب فهو نذير شؤم ولا شكّ، يكون سواده ليلاً يستر الجريمة، ونهاية كارثية يقتضيها سياق الوحشة، وغروباً للأماني: (ليل البئر غربانٌ من الفولاذ تنقضُّ/ على يوسف. ص24)، و(نادوا/ وحشة الليل، وغربان النهايات. ص25)، و(أي غروبٍ/ صنعتهُ الغربانُ؟. ص79).    وكان ينبغي أن يكون للغزال وضعٌ مختلف عن أوضاع العناصر الحية الأخرى، فهو الجميل الرشيق، النادر القليل، العصيّ العزيز، غير أنَّ أمره لدى الشاعر وهو يتسيَّد الوحشتين غير ذلك تماماً، ولهذا السبب استطعتُ التعميم، فهذا هو الغزال: دمهُ المسفوك انعكاس واضح لدماء الشعب المسفوكة على الدوام، ومدافن الغزلان هي مدافنه، وهو رمزٌ للكآبة، والموت الرشيق، والواقع الهش: (نهارٌ من دم الغزلان: يعلو/ وهم القتلى، يُغنّي/ وهم الباكون، ينأى وهم الغافون في الظلمةْ. ص26)، و(آه،/ كم عدتُ كي أُطلّ/ على الحقلِ: نجومٌ مطحونةٌ،/ وحقولٌ من عظامِ الغزلانِ،/ أي بلادٍ: تختفي/ كي تضيءَ/ لتأتي. ص41)، و(يتفتح عشب على طللٍ،/ ويشمُّ غزالٌ كآبةَ/ أنثاه. ص34)، و(كنْ رشيقاً، مثلَ ظبيٍ،/ أيها الموت. ص50)، و(أغزالٌ مِن الرملِ ذاك؟. ص55).    ثمَّ يتخذ من الغزلانِ، وهي الرمز الجميل، رمزاً للحرمان باستخدام أسلوب النفي أو التحوّل لتأكيد السلب: (لا ندامايَ/ ولا ظلُّ ردائي/ لا غزالاتُ الغضا،/ لا امرأةٌ تُقبلُ من مملكة الرمان:/ مَن يحملُ للقبرِ/ بقاياي؟. ص49)،  و(بلاداً قديمةً:/ كنتُ أنمو بين غزلانها. ص72)، وهكذا استطاع الشاعر ببراعة ملحوظة تحويل هذا الرمز الإيجابي إلى رمز سلبي ليس بالنظر إلى ذاته، بل بالنظر إلى ما وقع على هذه الذات من عَبث ٍ وتنكيل.    وتلك الذات لا تنفصل عن ذات الشاعر بأية حال، بل هيَ هيَ، لأنها ليست مقتطعةً منه، أو مفصولةً عنه، بل هي تعبير عن ملامحه، وعذاباته وتداعيات روحه الجريح، وقلبه الموجَع، حتى صار سيداً لوحشتين لا وحشة واحدة، وحشة المُبدِع، حيث الانفصام عن المحيط لابتداع عالم آخر، وهذا أمر طبيعي اعتيادي يُعانيه كل مبدع ٍ أصيل، ووحشة الغُربة، حيث البعد عن الوطن أو ضياعه، وهو أمر شخصي فردي طارئ، وهنا يلتقي العذابان، وتُستجمعُ الأحزان، ومثل هذه الأحزان نجدها مبثوثة في تضاعيف هذه المجموعة الشعرية بشكل بَـيِّن جليّ، ومتمحورة في هموم الوطن ووطنية الشاعر التي فاضتْ لتغطّي مساحاتٍ واسعةً من قصائد هذه المجموعة، بل مساحات قصائدها جميعاً.

غير أنه جعل قصيدته (لي بلاد أحبها وهي تنأى) ملاذاً لعميق مشاعره بوطنه العراق وما آل إليه مِن دمار تحت وطأة الحروب والخراب، ومنها قوله في أول القصيدة:حجبتْها الحروبُ،أدنوفتمضي مثلما الغيمُ،كم غسلتُ حصاها بالشذاوالدموعُ،كم تركتنيلذئاب التاريخ:تفتضُّروحي ...قسوة كم أحبها،وجمال يتحدَّى الخرابَ،حتّامَ أدنو فَـتُجافي،أكلَّما جئتُغابتْ؟ (ص39-40)    وقد استحضر الشاعر رمزين تاريخيين في هذه المجموعة، ليكونا شاهداً على محنته، ودليلاً على عذاباته، ومعادلاً موضوعياً له، وكلا الرمزين شاعران، ليكون اختيارهما قائماً على حُسن التطابق، أولهما الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في قصيدته (لوعة امرئ القيس)، حيث موته في أرض غريبة وهو يطلب العون لأخذ الثأر لأبيه، والشاعر هنا إنما يشير إلى قصيدة امرئ القيس المشهورة وهو يرثي نفسه في غُربته مسموماً، ولاسيما قوله:أيا جارتا إنا غريبان هاهنا...... وكل غريب للغريب نسيبُ وثانيهما الشاعر الأموي مالك ابن الريب صاحب القصيدة الواحدة، كما هو مشهور مع أنني لا أظن وحدانيتها، في قصيدته (مالك بن الريب)، حيث موته كذلك بعيداً عن أهله ووطنه في إحدى الغزوات شهيداً، والشاعر هنا إنما يشير إلى قصيدة مالك بن الريب تلك التي يرثي بها نفسه ويصبُّ فيها شلالات حنينه للأهل والوطن، ولاسيما قوله:تذكرتُ مَن يبكي عليَّ فلم أجدْ...... سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا  وفي ذلك منتهى العذاب، وأقصى الوحشة.

أما قصيدته (طائر يقبل من مذبحة) فيستحضر فيها كلكامش من بطون الأساطير، حيث "أوروك"/ العراق، وحيث المغامرة في بحرٍ من الظلمات، وطلب الخلود/المستحيل والخيـبة في تحصيل الطلب، وعشتار حيث الحبّ والخصب والنماء، وأدَّعي أن هذه القصيدة هي ملحمة تستحق الوقفة والدرس بعناية واستفاضة، فهي بمثابة إعادة بناء لملحمة كلكامش نفسها، واستبطانٍ لها، وفيها يتبدَّى وجهانِ رئيسان، وجه الشاعر نفسه الذي يكافئ وجه كلكامش، حيث الضياع والخسران:كلكامش،أخي القديمَ، طائري القديمَكم بكيتعليكَ، كم ضعتُوكم أضعتُكم هدَّمتُ مِنْ مغارةٍسوداءَ، كم بنيتْفإين كنتَ؟في عروق أي جرّةٍقديمةٍ، ومن هُتاف أي غيمةٍأتيتْ؟ وصعدنا مع المياه، كلاناطائرٌ يحضنُ الحياةَ،كلاناكان يختضُّ نشوةً، كان يمضي صوب أرضٍمن القصائد والأنهار، يمضيإلى المنى لا المنايا. (ص75-76)

أما الوجه الثاني فهو وجه الوطن العراق/أوروك، الذي تناقضَتْ ملامحُهُ، وتلفَّحتْ بالأضداد، وكأن ذلك من أقداره المُحَـتَّمات منذ بدء التاريخ:أصحيحٌ ما رواهُ الشجر؟-منذ بدءِ الكونِكان الدمُ ضوءاًبل وضوءاً للعراقيين، كان المطرُواحداً منهمْ.

وكانالضجرُخصلةٌ فيهم،،أكانوا محضَ ضدينِقديمينِ: الندىوالشرر؟أصحيحٌ ما يقول الشجرُ؟ كم رأينا طيورَهاالبِيضَ تهوي، والندىمُعتماً يُضيءُ:سماء مِن الخرابِكيف تماهَى الحِبرُ والحربُهل تصير الصحارى والحصار توأمين...؟ (ص78-79)

على أنَّ موضوع هذه القصيدة/الملحمة الأساس يتجلى في الإشارات إلى ما آلَ إليه الوطن من الاحتلال والغزو والنهب والجفاف:غزاة يعبرونَ الفراتَفجراً. أراهميقطعون المياهَعن وردة اللهِ..غيوم قديمةٌتتلوى ظمأً، والفراتُ يرفلُبالموجِ. (ص79)    ولكي يؤكِّد فكرة تلك الأقدار يُحيلُ اتجاهَ مسار القصيدة إلى تاريخٍ أقرب، فيشير إلى غزو التتار للعراق، وسقوط عاصمته بغداد على أيديهم، بدليل النصّ على كلمة "طائرات"، و"الأباتشي": نهار مهشَّمٌ،أي شمسٍ ذبلتْفي الحقولِ، أي غروبٍصنعتْهُ الغربانُوالغربُ،مرتْ طائرات التتارِ،.....كانت مركبات التتارِتَعوي، الأباتشي ظُلمةٌتأكل القلوبَ... (ص81)   وحيث صار الوطنُ مذبحةً يجد العلاّق نفسه معادلاً موضوعياً للعنقاء طائر الفينيق الأسطوري، فيتَّخذهُ قناعاً، لِيهَبَ نفسه للوطن، في كل مرة يجدد فيها النهوض بعد الاحتراق: كنتُ أهذي، أُنادي:خذْ لأوروكَ عشبةًخُذْ بقايا جثث الخيلِخذْ يديخذْ رمادي..طائر يُفلتُ مِن مذبحةٍ،يتلظَّى بين جمرٍ ورمادْ،ساطعاً يعلو،ويهوي، مثلمايومضُ الجرحُ،على أسمالهِلا شذا الحُزنِ،ولا حِبر الحدادْ،دامياً يعلو، ويعلوناشراًضوءهُ الداميمياهاًوبلادْ.. (ص 82-83)

وهكذا استطاع الشاعر أن يبني ملحمةً شعرية على أسسٍ من الأسطورة تارةً والواقع تارة أخرى، ليكون كلُّ ذلك في خدمة غرضه الشعري، وليعبر تعبيراً مناسباً وعميقاً عما يجول في خواطره من أحزان وانكسارات وخيـبات، كما يُحدِّد موقفه من هذا كله ومن تلك الأقدار المحتَّمات، ألا تراه يقول في القصيدة نفسها:أكانت شمسُ أوروك خُدعةً؟أيكون الموت يوماًبداية؟ (ص81-81).

تقنية القصيدة   لا شأنَ للشاعر علي جعفر العلاق بِمُعضل الكلام، ولا غرابة المعنى، ولا المعقَّد من التراكيب، ولا الجنوح إلى مخالفة المألوف في الجملة الشعرية، لا لأنه لا يجد البراعة في نفسه ليأتي بكل جديد وطريف مِن ذلك، بل لأنه تمكَّنَ من أدواته الشعرية منذ زمن طويل، وبلغ فيها شأواً مَكَّنَهُ من التشبث بأعناق السهل الممتنع، الداني البعيد، فلم تعُد الصورة الشعرية لديه لُعبة مجرَّدة يُديرها بكدِّ الذهن، ولا ادِّعاءً خاوياً يستجدي من خلاله التمكُّن مِن ناصية الشعر بالصورة المقتطعة وحدها، ليراهن عليها، فهو يعلم أن الصورة توجد في الكلام منثوراً حتى على لسان العامّة من الناس، وإن اختلفت السبل، وتعددت المستويات، وتباينت مآخذ النص.

والقصيدة لديه سرعان ما تستحوذ على ذهن قارئها، وتستدعي لديه المتعة والاستطراف، وتُغريه في قراءتها حتى تستوفي أسرار فتنـتها جميعاً، لأن غاية الشعر عنده ليس المعنى وحده، فإن المعاني مطروحة في الطريق على رأي الجاحظ، مع أنني لا آخذ هذا القول على عِلَّاتهِ دون أن أنصَّ على قدرة الشاعر على التقاطها من ذلك الطريق، وإهالة عناصر الإبداع عليها في معمله الشعري، وهنا ستختلف القدرات والمهارات، إنما تتسامَى غايات الشعر لدى علي جعفر العلاق لتشمل البناء الفنّي للنص ليكون بهذا البناء شِعراً لا شيئاً آخر!.   ومَن يدقِّق النظر في البناء الفني للقصيدة لدى علي جعفر العلاق فإنه لا يعدمُ التماسَ الموسيقى ظاهرةً للعيان وخافيةً يتلقفها الحِسّ، وأعني موسيقى الألفاظ والقوافي، وموسيقى الإيقاع الشعري، وبذلك تتكامل القصيدة لديه لتشمل الفائدة والمتعة معاً، دون أن يجد في نفسه الحاجة إلى السير وراء التغريب المخلّ للقصيدة العربية الحديثة، فإنَّ شاعراً تمكَّنَ مِن أزمَّة الشعر العربي مثل العلَّاق لا يـجد في نفسه حاجة ً للخروج على هَيـبة القصيدة العربية، وخواصّها المنيعة العتيدة.

على أنني أجد حاجة مُلحّة عليَّ للنظر في المستوى التقني لقصيدة العلاق نظراً مستقلاً في مقال ٍ آخر، غير أنني أحيل القارئ إلى قصائده: (المجنون) و(سيد الوحشتين)، و(ملكاً كنتُ على الريح) و(غيم) و(كم كان عذباً شجر الساحل) و(حِبر الوحشة) و(أحزان عالية) و(لي بلاد أحبها وهي تنأى) و(لوعة امرئ القيس) و(دلني يا هواي) و(طيور السهر) و(طائر يقبل من مذبحة) و(للريح أم للضجر)، ليرى كيف استطاع الشاعر أن يـبثّ الموسيقى في تفاصيل قصيدته فتـتراءى كأغنية مقتطعة من هزيع الروح، لا تدلُّ نهايةُ الحُداء بها في الأذن على نهاية أثَـرها في النفس.

   إنَّ سيِّدَ الوحشتين شهادة ناطقة بليغة عن واقع ٍ أراد له الشاعر أن يكون صورةً دقيقة الملامح عبَّرتْ عنها نفسُهُ المُعذّبةُ بصدقٍ واضح، وتجلَّى فيها إبداعُهُ، كما تجلتْ من خلالها عذاباته شاعراً وإنساناً ذا انتماءٍ أصيل، وثقافة وخبرةٍ واسعتين.

____________
نشرتْ في صحيفة الرأي الأردنية في 25-7-2008

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية