قراءة في رواية "الحافيات" للروائية الفلسطينية دينا سليم: مازالت الروائية دينا سليم مولعة، منذ "الحلم المزدوج" حتى "الحافيات"، بتقنيتي الاسترجاع بنوعيه الداخلي والخارجي، وتعدد الأصوات وتداخلها في السرد الروائي، ولكنها في "الحافيات" استطاعت أن تضيف تقنية ثالثة وهي تداخل الشخوص الروائية، إذ انتقلت من شخصية وداد في الجزء الأول من الرواية إلى شخصية شروق في الجزء الثاني منها، وكأن الثانية امتداد للأولى، وهو امتداد زمكاني، حيث الشرق، وهي فيه تلك المرأة العربية مهضومة الحقوق، مستلبة الإرادة، المهزومة تماماً حيناً، والمنـتصرة أو مدعية الانتصار حيناً آخر، وحيث الغرب، وهي فيه الهاربة الراغبة في الخلاص، وفي كلتيهما يختلط صوت البطلة بصوت الكاتبة نفسها. وهي إذْ تلجأ إلى المكان بوصفه الإطار المادي الذي تدور فيه الأحداث المروية فإنها لم تولهِ العناية الكافية من التوصيف الدقيق ليكون معيناً للقارئ على تكوين الصورة بأبعادها الدقيقة والكاملة، كما استخدمتْ الزمن بأبعاده الثلاثة.
وتتخذ الروائية من المرأة العربية، في روايتها "الحافيات" جنساً عاماً ترمي من خلاله إلى الحديث عن النساء عموماً، ولذلك لم تستخدم صيغة التثنية وهي تتحدث عن بطلتي الرواية في جزأيها، لأنها اختصرت في شخصيتي هاتين البطلتين ما أرادتْ أن تميط اللثام عنه مما تتعرض له المرأة العربية عموماً من القهر، وأن تستبطن جانباً من واقعها القاسي ومعاناتها المريرة في مجتمعها، فتكشف عن خيبتها في امتلاك عواطفها واختيار الحبيب، وعن فشلها في بيت الزوجية واختيار الزوج، وهي مطالبة بالتضحية اللامتناهية من أجل بناء الأسرة والحفاظ على تماسك العائلة وكأنها هي المسؤولة الوحيدة في ذلك كله. كما تنجح الرواية في رسم صورة دقيقة للموقف من المرأة في هذه الجوانب الحيوية، وما يمكن أن تتعرض له من حيف وظلم لقضايا ليس لها ذنب فيها، كقضية عدم الحمل، حتى إذا لم تكنْ عاقراً وكان الزوج هو العقيم!.
وفي خضمِّ هذه القضية التي تبدو شائكة ومعقدة في المجتمع العربي، وأعني قضية الإنجاب، لا تكتفي دينا سليم بالكشف عن إذعان بطلتها وداد في القصة الأولى كزوجٍ إلى التسليم بالسكوت على تدليس الحقيقة، والاعتراف بعدم القدرة على الإنجاب، بل تتعدى ذلك إلى محاولة أهل الزوج للتحكم بجنينها وإجبارها على الحمل، من خلال زرع حيامن رجل مجهول في رحمها في معهد أُعِدَّ لهذا الغرض (بنك الزرع)، وما يمكن أن يتبع ذلك من آثار نفسية لديها، واجتماعية لدى أهل زوجها فيما بعد، في حين تأخذ الرجل وأهله نشوةٌ، وهي بدون شك، نشوة كاذبة، لم تستـثنِ أهلها أنفسهم، ولاسيما أبوها، لأن الزوج هو ابن أخيه ليس غير!، وها هي وداد تقول في إحدى تداعياتها: (اقتدتُ كشاة أعدت للذبح، وكان الاتفاق مع القيمين بأن يكون الزرع لرجل أبيض اللون، وكان ذلك، أُخذتْ من أحدهم منيّ الحياة، ووضعوها في جوفي، مجهول الهوية يكون من حملتُ منه، وزوجي الماثل أمامي يتفاخر بمنيه الكاذب، يتفاخر بألاّ عيوب لديه، بأنه رجل متكامل، خلوق، حنون مخلص، وصبر كثيراً على تأخري بالإنجاب).
بينما تفشل بطلتها شروق في القصة الثانية في تحقيق حلم زوجها في إنجاب طفل، فتتعقد حياتها بين رجل (أراد أن يهرب من كلام الناس، فهو رجل بدون ذرية، والرجل بدون أولاد لا يكون رجلاً!) ولكنه في الواقع هرب من زوجه وأسرته وحياته المستقرة، وبين حبيب كان ينبغي أن يعوضها شيئاً مما افتقدته في عش الزوجية الذي لم يعد فيما بعد عشاً!.
وقد اتخذت دينا سليم من تداخل الأجواء النفسية للقصتين وتشابه الأحداث، واتحاد الغاية المطلوب الوصول إليها مسوغاً لجعلهما جزأين يصعب الفصل بينهما ليؤلِّـفا رواية ذات مكونات معقولة، فضلاً عن إحكامها لبنائهما بحيث تكون نهاية الأولى بداية موضوعية للثانية.
طقوس اجتماعية: من طرائف هذه الرواية اعتناؤها ببعض الطقوس الحيوية المهمة في المجتمع العربي عامةً أو في بيئة من بيئاته خاصةً، وهي البيئة الفلسطينية، ولاسيما طقوس الموت والحياة والزواج، وهي من أهم الطقوس في المجتمعات جميعاً، فضلاً عن المجتمع العربي، لاتصالها بالأديان والمعتقدات والتقاليد اليومية لحياة الناس، فقد وقفتْ الروائية على أدق تفصيلاتها وكأنها تحاول توثيق عادات هذه البيئة وتقاليد أهلها في أهم شؤونهم، وكذلك توثيق ما بين القرية والمدينة من أوجه اختلاف في ذلك.
ولعلَّ هذا مما يُعَدُّ ميزةً من مزايا هذه الرواية، وحسنة من حسناتها. أما الموت فيأتي بخبره الأقربون ساعين من القرية إلى المدينة، ويتدبرون بعض أمور العزاء بتفنن وإتقان، كما تروي شروق، وتقول: (تتخذ عمتي صدر المجلس النسوي وتبدأ بالنواح دون توقف، تُبكي الأخريات أردنَ ذلك أم أبَينَ، تناوبها ابنة عمي، ثم أخت زوجي،، فأخرى، يمضين ستاً أو سبع ساعات قبل دفن الميت بالنواح، ولن ينتهي النواح حتى تتوحد جميع النسوة ببكاء جماعي، طقس مميز من الطقوس التي برعت فيها عمتي التي كانت تترأس الموكب متسلطة، تسترق النظر إلى جميعهن، إن حصل ولاحظت إحداهن غير باكية ترمقها حاقدةً وربما يصل الحد بها إلى إحراجها جهراً، ناهيك عن تلقيبها بألقاب نابية.
يجب أن يكون الحزن جماعياً، والتعبير عنه بأسلوب معتمد خاص وواحد ومُمَرشد من قبل المعتمدات، ومحظور على إحداهن الحزن بطريقتها الخاصة، لا احترام لخصوصيات الآخرين، ولا تفويت من الاشتراك في ساحة الحزن، من يحضر المأتم يجب أن يبكي، وممنوع البوح بما تختلجه الأعماق من عذابات بطريقة أخرى، هي شريعة مقررة ويجب الالتزام بالقوانين، وبعد انتهاء الطقس يدخل الرجال، يقومون بحمل التابوت، يجب أن تراعي الأيدي المرتفعة عدم اهتزازه، إن حصل واهتز فيكون ذلك نذير شؤم ودليلاً على استمرارية الموت!)، وتواصل الروائية سرد باقي التفصيلات الخاصة بهذا الطقس على لسان بطلتها.
وأما الزواج فللاحتفال به طقوسه الطريفة هناك، وتستنطق دينا سليم بطلتها للحديث عن تلك الطقوس في ليلة زفافها، ومنها قولها: (كان عليَّ إلصاق عجينة على الجدار، على هيكل الباب قبل دخول الدار، أعدتها والدة ناصيف وزينتها بالورد الأحمر وغمرت قطعة نقدية واحدة داخلها، عادة مستنسخة ضرورية. أخذت العجينة بين يديَّ وحاولتُ إلصاقها كما قيل لي، شددتُ على الجدار، شددتُ أكثر حتى خيل لي بأن كفي يتحطم أمام صلابته، لم أفلح، سقطت العجينة بمحتوياتها أرضاً، نظرت إليها ببله واستغراب بينما صعقات النسوة تخترق أذني قائلات: شؤم... شؤم... عرفت النسوة بأن حياتي ستكون شؤماً منذ ضياع خاتم الزفاف لحظة الاقتران، وكان الدليل على ذلك سقوط العجينة من على الدار).
ويلاحظ القارئ أن الكاتبة تخلط في الحوار، على قلة دورانه في الرواية برمتها، بين العامية والفصحى، وليتها تجد المسوِّغ الكافي لذلك. إن دينا سليم تُبدي إخلاصاً شديداً لقضية المرأة والقهر الذي ما زالت تتعرض له في المجتمع العربي في روايتها "الحافيات" خاصةً، إذ تتعمق في قضاياها، وتـثير أبرز الأسئلة وأهمها في حياتها، وهي إذ تتحدث عن قضايا المرأة فإنما تقصد أيضاً قضايا الرجل، لأنهما سيانِ في المجتمع، وهي في "الحافيات" تسأل عن الحبيب المخلص وحاجتها للحب المرضي عنه في المجتمع، وعن الرجل المثال، وعن الحفاظ على الأسرة، وعن قوة الرجل الحقيقية غير المزيفة برضى المجتمع المرائي المظهراتي، الغارق في عاداته وتقاليده العتيقة البالية، تلك التقاليد التي جعلت المرأة ضعيفة، غير شاعرة بالأمان في ظل أسرة ينبغي أن تملك زمامها مناصفة مع رجل قوي، ولذلك فهي "حافية" آيلة إلى السقوط في أية لحظة.
وبذلك تكون دينا سليم قد طرحت على قارئ روايتها قضية مجتمع بأكمله، عارضةً أمامه أسئلتها التي ما زالت تنتظر الكثير من الأجوبة.
....