مقدمة: كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا نضع الرديء من البضاعة في أعلاها، لذلك أرجو ألا يتوقع أحد مني نقداً أدبياً لرواية عزازيل ليوسف زيدان الفائزة بجائزة البوكر العربية لعام 2009، ففاقد الشيء لا يعطيه (1). ذلك أن ما دعاني للكتابة عن هذه الرواية إنما هو معالجتها لموضوع تطور العقيدة المسيحية بأسلوب روائي مشوّق يتحرى الدقة في وصف الأمكنة والتواريخ. ولا أنتقص بذلك من روعة هذه الرواية، إذ أني ما كدت أنتهي من قراءتها حتى شرعت في قراءتها ثانية وكأنه صعب علي أن أخرج من جوها الذي تفنن الكاتب إدماجنا فيه وجعلنا نشارك مشاعر أبطاله.
تأتي هذه الرواية بعد نحو عامين من خطاب البابا بنديكتوس السادس عشر –بابا روما الحالي، الذي تهجم فيه على الإسلام ونبيه وعقيدة المسلمين في ذات الله هذا وجل . وكان اعتقاد البابا في الله تبارك وتعالى أسوأ ما فيه، حيث سعى لحرف الإيمان المسيحي ليصير أقرب لعقيدة الإغريق الوثنيين، متجاوزاً كل عقائد المسيحية المتصلة بوحي السماء ، ولذلك راح المفكر المبدع عابد الجابري يتساءل في مقال عميق له إثر هذا الخطاب: "هل اكتست المسيحية طابعها النهائي في أوروبا؟" (2).
جاءت رواية عزازيل اليوم لتبين مراحل تغير العقيدة المسيحية في بداية القرن الخامس. حيث بينت "عزازيل" سيطرة المتشددين والمبتدعين وأصحاب الديانة الفرعونية والفلسفة اليونانية على رئاسة كنيسة الإسكندرية في القرن الرابع للميلاد ثم انطلقوا لتغيير المسيحية وتبديل عقائدها في العالم أجمع. واستعان هؤلاء بسلطة القيصر وتهييج العامة في إقصاء مخالفيهم في الفكر والعقيدة بتكفيرهم ونفيهم وقتلهم وحرق كتبهم. كما أظهرت هذه الرواية التشابه الكبير بين العقيدة المسيحية القديمة والإسلام من حيث توحيد الله عز وجل، وإفراده بالإلوهية والعبادة، ووجوب الصلاة سبع مرات في اليوم في مواقيت محددة تبدأ قبل الفجر وتنتهي بعد العشاء، إضافة لصلاة قيام الليل. وكذلك الزهد في الدنيا، ومساعدة الضعيف والمريض، والعفة والحجاب، والتقوى. كما ترينا "عزازيل" انحراف الدعوة المسيحية من دعوة لله بالإقناع للإيمان والمحبة ، إلى فرضٍ للعقيدة بالقسوة والكراهية والقتل والحرب والإرهاب في ظل بعض القساوسة الذين سيطروا في النهاية
ملخص الرواية:
هي قصة طفل من أسوان ولد في بداية القرن الخامس الميلادي كان أبوه صياداً يقدم شيئاً من السمك لسدنة معبد فرعوني مرة كل يومين، وشت به زوجته، فكمن له المسيحيون وقتلوه وقطعوه ورموه فوق أسماكه على باب المعبد. وتزوجت أمه أحد قتلة أبيه، فعاش في رعاية عمه وانتظم سنين في كنيسة أخميم الكبيرة ودرس الفلسفة والطب ثم رسّم كاهناً. ثم سافر للإسكندرية. وهناك تلقى صدمات كبيرة أثرت فيه بقية حياته. فقد دخل الإسكندرية فقيراً معدماً (إلا من مخلاة كتبه) خائفاً متوجساً لما رآه من عبوس المسيحيين وقسوتهم.،قادته قدماه للبحر فسبح فيه وأوغل وأوشك على الغرق. وحين وصل الشاطئ أخيراً وجد امرأة على الشاطئ اسمها "أوكتافيا" كان له معها قصة عاطفية كبيرة أبدع المؤلف يوسف زيدان في وصفها،ثم طردته هذه المرأة لما علمت أنه راهب مسيحي. وقبل أن يدخل كنيسة الاسكندرية ليقضي فيها عدة سنوات رأى الفيلسوفة "هيباتيا" وهي تلقي إحدى محاضراتها في الفلسفة والرياضيات فانبهر بعلمها وجمالها وبراعتها في الإلقاء وما يحيط من مظاهر الأناقة والعز. ثم قدّر له أن برى المؤمنين الهائجين يقتلون "أوكتافيا" ويسحلون "هيباتيا" ثم يحرقونها بتحريض من البابا كيرلّس بدعوى أنها كافرة. ورأى من قسوة الرهبان وثورة الغوغاء ما دفعه للهرب من الإسكندرية للقدس ماشياً على قدميه وفي الطريق قرر أن يختار لنفسه اسم "هيبا" مشتقاً من اسم الفيلسوفة هيباتيا.
وقد وجد القدس مدينة تفيض بالرحمة ويزورها الحجاج من كل مكان يحملون بضائعهم وكتبهم وحكاياتهم. وقد منحته الكنيسة غرفة عند بوابة كنيسة القيامة فلا هو في داخل الكنيسة ولا هو خارجها لارتياب القسس بهذا الراهب المصري، ولتمكينه من استقبال المرضى باعتباره طبيباً.
وقادته مهنة الطب للتعرف على العلامة المفسّر والرجل الكبير أسقف أنطاكية "تيودور"، ومساعده "نسطور" الذي سيخلفه في الأسقفية فيما بعد ثم يصبح أسقفاً للقسطنطينية عاصمة دولة الروم الشرقية. وقد وجد من لطفهما وعلمهما وسعة صدرهما الشيء الكثير. فخاض معهما في أحاديث مطولة حول العقيدة كانت تمتد حتى الصباح. وكان كلاهما يؤمن مثله بأن المسيح إنسان ولدته امرأة. هو معجزة لله، لكنه ليس الله المعبود، وأن الله سبحانه واحد أحد منزه عن الشبيه والولد.
وقد توطدت صداقة "هيبا" بالراهب نسطور، الذي نصحه بالإقامة في كنيسة جبل سمعان بالقرب من حلب وزوده بخطاب توصية لرئيس الدير. وهناك استطاع هيبا أن ينشأ مكتبته الخاصة -وبها نحو مئة كتاب من الكتب الممنوعة-، ويزرع أعشابه الطبية ويمارس الطب وينظم الشعر منعزلاً في عالمه الخاص. لكن رغبة رئيس الدير بإنشاء فرقة إنشاد وضعه إزاء "مارتا" الشابة التي أحضرها له رئيس الدير كمغنية. وتطورت علاقة الحب بينهما. لكن الأمور ساءت كثيراً إذ اضطرت مارتا للرحيل بسبب ضيق الحال، ولم يستطع هو أن يتزوجها ويذهب معها، فكادت نفسه تذهب حسرات عليها. ومن جهة أخرى فقد انحاز الإمبراطور البيزنطي لبابا الإسكندرية وحكم على صديقه الأسقف نسطور بالحرمان والنفي. عندها انهار الراهب هيبا وأصابته الحمى وغاب عن الدنيا عشرين يوماً ولما شفي اعتكف صائماً أربعين يوماً وتفرغ لكتابة قصة حياته. ثم دفنها تحت بلاطة كبيرة في مدخل دير جبل سمعان إلى أن عثرت عليها بعثة أثرية في عام 1997.
بقايا دير القديس سمعان الذي دارت فيه أحداث الرواية
تأثر كنيسة الإسكندرية بالعبادات الفرعونية والفلسفة اليونانية:
في جلسة خاصة قال الأسقف تيودور أسقف المصيصة: "إنني أفكر كثيراً في أفلوطين، وفي مصر. فأرى أن كثيراً من أصول الديانة أتت من هناك، لا من هنا! الرهبنة، وحب الاستشهاد، علامة الصليب، كلمة الإنجيل. حتى الثالوث المقدس، هو فكرة ظهرت بنُصوعٍ أولا عند أفلوطين في كتابه التاسوعات". كما قال الأسقف نسطور لصديقه الراهب المصري "هيبا": "أجدادك المصريون يعتقدون في ثالوث إلهي، زواياه إيزيس وابنها حورس وزوحها أوزير الذي أنجبت منه دون مضاجعة"، ثم يقول مستنكراً: " فهل نعيد بعث الديانة القديمة!".
ويرينا المؤلف عبر رحلة هيبا، هذه التقوى المبالغ فيها لقساوسة الإسكندرية، من صوم طويل وتجويع للنفس، ورهبنة تحرم الزواج، وصلوات طويلة بالليل والنهار، والاقتصار على دراسة الكتاب المقدس، مما ولد عندهم القسوة والتجهم والتعصب. وبالتوازي مع ذلك نرى أسقفية الإسكندرية تفرض مفهومها الفرعوني للدين المسيحي عبر قتل وحرمان الأساقفة الذين يعارضون هذه الرؤية ويقاومونها. وكذلك عبر حرق كتب المعارضين وتحريم تداول أفكارهم. وقد تعرض لذلك أكابر علماء المسيحية: الأساقفة آريوس وأوغسطين وجورجيوس وجورج الكبادوكي (ولست أدري هل الآخران هما شخص واحد؟) ونسطور وغيرهم.
مناقشة عقيدة التثليث:
تشكل حياة الكنيسة البيئة التي تدور فيها الرواية كما تشكل مناقشات رجال الدين قسماً بارزاً فيها.
وقد تساءل هيبا: كيف ورثنا عن آدم خطيئة العصيان لأمر الله، وما هو ذنبنا نحن أبناءه الذين لم نفعل هذه الخطية؟
هل صعب على الله أن يعفو عن البشر بأمر منه. من غير معاناةٍ موهومة، وصلبٍ مهين، وموت غير مجيد، وقيامة مجيدة؟
هل قام يسوع حقاَ بين الأموات! وكيف له وهو الإله، أن يموت بأيدي البشر... هل الإنسان قادر على قتل الإله وتعذيبه، وتعليقه بالمسامير فوق الصليب!
ويقول الأسقف نسطور: المسيح -يا هيبا- مولود من بشر، والبشر لا يلد الآلهة... كيف نقول إن السيدة العذراء ولدت ربّاَ، ونسجد لطفل عمره شهور، لأن المجوس سجدوا له! هي امرأة قديسة، وليست أماً للإله. ولا يجوز لنا الاعتقاد بأن الله كان طفلاً يخرج من مبطن أمه بالمخاض، ويبول في فرشه فيحتاج للقماط، ويجوع فيصرخ طالباً ثدي والدته... هل يعقل الاعتقاد بأن الله كان يرضع من ثدي أمه العذراء، ويكبر يوماً بعد يوم، فيكون عمره شهرين ثم ثلاثة أشهر ثم أربعة! الرب كاملٌ، كما هو مكتوب، فكيف له أن يتخذ ولداً سبحانه.
يا هيبا: لقد جُنَّ هؤلاء تماماً، وجعلوا الله واحداً من ثلاثة.
ويقول الكاهن انسطاسيوس: العذراء امرأة من النساء، مجرد امرأة من النساء، ومن المستحيل أن يولد الله من امرأة.
ولا يصح أن يقال عن الله إنه ثالث ثلاثة: الله يا هيبا واحدٌ لا شريك له في ألوهيته. ولقد أراد آريوس أن تكون العبادة لله وحده. وأقواله ليست إلا محاولة لتخليص ديانتا من اعتقادات المصريين القدماء في آلهتهم.
ويصف ما جرى في مجمع نيقية -حيث حَرَمَ الإمبراطورُ قسطنطين الأسقفَ آريوس وحرَّم تعاليمه وحكم بهرطقته- بأنه: باطلٌ من تحته باطل، ومن فوقه باطل. وإبليس هو المحرك لكل ما جرى فيه.
دروس وعبر:
لا يمكن أن يمر الإنسان بأحداث رواية كبيرة كهذه ثم لا يعمل فكره فيما جرى فيها، وأسباب انحراف العقيدة، واحتمال تكرار ذلك معنا نحن المسلمين . باختصار:
- إن شقاء الناس يكون بالبعد عن وحي السماء، وخلط هذا الوحي بما ليس منه، ذلك أن البشر سيصوغون العقيدة إما على حسب العقائد السابقة كما فعلت كنيسة الإسكندرية أو باللجوء للعقل كما يفعل البابا اليوم، وفي كلا الحالين يضلّون ويبتعدون عن الله، وعن رحمته.
- حين يتدخل السلطان في الدين يفرض ما يناسب مصلحته فيفسد الدين كما فعل الإمبراطور قسطنطين في مجمع نيقية عام 325م وكما حاول أن يفرض الاعتقاد بخلق القرآن .
- لا يسلم الدين إلا في جو الحرية، ولا بد من إعمال العقل وإباحة المناقشات الحرة دون أية قيود. ذلك أن أية قيود تولد الانحرافات، والدين السري أو المخفي لا يساوي قشرة بصلة.
- لا يوجد شخص معصوم. فالنبي المؤيد بوحي السماء معصوم. لكن البابا غير معصوم وكذلك شيخ الأزهر وخليفة المسلمين والإمام والولي الفقيه. فكلهم بشر يرد عليه، يؤخذ من آرائه ويترك. وأي حجر على النقاش باب عريض لإفساد الدين والعقيدة.
- ما جاء الأنبياء جميعهم إلا برسالة واحدة، وهي إفراد الله عز وجل بالعبودية، واتباع كتبه ورسله والإحسان لعباده وللمخلوقات كلها،وأنه محاسب على عمله يوم القيامة فإما إلى الجنة وإما إلى النار.
____________________
(1) للدكتور عوض ابراهيبم نقد رائع لرواية عزازيل منشور في:
http://www.moheet.com/show_files.aspx?fid=235199
(2) مقالان الدكتور محمد عبد الجابري حول خطاب البابا المشهور في عام 2006
http://www.wajhat.com/print.php?id=24775&journal=2006-12-26
http://www.wajhat.com/details.php?id=24918&journal=2007-01-02