بحر المعلومات المحيط:
لم يعد من السهل على الكاتب، مع اتساع مفهوم الحرية الفكرية وحرية التعبير، وانتشار عالم الكتابة وسهولة النشر واستسهاله، أنْ يؤسس له صرحاً بين الصروح، أو يحفر اسماً بين الأسماء المائزة، دون أنْ يكون متمكناً من أدواته الكتابية والإبداعية، ومُكتسِباً أسلوبه الذي لا يخلو من التفرد أو الخصوصية في أقل تقدير.
كما إنَّ هذا البحر المحيط الهائل من المعلومات الذي توفره الشبكة العنكبوتية وما تسمح به من نشر كل موضوع مهما كان خطِراً أو فادحاً، يزيد من صعوبة افتراع موضوعات جديدة يخوض فيها الكاتب أو يقترب منها دون أن يُتَّهم بالاتكاء على مصادر سابقة، أو الإفادة منها، خاصة وأنَّ التسارع في التجديد في مجالات العلوم التطبيقية هو أشدُّ منه في العلوم الإنسانية والفكرية التي تمس حياة المجتمعات اليومية.
يموتون وتبقى أصواتهم:
وتأتي المجموعة القصصية "يموتون وتبقى أصواتهم" للكاتب السوري عمران عز الدين أحمد لِتُصارع هذا الموجَ العاتي وتحاول أنْ تؤسس لخصوصية إبداعية، ومنهج يقترب من التفرُّد، وهي قصص قصيرة جداً ربت على المائة قصة، يغلب فيها أجواء القرية بما فيها من إنسان وحيوان، ولا تبتعد عن المشهد الإنساني اليومي بما فيه من حب وحرب وسياسة ومفارقاتها جميعاً، ولذلك نجد بعض المفردات كثيرة الدوران فيها مثل القرية والمختار والراعي والصياد والشجرة والغابة، وأسماء بعض الحيوانات مثل الذئب والحمار والبقرة والنعجة والديك والعصفور، فإذا ابتعد عن هذه الأجواء دارت مفرداته حول السياسة والسلطة والمسيرة والسياسي والحاكم والوطن والمواطَنة والجندية والحرب والسجن والحارة، وغير ذلك.
يتخذ الكاتب من "عبد الستار" اسماً يدور في قصصه كلما احتاج إلى تسمية بطلٍ لحكايته القصيرة جداً دون سواه، ولابد من أنْ يكون لهذا الاسم بالذات دلالته الموضوعية التي يريد الكاتب أن يؤكدها بشكل غير مباشر في هذه المجموعة كلها. فهل يكون في الجزء الأول منه إشارة إلى العبودية التي تكبِّل الإنسان العربي في وطنه الكبير المُجزَّأ المُمتحَن بضروبٍ من القمع الفكري والسياسي، وفي الجزء الثاني طلب الستر طمعاً في الحياة، وتحاشياً لما يؤول إليه التصريح بالحقيقة والكشف عن الواقع من تنكيل واضطهاد؟. ربما، فإنَّ المواطن العربي المُضطهَد ينشد الستر طمعاً في الأمن، أو درءاً للفضيحة، وهو مما يُعدُّ دعامةً من دعائم الثقافة التي تعمُّ الوطن العربي ومجتمعاته.
ولكنَّ الكاتب لم يتوانَ عن الكشف والتصريح وإن كان أغلب تصريحه تلميحاً، غير أنه تلميح أشد وضوحاً من شمس النهار، وموضوعاته كلها ذات مساس بالواقع ولا تخلو من أهمية وحساسية، ولم تخلُ أي قصة من قصصه من موقف يحتبسه وراء الكلمات والتعبيرات والمعاني، حتى يُفضي بعضها إلى النقد اللاذع. وأول نقوده كان منصبَّاً على تجاهل فن القصة القصيرة جداً من قبل نقاد الأدب وعدم تقعيدها، ثم على الأوساط الأدبية التي تحتفل بفنون الكتابة كالرواية والقصة القصيرة والشعر "بينما بقيت القصة القصيرة جداً وحدها في المنزل، لأنها لم تتلقَّ بطاقة دعوة".
ويطيل الكاتب النظر في مشكلات المجتمع وتناقضاته، وأمور السياسة ومشكلاتها وخباياها، محاولاً إيقاظ الذاكرة الشعبية بشأن هذه القضايا، أو تحفيز الذهن إلى التفكُّر فيها، والانقلاب عليها، وهو بذلك يتجه إلى القيام بمهمة التحريض، وهي مهمة لا يقوى عليها غير الأدب الهادف الملتزم بقضايا المجتمع والوطن، وغير الأدباء الجادين الذين لا يسكتون عن المسكوت عنه، ولا يقفون في طابور الراضين بالأمر الواقع.
وقد تتناهى القصة في الصغر لديه فلا تزيد عن بضع عشرة كلمة في سطرين، وهي بذلك تمر في ذهن القارئ كالخبر الخاطف، وتؤدي وظيفة المنبِّه الحافز، فتكاد تختفي ملامح القصة فيها لولا أنَّ الخبر هو أصل القصة في ذاتها، حتى تبدو مجموعة من قصصه أشبه بالحكمة أو القول الشائع أو النكتة القصيرة: (أحد السجناء بعد أن فرَّ من السجن، قال: مَن اغتصبني، سأغتصبه ولو بعد حين! (ص 45)، وكأنه يريد لقصصه أو لبعضها أن تسير كالأمثال السائرة، فلا يصعب على القارئ نسيانها، بل يستطيع أن يحفظها بنصها، وهذا النوع من القصص يمكن أن أطلق عليه قصص اللقطة، أو اللمحة، أو الموقف: "كانت في حارتنا شجرة تحمل ثماراً شهية، عندما شاخت رميناها بالحجارة، فلم تنبت في حارتنا منذ ذلك اليوم، أشجار لها ثمار شهية" (ص25).
فإذا طالت عن ذلك، فقد يبدو شيء واضح من تلك الملامح، ولاسيما الحوار، وإنْ لم تزدْ في الطول إلا أسطراً، كما هو الحال في هذه القصص الثلاث التي تتناول الوطن والمواطن والوطنية:
1- سأل الطفلُ أمه:
- ماذا يعني الوطن؟
ردت عليه أمه ساهمةً، وهي تمرِّر أصابعها بين شعره:
- بيت أكبر من بيتنا. (ص15)
2- ما الفرق بين المواطن والوطن؟
سألني الأستاذ عندما كنتُ طالباً في المرحلة الابتدائية.
أجبته: - لا فرق.
- ردَّ بحدة وبصوت عال، كما جاء في المقرر الدراسي:
- المواطن هو أنت، والوطن هو الأرض التي تعيش عليها.
فقلتُ: - لا فرقَ إذن! (ص32)
3- سأل الطفل:
- ماذا تعني الوطنية يا أبتِ؟
ردَّ عليه أبوه بعد أنْ أفاق من دهشته:
- أنْ تُحبني يا بني! (ص 49)
بل لقد ذهب إلى أكثر من ذلك عندما جعل إحدى قصصه كلها حواراً مع أنها لم تزد عن سطرين:
- لماذا لم تشارك في المسيرة، ولم تهتف بشعارات النصر، والتنديد بالأعداء؟!
- لن أنزل إلى شوارع اغتُصبتْ احتفالاً بانتصارات وهمية! (ص33).
ومن خلال هذه القصص القصيرة جداً يَبينُ عنصر الاختزال المُنتِج الدال الذي اعتمده القاص أساساً تنبني عليه هذه المجموعة من القصص جميعاً، سواء أتناهتْ في القصر أم لم تكن كذلك، فيكون الطابع البلاغي سائداً في السرد في جميع الأحوال، وهي في جميع الأحوال ذات موضوعات مُخطَّط لها سلفاً، مع احتراز أنْ تكون بعض الموضوعات مستهلَكَةً مطروقة أراد الكاتب أنْ يُعيد تشكيلها فنيَّاً لِـيُحدِثَ بها ومن حلالها الأثر المطلوب في نفوس المتلقِّين.
ولأن القصص القصيرة جداً لا تتيح للكاتب إدارة أحداث كثيرة أو تعقيداً في الأفكار، أو تسلسلاً للأحداث، فإن أغلب نهاياتها لديه تكون مفتوحة، تحتمل الإضافة، وتسمح باستنفار خيال القارئ، وبذلك يدعو الكاتب قارئه إلى أنْ يُسهم معه في بناء القصة وتشكيل مساراتها، والتحكم في عناصرها الأخرى الإضافية، فيلتقي وجدان الكاتب بوجدانات قارئيه، وتربطهم جميعاً وشائج فكرية وعاطفية ومبدئية، وبذلك تنتفي عوامل الرتابة وشيوع المتوقَّع في العمل الإبداعي.
وما دامت قصص عمران عز الدين القصيرة جداً على هذه الشاكلة فإن أول قصصه هي إهداؤه الذي يقول فيه: "إلى أمي فاطمة.. الملاك الجميل الذي يحرس حياتي" أفليس وراء هذه الكلمة القصيرة قصة ربما هي طويلة؟
وقد تجاوز القاص الواقع إلى الخيال، ليعبر عن موضوعاته التي هي لصيقة بالواقع، فيضع الحديث على لسان عنصر من عناصر الطبيعة أو ينسب فعلاً إليه، كما في قصصه "وردة لحارس الغابة" (ص17) و"السيرة الذاتية للقمة فارة" (ص59) و"حقيقة" (ص84)، و"فصل عن مستنقع حروف الجر وجحيم الانتظار":
للتو تفتحتْ وردة بألوان زاهية جميلة، أمعنت النظر في وردة تجاورها وتقف بالقرب منها، بادرتها:
- لمَ أنتِ ذابلة وكئيبة إلى هذه الدرجة؟! لا أتحمل رائحتك وقبحك.
ردَّت الوردة الذابلة بانكسار:
- غداً ستذبلين... ولن تجدي من يكلف نفسه عناء اقتطافك. (ص91).
فيلجأ إلى جميع الممكنات ليؤدِّي غرضه الموضوعي الذي يهدف إليه، أو إلى غرضه التقني الفني الذي يساعده على ذلك، من خلال إضفاء عناصر تَـتَّسِم بالتشويق والإثارة والتنويع، وهي عناصر من شأنها البقاء على مقربة من القارئ، إذا لم نقل لصيقة به.
ومن يُمعن النظر في قصص عمران يجد فيها نقداً لاذعاً، وغضباً شديداً، ورفضاً قاطعاً لبعض ما يحدث في الواقع، غير أنَّ كل ذلك يتبدَّى لديه بهدوء كأنه العاصفة، هدوء في العرض، وعاصفة في الأثر في نفس القارئ، وتلك قدرة قصصية خَلاّقة حقاً، ففي قصته "ثورة" يصب غضبه الهادئ على ما يُسمَّى بالثورات من خلال ما تؤدي إليه في واقع الناس من نتائج سلبية:
"اشتدَّ نباح الكلاب، حين شرع اللحَّام الموجود في الحارة، ببيع العظام، إلى الناس الفقراء" (ص47)
كما يصبُّ غضبه على الحروب وقادتها من خلال ما تؤدي إليه من نتائج خطيرة بعيد المدى:
"أعلن الزعيم في كلمة متلفزة: "سندمرهم جميعاً... سنجبرهم على التراجع، لم نستخدم ترسانتنا بعد. إيماننا وثقتنا بجنودنا كبيرة جداً... الله معنا" وأنهى الخطاب بقوله: "وقد أعذر من أنذر"، وفي الأيام التي تلتْ كلمة الزعيم الملهم، شنَّ العدو غارات أسفرت عن تجويع وتشريد وسقوط آلاف الضحايا والجرحى. بين غارة وأخرى، كان الزعيم المفدَّى، يلقي خطباً متلفزة، عن اختراقه أجواء العدو، وكبح جماحه، وتحطيم أسطورته التي لا تُقهر. قبل أن ينهي الزعيم خطبته العصماء، كان أحد الأسرى، يُستجوب في مكتب ضابط من ضباط الدولة المعتدية. كان ذلك الضابط يقهقه عالياً، بينما انكبَّ ذلك الأسير على نفسه، وهو يذرف دموعاً غزيرة. أنهى الزعيم خطبته تلك، وفي مكان بعيد من الجبهة، كانت عينا طفل صغير مسمرتين في الأفق، تترقبان أخباراً، عن عائلةٍ مشردة، ووالد أسير" (ص41).
وعلى تعسف الحاكم وكثرة ممنوعاته التي يفرضها على أبناء شعبه التي قد تصل إلى الأحلام:
"كان أحد الفقراء يخرج من بيته كل يوم في ساعة معينة، وكلما اشتد عليه الجوع تجوَّل بين المطاعم والمحلات، ومتَّع عينيه بأطايب الطعام واللباس، حالماً بالسكن في مكانٍ راقٍ. كان كلما شعر بالتخمة، عاد إلى البيت، ناسياً وجع المعدة، شاكراً ربه على نعمة النظر والشم والحلم. ذات يوم.. ارتابت في أمره دورية أمنٍ، فتعقبته، وألقت القبض عليه، واقتادته إلى السجن" (ص47).
وعلى السياسيين الذين طالما يعدون بإجراء تغييرات وإصلاحات، فلا يؤول ذلك إلا إلى تغيير شكلي وحسب:
"لم يكن التعديل الذي أجراه زعيم الغابة تعديلاً جوهرياً كما كان يقال، لأن مجلسه بقي كما هو، وحافظ كل الوزراء على مناصبهم، لكنهم اكتفوا هذه المرة باستبدال كراسيهم القديمة بأخرى جديدة ومستوردة" (ص69)
ولذلك فإن المواطن غير معني بالسياسيين طالما هم بعيدون عن أحلامه وحاجاته وما يتعلق بمكامن سروره وبهجته، فيعيش المواطِن وكأنه في معزلٍ عن السياسة، أو كأنها شيء لا علاقة له بها وبأخبارها:
"خصَّص لكل خبر يبعث في نفسه بهجةً من نوع ما، مجلداً أطلق عليه اسماً من قبيل: روائع.. أشعار جميلة... أفراح.. مقالات هامة. وحدها الأخبار السياسية،احتفظ بها في سلة المحذوفات." (ص87)
وتتسع دائرة مواقفه الناقدة لتشمل نواحي متعددة مما يتعلق بالحياة اليومية والوظيفية والعلاقات بين الناس عاديين ومبدعين، على هذا النمط المتناهي في بساطته الذي قد يلفت النظر إلى الاهتمام بالقصة القصيرة جداً بوصفها فنَّاً قد يصلح بديلاً للرواية والقصة الطويلة والقصة القصيرة، أو مناوباً لها، في هذا العصر الذي بلغ من التسارع والتعقيد أقصى غاياته، بحيث يتحتم افتراع آداب وفنون لا تستوجب التطويل ولا تقتضي التعقيد، أو إعادة النظر في بعض فنون القول بحيث تستجيب لمتطلباته.
بلاغة السرد...أخيراً:
ليس من السهل التعبير عن الموضوعات الكبيرة بالكلام القليل، أو بأقل ما يمكن من الكلمات، فإنَّ ذلك يتطلب قدْراً عالياً من المَكِنة على الاختزال لدى الكاتب، ومعرفة بفنون البلاغة في القول، بحيث لا تتجاوز الكلمات مقتضى الحال عدداً، على أنَّه، في الوقت نفسه، يُعدُّ منزلقاً خطيراً، ومنطقة محفوفة بالمكاره، إذْ أنَّ على الكاتب أن يتحاشى التبسيط فلا تبدو قصصه القصيرة جداً ساذجةً جداً، يظن القارئ أنه يستطيعها لقربها من تفكيره، ويحاول ذلك فينجح، أو يظن أنه ينجح، فلا تعدو للكاتب فضيلة بعد.
وأرى أن القاص عمران عز الدين أحمد قد استطاع النفاذ من هذا المنزلق إلى حد كبير، ونجح، أو سينجح، في لفت النظر إلى هذا الفن من جديد، بعد أنْ مال الكتاب المبدعون إلى الرواية عندما اعتقدوا أنّها فنّ العصر الكتابي، وأنها ستنتصر على الشعر لا محالة.
.....