تمهيد:
1- ماذا يمكن أن نقول في عقيدة ابن عربي؟
2- ماذا يجب أن ننكر من فكره؟
3- بماذا يشعر من يقف أمام قبره؟
قرون طويلة من تاريخ المجتمع الإسلامي والصّراع على أشده بين أنصار المنهج الصوفي - ممثلين بزعيمهم الإمام محي الدين بن عربي- من جهة، وأنصار المنهج السلفي - ممثلين بزعيمهم الإمام ابن تيمية - من جهة أخرى، كانت الفلسفة في هذا الصراع غالباً ما تستعدي فريقًا على آخر، حسب ما تقتضيه مصالحها الخاصة أو مصالح من يتستر خلفها من ذوي التوجهات الإيديولوجية، سواءً أكانت فئات لها مطامع سياسية أم اقتصادية أم عقدية أم غير ذلك من المصالح. فنادراً ما كانت الفلسفة تأخذ دور الحكم الموضوعي في هذا الصراع، وبكل الأحوال فإن الفلسفة لها أدواتها ومجالها المعرفي الخاص الذي يختلف عن المجال الذي يتحرك فيه الفكر الديني، وعمليات الخلط أو المزج التي شهدها تاريخ الفلسفة والدين لم تكن سوى حالات زواج بين شريكين متناحرين، متنافسين في زعم احتكار الحقيقة والحكمة، فلم يثمر
مثل هذا الزواج سوى مزيدٍ من التناقض والارتباك، على الرغم من انخداع بعض الناس بفترات الانسجام الظاهرية التي كانت تسود لفترات قصيرة بين هذه المزاوجة، وكأنها شهر عسل ليس أكثر، ثم يكون ما بعده تنازع ونكد، نذكر على سبيل المثال لهذا التوجه من المفكرين الذين عمدوا إلى تجاوز، حدود المجال المعرفي الخاص بهم إلى المجال الآخر، أبا حامد الغزالي بوصفه رجل دين يلبس زي الفلاسفة، وكذلك توما الإكويني في اللاهوت المسيحي، وبالعكس نرى ابن رشد الفيلسوف يلبس ثوب رجل الدين وهو الفيلسوف الصرف، وربما يكون كذلك الفيلسوف روجيه بيكون مثالاً جيداً من الفلسفة الغربية لمن كان فيلسوفا بزي رجل دين، وغيرهم كثر.
هذا النمط من تداخل الأوراق حسب وجهة نظرنا الخاصة لا يثمر الكثير على المستوى المعرفي، لأن كلا التخصصين كما ذكرنا له أدواته الخاصة التي يعالج بها قضاياه، وزواياه الخاصة التي ينظر فيها إلى موضوعاته، ورغم ذلك فسوف يتكرر الإقدام على مثل هذه المغامرة، من قبل الكثير من دارسي الفلسفة، والعكس بالعكس من قبل دارسي علوم الشريعة، على أنه لا بأس من المحاولة بشرط أن نلتزم باتخاذ وجهة نظر محايدة نسبيًا قدر الإمكان، وذلك لكي نعطي رأيًا حول مسألة تقع خارج مجالنا المعرفي، وكذلك شأن هذه المقالة المتواضعة، فهي تأتي هنا في إطار الرغبة لأن نأخذ دور الحكم المحايد نسبيا بين وجهتي نظر تنتميان إلى مجال معرفي واحد، نقصد بذلك: الجدل حول فكر ابن عربي ومنهجه بين من يتعصب له ويقدسه، ومن يكفره ويعاديه أو من يقف منه على الحياد، وسوف نعرض وجهة نظر بغاية في التبسيط دون أن نخل بالمحاور الجوهرية، لأننا نرى أن وجهة النظر هذه موجهة لغير المختصين، بل لمن يرغب في معرفة نبذة سريعة من باب الاطلاع لا من باب البحث، وفي نهاية هذه المساهمة المتواضعة سوف يحكم القارىء الكريم إن كنا قد وفقنا في تقديم ما يفيده أم لا. والآن فلنبدأ محاولة الإجابة على الأسئلة التي نريد أن نقيد مساهمتنا في حدودها ولا نجاوزها إلى ما سواها، وحتى نستطيع الإجابة بصورة صحيحية يجب أن نحدد منذ البداية المعايير أو المقاييس التي سوف نعرض عليها مضمون الإجابات، لذلك دعونا نحصر التقييم في محاور أربعة، هي:
1- المعيار العقدي 2- المعيار الروحي 3- المعيار العملي 4- المعيار الإنساني
السؤال الأول: ماذا يمكن أن نقول في عقيدة ابن عربي؟
المعيار العقدي: تنتشر اليوم في المجتمع الإسلامي مجموعة من الفرق والمذاهب والتيارات الدينية، أهمها (السنة والشيعة والأحمدية، ثم المذاهب الأربعة عند السنة، وفرق الشيعة المتعددة، ثم تصورات للعقيدة كالصوفية والسلفية والأشعرية والباطنية والظاهرية وغيرها ...)، وجميع هذه المذاهب تقسم المجتمات الإسلامية والعربية بشكل أو بآخر، بل هنالك صراع فكري ديني يظهر جليًا أحيانًا ويستتر أحيانًا أخرى، وفي بعض المناسبات تكون هذه التحزبات الدينية بصورة مباشرة أو غير مباشرة سببًا يفضي لصراع عسكري مرير، يسفر عنه نتائج دموية كما هو حال العراق اليوم، وكذلك كما كان الأمر في الاقتتال الدموي بين الفرق السنية والشيعية في أفغانستان قبل الاحتلال الأمريكي، أما الحرب التكفيرية والفكرية في وسائل الإعلام والكتب والمجلات وغيرها بين جميع التيارات والمذاهب فلا تخفى على أحد، فقط تصفح بعض المواقع الرسمية لهذه التيارات على "الانترنت" حتى تلاحظ هذا الذي أصفه لك، ولو أردنا أن نلخص أهم خلاف بين جميع هذه الفرق والتيارات لقلنا: إن الخلاف الأساسي بينها جميعاً هو الاختلاف في تصور وفهم العقيدة التي يستند عليها المذهب من خلال تفسير آيات القرآن من جهة، والاختلاف في فهم وضبط أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام من جهة ثانية، فكل طرف يزعم أنه يملك الحقيقة وحده دون بقية الفرق والمذاهب. على أن الدراسات التاريخية الموضوعية تبين أن تشكل معظم هذه الاختلافات يعود لأسباب سياسية أكثر من كونها في أصلها دينية أو اجتهادية.
بما يتعلق بفكر ابن عربي على المستوى العقدي يمكن إجمال القول فيه في أربعة مواقف:
الموقف الأول: يرى أصحاب هذا الموقف أنه قد أحدث بدعا في العقيدة الإسلامية الصحيحة التي عليها إجماع السواد الأعظم من الأمة الإسلامية، كالقول بنظرية الاتحاد والحلول بين العابد والمعبود، وكذلك وحدة الوجود وغيرها من أمور وتفننات عجيبة غريبة، وبالتالي وجب تكفيره، أو عدم الأخذ عنه. وبغض النظر عن صدق هذا الموقف أو لا فلا شك أن ابن عربي في نشأته المعرفية قد تعرض للكثير من المؤثرات الفلسفية الإشراقية، والمذاهب الروحية الدينية الوافدة من ثقافات أخرى، كالحركة الصوفية المورفية، أو الفيثاغورية، وكذلك الهندوسية وغيرها، مما كان يدّرس سراً أو علانية في بعض مدارس الأندلس - في مكان ولادته وشبابه- قبل أن ينتقل للمشرق العربي. على أن أوضح هذه المؤثرات جاءت من الفكر المسيحي، الذي يعكس درجة التقارب الشديد، الذي كان سائدًا بين أتباع الأديان في الأندلس، ولابن عربي طريقة عجيبة في فلسفة الأمور بحيث يخرجها عن فهمها المتداول أو المألوف بين الناس، فقد حاول أن يستعير فكرة التثليث المسيحي، ثم إعادة فلسفة هذا المفهوم لجعله مقبولاً ومسوغًا في إطار مذهبه، فنجده في الجزء الرابع من الفتوحات المكية يقول: "(...) ما كفر القائل بالثلاثة وإنما كفر بقوله إن الله ثالث ثلاثة، فلو قال ثالث اثنين لأصاب الحق (...)".1 وكذلك قوله في الجزء الثالث من الفتوحات: "(...) إن الأحد لا يكون عنه شيء البتة (...) ولا يكون عن الاثنين شيء أصلاً، ما لم يكن ثالث يزوجهما، ويربط بعضهما ببعض، ويكون هو الجامع لهما، فحينئذٍ يتكوّن عنهما ما يتكوّن بحسب ما يكون هذان الاثنان عليه (...) فيسري التثليث في جميع الأمور لوجوده في الأصل".2 "فلا يكون أمر إلا عن أمرين، ولا نتيجة إلا عن مقدمتين (...)".3ولن نغفل هنا أن بعض الباحثين حاول أن يفهم أفكار التثليث عند ابن عربي بعيداً عن مؤثرات العقيدة المسيحية، فقد رأت الأستاذة الفاضلة سعاد الحكيم - التي اعتمدنا على تصنيف معجمها القيم بصورة أساسية ومباشرة في الاقتباس من مؤلفات ابن عربي- أن فكرة التثليث هنا يجب أن تفهم في إطار نظرية وحدة الوجود، وكذلك نظرية العدد الميتافيزيقة، التي تعود إلى مؤثرات الفلسفة اليونانية، وقد اعتبرت أن نسب فكرة التثليث عنده لمؤثرات الفكر المسيحي، إنما يعكس نظرة سطحية لفهم مؤلفاته.4 ولكننا في المقابل نرى أن نسب فكرة التثليث لمؤثرات مسيحية أكثر منطقية وموضوعية، ولم يحيد عن الصواب الأستاذ أبو العلا عفيفي، عندما قال: "تلعب فكرة التثليث دورًا هاما جدًا في فلسفة ابن عربي، وغريب حقًا أن يكون لها هذا الشأن في تفكير صوفي مسلم، ولكن صاحبنا خرج عن كل مألوف ومقرر عند المسلمين، فلمَ لا يقتبس من المسيحية كما اقتبس من غيرها مادام في استطاعته أن يصبغ كل ما يقتبسه بصبغة نظريته في وحدة الوجود؟".5 في الحقيقة نحن نرى أن الغرابة التي أشار إليها الأستاذ عفيفي تصبح مبررة ومفهومة من خلال فهم الحياة المتداخلة بين المسيحيين والمسلمين في الأندلس، حيث نشأ ابن عربي، وتكوّن وعيه الأول. والصوفي الذي يزعم أنه في الشام ويصلي بنفس الوقت في الحرم، حيث إن لروحه حرية التنقل، فلن يصعب عليه تقديم فهم خاص وجديد لأي مفهوم يرغب في ضمه لمذهبه. ومن تلك الأفكار الغريبة تصور المتصوفة أن في كل زمان أقطاب يخلفون النبي من حيث صلتهم بالله، وقدرتهم على الإتيان بالخوارق، وهم أعظم الخلق وأتقاهم في زمانهم، وقد رأى بعض المتصوفة أنه يكون في كل زمان عدد محدد من الأقطاب، في حين رأى بعضهم أنه لا يكون في زمانه سوى قطب واحد أو هو قطب الأقطاب، ويمكن للمرء أن يقارب بين فكرة "السوبر مان" في التراث الفلسفي، وفكرة "الإنسان الكامل" أو "القطب" أو "حكيم الوقت" كما يدعوها ابن عربي، ومن ذلك قوله: "ولهذا القطب مقام الكمال فلا يقيده نعت، هو حكيم الوقت لا يظهر إلا بحكم الوقت وبما يقتضيهِ حال الزمان".6 وقد يكون القطب له سلطة وخلافة زمانية إلى جانب خلافته الروحية، أو يكتفي بالثانية دون الأولى. "ومنهم من يكون ظاهر الحكم ويحوز الخلافة الظاهرة كما حاز الخلافة الباطنة من جهة المقام كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي (...) ومنهم من له الخلافة الباطنة ولا حكم له في الظاهر كأحمد بن هارون الرشيد السبتي، وكأبي يزيد البسطامي، وأكثر الأقطاب لا حكم لهم في الظاهر (...)".7 وابن عربي يعتبر أن لكل جماعة من الزهاد والعباد قطبا أو بدلاً كما يسميه، فلكل أقليم من الأقاليم السبعة يوجد "بدل"، ولكل جهة من جهات الأرض الأربع قطب، هم لها مثل "الأوتاد" التي تحمي الأرض.8 وقد زعم الشيخ بأن الله قد أطلعه على "قطب المتوكلين"9، ثم زعم بأن الرسل بوصفهم من أقطاب الله في تسلسلهم من آدم إلى يومه، فإن الأرض لا تخلو بذلك من رسول "حي بجسمه"، لأن الرسول هو "قطب العالم الإنساني".10 وهو الذي يكون موضع "نظر الحق"، فهو "الغوث والقطب" أوحد زمانه وهو "مركز الدائرة" وعليه يكون مدار العالم، وهلم جرا إلى مزاعم لا تنتهي.
ومن الأفكار العجيبة المنسوبة إليه، تصوره في إطار نظريته لوحدة الوجود أن العلاقة بين الخالق والمخلوق إنما تكون علاقة جدلية في وجودها؟! وفي ذلك قوله: "فلولا شهود الخلق بالحق لم يكن ولولا شهود الحق بالخلق لم تكن
فمن قال كن فهو الذي قد شهدته وما ثمّ إلا من يكون بقوله كن"11
ثم إن ابن عربي يسير في مذهبه بعيدا، حتى جعل الخالق يرى نفسه في خلقه، والخلق يرون أنفسهم في خالقهم، كالمرآة والناظر فيها، وذلك عندما يستخدم كلمة "القطب" أو "الرجل الكامل" كرمز لأبي البشر آدم، الذي تختزل فيه ذريته من بعده، فتصبح العلاقة بين الإنسان الأول والحق أو الله ذات خصوصية جدلية، فآدم يرى نفسه في الحق، والحق يرى نفسه في آدم، ولن يكون لأحدٍ منهما معنى دون الآخر، فهو يقول: "(...) والحق مرآة الرجل الكامل (...) والحق مرآة للخلق (...)".12 ثم قوله على نحو أكثر تصريح لشكل العلاقة بين الخالق والمخلوق في كتابه المشهور "فصوص الحكم": "فهو (أي الله) مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه، وظهور أحكامها وليست سوى عينه (...)".13 وفي نفس الدلالة قوله في الجزء الثالث من الفتوحات: "فأما القطب وهو عبد الجامع فهو المنعوت بجميع الأسماء تخلقاً وتحققاً وهو مرآة الحق ومجلى النعوت المقدسة ومجلى المظاهر الإلهية (...)".14 وغيرها الكثير من الأمور والمفاهيم التي يحاول أهل التصوف عموما وابن عربي خصوصًا وصل سندها بمصادر الإسلام من كتاب وسنة؛ لتسويغها وجعلها مقبولة، في حين يعتبرها أهل السلف لا تجاوز أن تكون بدعاً وضلالات منكرة.
الموقف الثاني: من في هذا الموقف يرى أنه إمام عظيم وأنه يستند في عقيدته إلى مصادر الإسلام الأساسية - الكتاب والسنة- ويقف عندها ولا يخرج عنها قيد أنملة، وكل ما يجده المرء في كتبه من أقوال توحي بالانحراف عن التصور العام للعقيدة الإسلامية إنما هو كلام له ظاهر وله باطن - كنظرياته في وحدة الوجود والحلول وغيرها- ، وأنه يجب تأويله وفهمه في حدود مصطلحات أهل التصوف، فلا يفهم هذا الكلام بحرفيته، بل يجب تأويله، والمؤهلون لفعل ذلك هم فقط أهل التصوف. كتأويل بعض أقواله الرامية إلى وحدة الوجود من مثل قوله: "العالم (...) هو عندنا المصحف الكبير الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال (...)".15 فهم يتأولون مثل هذه العبارات، وهؤلاء مثلاً ينقلون عنه كذلك أنه يقول: "من قال بالحلول فدينه معلول، ومن قال بالاتحاد فهو من أهل الإلحاد (...)". وكذلك اشتهر عنه نقده لحالة "الشطح" أو الشطحات التي يأتي بها أهل التصوف، فهو يقول: "الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهي نادرة أن توجد من المحققين".16 ثم إن هذا الفريق من المؤيدين والمريدين والمحبين والسالكين لنهج الشيخ يجعلون له أسماء من مثل قطب الزمان، الأمام الأكبر والكبريت الأحمر، بحر الحقائق، سلطان العارفين، الشيخ الأكبر وغيرها.
الموقف الثالث: أصحاب هذا الموقف يرون أن الكثير من هذه الأقوال والأفكار أساسا قد دست على الشيخ، وأنه براء منها قولاً واحدًا، وغالبًا ما يتُهم بعض الفرق الباطنية بالقيام بعملية تشويه مؤلفات ومذهب ابن عربي والدس عليه، ولعل من أبرز المدافعين عن هذا الرأي في الوقت الحاضر هو المفكر الإسلامي محمد سعيد رمضان البوطي، الذي عرف بإجلاله لابن عربي، ورموز الطرق الصوفية عموماً، وهذا يعكس تأثره الشديد بنشأته في بيئة دمشقية صوفية تجعل لابن عربي قداسة خاصة، حتى أن حيًا كاملاً في دمشق يسمى باسمه، وهو الحي الذي يوجد فيه قبره، ويسمى حي "الشيخ محي الدين". كما يرى بعض الناس أن بعض المستشرقين قد قام بدور مماثل، من حيث الدس في كتب ابن عربي، ويحتج أصحاب هذا الرأي بأن بعض مؤلفات الشيخ قد لقيت عناية خاصة من المستشرقين، وقد كانوا هم أول من قام بتحقيقبعض المخطوطات الأولى لكتبه، ومن ذلك مثلاً أن أهم كتبه وأكبرها وهو الفتوحات المكية الذي يبلغ حوالي أربعة آلاف صفحة قد قام المستشرق الفرنسي لوي ماسينيون (1883-1962) بتحقيق قسم كبير منه، والعناية به بشكل خاص، إلى جانب اهتمامه الكبير بالصوفي الشهير أبي منصور مغيث الحلاج. علماً بأن ماسينيون هذا لم يكن ليخفي تعصبه تجاه المسلمين، فقد أوردت الموسوعة العربية العالمية، التي أصدرتها المملكة العربية السعودية، بأن ماسينيون قد عرف بكونه من المستشرقين المتعصبين تجاه الإسلام، وأنه "عمل مستشاراً للحكومة الفرنسية في تخطيط سياستها ضد المسلمين في شمال أفريقيا".17 وعلى الرغم من أن الكثير من النشاط الاستشراقي في العالم الإسلامي إنما كان بدافع توفير دليل لمساعدة الحملات التبشيرية والاستعمارية، إلا أننا في المقابل يجب ألا نجعل كافة النتاج الاستشراقي في سلة واحدة، فهناك من الباحثين الغربيين الذين لم يحركهم في أبحاثهم سوى حب المعرفة والاطلاع، وقد ألزموا أنفسهم بمنهجية الحياد والنزاهة العلمية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولسنا هنا بمعرض مناقشة موضوع الاستشراق، ولكن توجب علينا بيان أن ليس كل بحث حول ابن عربي أجري من قبل مستشرق يستوجب الطعن، أو وصمه بالدس والتحامل.
الموقف الرابع: يرى أن الذي قام بالدس على ابن عربي وتشويه مذهبه هو خصومه من رجال الدين، بمدد ودعم من رجال السياسة، فبعضهم ذهب إلى أن المتصوفة عمومًا كانوا زهادًا عباداً لا تأخذهم في الله لومة لائم، وبالتالي كان من شأنهم التصدي للظلم والجور الذي يوقعه السلاطين البغاة على رعاياهم، فكان أفضل وسيلة للتخلص من معارضتهم هو تأليب العامة عليهم بحجة أنهم قاموا بإحداث البدع والتحريف في عقيدة الأمة، وبالتالي يمكن النيل منهم بسهولة. على أن سيرة ابن عربي تبين أنه كان يتمتع بعلاقات ممتازة مع الحكام في زمانه، سواء في المغرب أو في المشرق الإسلامي ، وكان يحظى باستقبال كبار الساسة له أينما ذهب، وربما يعود ذلك إلى استفحال أمر الطرق الصوفية في المجتمع الإسلامي في ذلك العهد أكثر مما هي عليه اليوم، فلم يكن يمضي سوى بضعة عقود على موت الإمام أبي حامد الغزالي، الذي استطاع من خلال مؤلفاته ونفوذ رأيه عند أهل السياسة في زمانه أن يثبّت أقدام أهل التصوف في السيطرة الروحية على العالم الإسلامي، فبعد أن أوقف حركة النشاط الفلسفي العقلي من خلال كتابه "تهافت الفلاسفة"، عمد في كتابه "المنقذ من الضلال" إلى دراسة التيارات الفكرية والروحية كافة، حيث صنفها في أربع فرق، هي: "المتكلمة، والباطنية، والفلاسفة، والصوفية"، ثم جعل أهل التصوف هم الفرقة الناجية الموصلة إلى الله من دون الفرق الأخرى، وقد وصف أهل التصوف بأنهم أهل "الحكمة والأخلاق الزكية"، وقد صادفت مؤلفاته انتشارا عظيما في العالم الإسلامي، لذلك عندما جاء ابن عربي كان الغزالي قد مهد الطريق فعلياً لإعلاء شأن أهل التصوف على بقية التيارات، حتى صار للمتصوفة الحل والعقد بين العامة والخاصة، وابن عربي الذي يفصل بينه وبين الغزالي فقط ثلاثة وخمسون عاما، كان قد ورث هذا النفوذ الروحي في أصقاع العالم الإسلامي. وعندما زار بلاد السلاجقة أو تركية والشام والحجاز ومصر قوبل باستقبال عظيم، والتقى في تلك البلاد بعض الحسنوات، اللواتي كان لهن دور كبير في سيرته الروحية، لاسيما في تأليف ديوانه المشهور ترجمان الأشواق، الذي جعل فيه الحسناء "النظام" الإيرانية المقيمة في مكة المكرمة رمزًا للحكمة الخالدة! وكانت تربطه بأسرتها صداقة متينة، حيث التقاها عندما أقام في مكة ثلاثة أعوام في سنة 1207 للميلاد، ولم يتزوج منها لأنه كان يرى فيها تصعيدا لحبه العذري، ليبلغ به الحب الإلهي، ولكن ورد أنه تزوج فيما بعد من والدة تلميذه صدر الدين القونوي في حوالي سنة 1222م عندما زار تركية. وربما من الطريف هنا أن نذكر بعض وصفه للحسناء "النظام"، في مقدمة ديوانه ترجمان الأشواق حيث قال عنها: "طفلة هيفاء، تقيد النواظر، وتزين المَحاضر، وتسر المُحاضر، وتحير المُناظر، تسمى بالنظام وتلقب بعين الشمس والبهاء من العالمات العابدات، السائحات الزاهدات (...) ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت، إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموْأل خطاه (...)".18 يخيل للمرء أن حب تلك الفتاة كان قد تمكن من نفس الشيخ إلى درجة أنه رفع شأنها فوق الكثير ممن اتفقت الأمة على عظمتهم. على أنه ربما يصدق وضع التبرير السياسي في حالة متصوفة آخرين قضوا على يد السلاطين من أمثال أبي مغيث الحلاج في بغداد، وأبي الفتوح السهروردي في حلب وغيرهما. هذا على فرض أن رواية بعض الباحثين حول هذين الأخيرين صحيحة، من حيث أنهما كانا يمثلان ما يشبه المعارضة السياسية للحكام المستبدين في زمانهما وبلدانهما، وقد زعم الحكام في المقابل أنهم إنما قتلوهما لنشرهما البدعة والتحريف في الدين. وعموماً نرى أنه من المنطقي أن يسُتبعد خيار التصادم بين الصوفي والسياسي، فهناك شبه تفاهم بألا يتعدى أحدهما على منطقة نفوذ الآخر، ففي الوقت الذي تكون فيه السلطة الروحية للصوفي، تتُرك السلطة الزمانية للسياسي، وهذا واضح من خلال المبدأ الصوفي الذي يحض على الاعتزال والزهد بالجوانب المادية من الحياة. وكأن هذا الوضع هو التوصيف العملي للقول الذي ينسب للسيد المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". على أننا يجب أن نتجنب التعميم الصارم، فقد لعبت الجماعات الصوفية تاريخياً دورًا سياسيًا كبيرًا في دول شمال وجنوب أفريقيا المسلمة، وخصوصًا في الفترة الاستعمارية، حيث نهضت هذه الجماعات بالعبء الأكبر من عملية المقاومة والجهاد ضد المحتلين. الأمر الذي لم يمارسه الكثير من هذه الجماعات وممثلوها في الثورات الشعبية الحالية ضد الظلم، بل لم تخف هذه الرموز تحالفها مع السلطة السياسية ضد الشعوب، كما حدث بشكل واضح في مصر والشام. ولم ترض بدور المبرر للظلم بل وقفت موقف المدافع عنه، لذلك لا يستغرب المرء أن تقوم الكثير من الحكومات في الدول العربية والإسلامية بدعم هذه الجماعات، بل إن الساسة الأوروبيين كذلك يقومون بدعم انتشار التيار الصوفي الإسلامي في بلدانهم على حساب بقية التيارات الإسلامية الأخرى.
المعيار الروحي:إن الجسد الذي انفصلت عنه الروح هيكل ميت، في هذا المعنى يعتبر بعض الناس أن أفكار ابن عربي في بعض جوانبها شديدة الأهمية لتخليص الحياة الدينية الروحية من درن المادية المفرطة، وتصفية النفس من شوائب الذنوب والآثام التي تلم بها، ولتحقيق هذه الغاية لا بد من التزكية (تزكية النفس) والتخلية ( إفراغ النفس) والتحلية (الاستمتاع بالذكر):
- فتزكية النفس: يقصد بها تطهير النفس البشرية من الشرور، من الحقد والحسد والكره والتشاحن والكذب والنميمة والغيبة وغيرها من الأفعال القبيحة، ويستدل المتصوفة على أهمية هذه الحالة، من كونها طريق النجاة في هذه الدنيا وذلك بالاستشهاد بالآية التاسعة من سورة الشمس: "قد أفلح من زكاها". فالآية تقرن الفلاح بالتزكية، فلا فلاح بغير تزكية، لذلك لابد للسالك في طريق التصوف من تنزيه النفس عما يعلق بها من شوائب، وهذا لا يتأتى بغير إفراغ القلب من كل ما يستر عن بصيرتنا مراقبة الحق لنا، بحيث تراه عين البصيرة في كل حال، وهذه هي الحالة الثانية "التخلية".
- التخلية: أي دفع الهموم ومشاغل الدنيا والمتاعب عن عاتق الإنسان، وجعل القلب متعلق بالخالق دون المخلوقين، وذلك لا يتأتى بغير الابتعاد عن الأغيار، بالانقطاع إلى رب الأغيار، فالخلوة هي السبيل لجعل الحق ماثلاً في عين القلب، إذ إن وجود السالك بين الناس ومشاغل الدنيا يجعل صفاء النفس متعذراً، فتأخذ هذه الحوادث نصيبها في مشاركة الحق مكانه من قلب المريد. وابن عربي يستخدم مصطلح "التَخَلي" وليس التخلية، أي بمعنى الانقطاع عن الناس وترك كل ما يشغل النفس عن خالقها فهو بمثابة التخلي عن عالم الأشياء، وقد جعل عنوان أحد مؤلفاته بـ "الخلوة" ومما أورده فيه قوله: "الحمد لله الذي ألهم الصفوة من عباده اتخاذ الخلوات (...) ونصبها مثالاً لأحديتهِ من أكثر الوجوه والجهات (...)".19 وإلى جانب كتاب "الخلوة"، صنف في نفس الموضوع مؤلفه "صفة جلوس المرتاض والخلوة" وهو مخطوط موجود في المكتبة الظاهرية بدمشق، تحت الرقم (123). ومما قاله في الفتوحات في نفس الشأن: "وأما أهل السلوك (...) فآثروا الخلوة لينفردوا بالحق لما حجبتهم الكثرة المشهودة في الوجود عن الله جنحوا إلى التخلي (...)".20 بعد أن يتحقق للمريد حالة التخلية، بأن لا يبقى في القلب إلا صورة خالقها من بين صور الأغيار الفانية، وتزكى النفس عن شوائبها، فإن السالك يصل إلى مرحلة الاستمتاع -إذا صح التعبير- بالذِّكر، وبمراقبة المولى له، وهذا ما اصطلحنا على تسميته بالتحلية.
- التحلية: عندما يداوم المريد على ذكر الله وحمده وشكره فسوف يشعر بطعم الإيمان وحلاوته، وهذا لا يتأتى بغير مجاهدة النفس وإرغامها على لزوم الصّراط، ومن ذلك قول الصوفي الكبير أبي يزيد البسطامي - الذي كان يقدره ويجله ابن عربي كثيراً، ويعتبره قطب زمانه، حسب ما أسلفنا-: "ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك". وكثيرة هي الأقوال والأخبار التي يوردها أهل التصوف في المجاهدة حتى يبلغ أحدهم الاستمتاع باستقامة النفس على الطريق. على أن ابن عربي قد ذهب مذهباً عجيباً في موضوع الذكر لم يسبقه إليه أحد من قبل - على حسب ما نعلم - فقد اعتبر أن وجود الحق في القلب يجب أن يكون دائم الحضور، وبالتالي فإن الذكر إنما يكون علامة النقص والغفلة، فأن تَذَكُرَ شيئاً فهذا يعني أنك كنت قد نسيته ثم تذكرته! لذلك فهو يجعل الذكر من علامات النقص والنفاق، وفي ذلك نظم الأبيات التالية، المتضمنة في كتابه "وسائل السائل":
"فدع الذكر والتسبيح إن كنت عاشقا فليس يديم الذكر إلا المنافق
فإذا كان من تهواه في القلب حاضرا وأنت تديم الذكر كنت منافقا
بذكر الله تحتجب الذنوب وتحتجب البصائر والقلوب
وترك الذكر أفضل كل شيء فشمس الذات ليس لها غروب"21
وهذا أمر في غاية العجب إذا ما قارناه بالأدلة الشرعية الكثيرة الواردة في شأن الذكر بالمعنى القلبي واللساني، التي يعرفها المسلم العادي، فالأنبياء الذين هم أعظم الرجال في هرم الأديان السماوية يحتاج الواحد منهم أن يذكر بلسانه وقلبه، فهل يعتقد ابن عربي أنه قد بلغ في مقامه حداً تجاوز فيه مراتب الأنبياء، وأن الخالق دائم الحضور في قلبه، وأنه لا يغفل عن خالقه أبداً حتى يستغني بذلك عن ذكره؟! وكيف يمكن فهم ذلك، والنبي محمد عليه الصلاة والسلام - على سبيل المثال لا الحصر- يقول: "إنه ليُغان على قلبي وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة".22 وقد ورد في شرح الأمام ابن الأثير لهذا الحديث قوله: "(ليغُان على قلبي) أي ليُغطّى ويغشى، والمراد: السهو، لأنه كان صلى الله عليه وسلم لايزال في مزيد من الذكر والقربة ودوام المراقبة، فإذا سها عن شيء منها في بعض الأوقات أو نسي، عده ذنباً على نفسه، ففزع إلى الاستغفار".23 ونريد من القارئ الكريم أن يتأمل كلمة "سها" أو "نسي"، الواردة بحق النبي المعصوم، ثم يتوجه بالسؤال للإمام ابن عربي، هل النبي بحكم بشريته ينسى ويغفل عن حضور خالقه، وابن عربي يديم حضوره في قلبه كأنه ملك معصوم؟! نحن لا نريد أن نكون مع طرف ضد طرف، بل نريد إنصاف الإمام محي الدين بن عربي، وهذا الإنصاف يكون بأن نقول ما يمليه علينا ضميرنا في فهم كلامه ونصوصه، فإذا أردنا أن نحسن الظن به عندما نقرأ مثل هذا الكلام في كتبه، فلعلنا نقول: إننا لم نوفق إلى فهم المعنى الذي أراده الشيخ من كلامه، فلربما أراد أن يقول إنه دائم الذكر لله من فرط محبته له ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لا سيما أنه قد أورد في أماكن أخرى كلاماً صريحاً يقول فيه: "(...) فليس بمقدور البشر مراقبة الله في السر والعلن (...)".24 فالذي لا يقوى على مداومة المراقبة، لا بد أنه واقع في الخطل والغفلة، ولا بد من أن يعتريه بذلك النقص والتقصير، فوجب في حقه الاستغفار، ومن وجب في حقه الاستغفار، وجب عليه النهوض بالذكر، وهل الاستغفار إلا شكل من أشكال الذكر. ثم بالمقابل كان ابن عربي يعلم أنه لا يكتب هذه المؤلفات لنفسه، وأنها سوف تقرأ من عامة المسلمين قبل خاصتهم، فكيف يتأتى للعوام من المسلمين أن يوفقوا بين رأي ابن عربي في الذكر الذي لا يدوام عليه غير المنافق كما قال، وبين ما يجدونه من نصوص قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة جداً كلها في تزاحم تواترها تؤكد على وجوب الذكر وعلى منزلته العظيمة، حتى أن بعض المفسرين كان قد جعل الصلاة نفسها تنطوي تحت بند الذكر أو الدعاء في أحيانٍ أخرى. ولا يشفع لابن عربي ولا لغيره من المتصوفة الهروب إلى لعبة الرمز والتأويل، وتحميل المعنى الظاهر للقول معانٍ باطنية متسترة تحته، حتى وإن كان يقر أن للوجود وجهين ظاهر وباطن، كما أشار في فصوص الحكم بقوله: "(...) إن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن، فأوجد العالم عالم غيب وشهادة، لندرك الباطن بغيبنا والظاهر بشهادتنا (...)".25 ففي ذلك تضليل للعقول، وتلبيس على الحق، وفتح الباب على مصرعيه لتحريف الكلام والأفكار واللعب بها، فلا يقول بهذا عاقل يريد مصلحة الأمة، ويخشى عليها من مهاوي الردى والانحراف. وربما يعترض علينا أحدهم بقوله: إننا بذلك نقيد حرية الناس في أن يقولوا وينتهجوا ما يريدونه من أسلوب واعتقاد! لكننا نجيب عليهم بالقول: بأننا نتفق معهم بأن من حق ابن عربي ومن خلفه جمهور المتصوفة، في أن يعتنقوا ما يرونه من الأفكار وأن يتبعوا الأسلوب الذي يريدونه في كتابة أفكارهم! ولكن ذلك يكون بشرط أن لا يزعموا بأنهم يحتكرون حقيقة الدين، وأنهم الأوصياء عليها، فأي عاقل منصف يلاحظ البون الشاسع بين بضاعتهم ونهجهم، وبين المنهج القرآني الصريح والمباشر، ومن خلفه كذلك نهج وأسلوب النبي الوصي على حقيقة الشريعة، والذي اضطلع بتبليغها وشرح مضمونها، والذي لا يحق لأحد من بعده أن يزعم بأنه بلغ منزلته، فهو أسُ الدين ورأسه، وكلامه المحفوظ في المصادر الموثوقة، فصيح وصريح ومباشر، ليس فيه رمز وليس فيه لبس، وليس فيه تصنع وافتعال وحمل للكلام على غير الوجه الذي يعرف به، وليس فيه شطح ولا (مواجيد) ولا رهبنة ولا فنون ما أنزل الله بها من سلطان. ولعل المرء لا يبالغ، إن اعتقد بأن الكثير مما تعانيه الأمة من تخلف وانخذال بين بقية الأمم في الميادين كافة، تتحمل فيه المتصوفة بشكلٍ أو بآخر قدراً ليس بالهين، هذا إذا لم يكن الكثير من أوجه ظاهرة التصوف ناتج أساساً عن إفرازات انحدار الأمة وتخلفها. وعلينا أن نبين قبل أن نختم هذه الفقرة التي جعلنا عنوانها "التحلية"، أن الشيخ ابن عربي لم يستخدم مصطلح التحلية بالمعنى الحرفي، ولكننا اقتبسناه من لغة المتصوفة عامة، وكذلك نريد أن نوضح أنه لا يوجد هذا الترتيب الاصطلاحي لهذه المراحل عند ابن عربي بالشكل الذي اعتمدناه هنا (تزكية، تخلية، تحلية)، ولكننا رأينا استعمال هذا الترتيب من أجل التوضيح فقط، فيجب أن يكون ذلك معلوم للقارئ الكريم، فابن عربي يستخدم مصطلحات كثيرة، أهمها مقام "التمكين" ومقام "التلوين"، ففي حين يكون الأول بلوغ مرتبة الاستقامة والثبوت عليها، يكون الثاني نقص يعتري المقام الأول، والطريق لبلوغ مقام "التمكين" لا بد أن يمر بالمراحل الثلاثة التي شرحناها لتيسير الفهم .
ولو تأملنا الآن هذه المراحل الثلاث (التزكية، والتخلية أو التخلي، والتحلية) لربما وجد المرء فيها بعض المبررات للمتصوفة، ولكن بالمعنى النسبي ونقول ذلك من باب الإنصاف، من حيث أن هذه المراحل عموماً تجعل من الإنسان شخص مستقيم نقي النفس خالي من الهموم مرتاح نفسياً منشغل عن مراقبة عيوب الناس بذكر الله، وهذا يجعل من سلوك المريد أو الذاكر أو السالك في غاية اللطف والسمو وباختصار تجعل منه إنسان بكل ماتعني كلمة إنسان، وهذا ما يحتاجه كل الناس في كل مكان، ولا نحتاج هنا لنكرر القول: مع شرط أن توضع الأمور في نصابها الصحيح، وأن تعرض على ميزان العقل والعلم والشرع. ومن هذا المنظور تظهر أهمية (بعض) جوانب مذهب ابن عربي والمتصوفة عموماً. وهذا أيضاً مع ملاحظة ألا تكون الخلوة بمعنى العزلة الشديدة أو الطويلة، كما هي معروفة عند شيوخ الطرق الصوفية، فمثلاً كان اعتزال أو خلوة أبي حامد الغزالي في الحجرة الشرقية من المسجد الأموي الكبير بدمشق لمدة عشرة سنين، وقد خرج من عزلته تلك بكتابه الكبير ذي الأجزاء الأربعة أو الخمسة على حسب طبعته، والمعروف باسم كتاب "إحياء علوم الدين". نحن لا نقصد هذا الشكل من الخلوة، بل نقصد أن يخلو الإنسان بنفسه في اليوم أو الأسبوع لبضع دقائق أو سويعات للتأمل بحاله وما له وما عليه، بغية أن يصفي ذهنه من الهموم والشواغل، ويحاسب النفس عمّا بدر منها من تقصير وانحراف، وهذا النوع من خلوة النفس محبب ومحمود حتى من قبل بعض الباحثين بعلم النفس.
المعيار العملي: نقصد به الناحية السلوكية والأخلاقية، وهنا يمكن تكرار ما أوردناه في المعيار الروحي من أن ابن عربي – كمعلم للتصوف- فإن منهجه يقوم على: تطهير النفس من الحسد والغل والحقد، وبالتالي فإن المريد أو الصوفي السالك للطريق أو الطريقة، يجب عليه أن يتمتع بأخلاق عالية وسلوك راقي، وما أحوجنا اليوم لمن يدعو للسلوك الطيب بين أفراد المجتمع، ولكن بلاشك ليس بالأسلوب الصوفي. فالسير في الطريق الصوفية، يتبع أسلوباً معقداً من شأنه سلب إرادة الفرد، وجعله مقيداً بإرادة شيخ الحضرة أو الطريقة، الذي بدوره قد يتبع آخر يقوده لغايات تكون بعيدةً كل البعد عن المقاصد الصوفية، فما أكثر الخطلات التي تلحق المريد من جراء وقوعه تحت تأثير شيخه، الذي قد لا يكون أهلاً للثقة. فهذا ابن عربي يبين صفة المريد بقوله: "المريد: هو المتجرد عن إرادته".26 طبعاً الكلام هنا المقصود به، تجرد الإرادة بالخضوع لله وليس الشيخ. ومثل ذلك قول الصوفي الكبير ابن عطاء الله السكندري (1260-1309) في حكمه العطائية: "ارح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك، لا تقم به لنفسك".27 ولكن ابن عربي يعود ليُقنن عبور الطريق إلى الله بممر واحد لا غير، يقف على بابه الشيخ أو "الدليل" كما يسميه ابن عربي، حيث قال شعراً: "ومن طلب الطريق بلا دليل إلهيٍّ ، لقد طلب المحالا".28
فإذا كان المريد عليه التجرد من إرادته والخضوع لأقدار الله ووارداته، فهو من جهة ثانية كما يفترض ابن عربي، لا يمكنه السير في الطريق المفضية إلى الله من غير دليل رباني، الذي هو شيخ الطريقة أو من ينوب عنه بالإجازة، وإذا كان الشيخ هو باب الولوج إلى رضا الحق، فهذا يفترض ضمنياً الخضوع لإرادة الشيخ وطاعته في كل ما يأمر به، إذ أن رضا الحق والوصول إليه محال بغير "دليل"، وغضبه مقرون بذلك أيضاً، وهذا يشبه إلى حدٍ بعيد الدور الذي يقوم به الكاهن أو البابا في الفكر المسيحي، بحيث تستطيع المؤسسة الكنسية ممثلة برجل الدين منح صك النجاة أو الهلاك في الحياة الآخرة، كما حدث في القرن الخامس والسادس عشر للميلاد، عندما قامت البابوية في عهد البابا "سكتوس الرابع" ببيع صكوك الغفران.
في الإسلام يجب أن لا توجد طبقة "الأكليروس" التي تتوسط بين الخالق والمخلوق كما هو الحال في المسيحية. في الإسلام العلاقة بين الله وبين عبده مباشرة بلا وسطاء، ولا أوصياء، وهكذا كان الأمر، حتى طلعت علينا فرق التصوف بفنون عجيبة غريبة، من جعلها باب السماء لا يفتح من غير إذن الشيخ، وكم سمعنا وشاهدنا مصائب حدثت وتحدث بسبب استخفاف الشيوخ بعقول مريديهم، ولو أردنا ذكر ما وقفنا عليه شخصياً من خلال تجربتنا بالانخراط ببعض الطرق الصوفية للتعرف عليها من داخلها، لقرأتم في هذه الصفحات ما تستنكره كل عقل سليمة، وتأنف منه كل نفس كريمة. ونحن لا ننكر أهمية وجود المعلم والموجه والقدوة في حياة الإنسان بما فيها الحياة الروحية أو الدينية، وقد أفاض أبو حامد الغزالي في الإحياء في دور المعلم الروحي أو المؤدب وفي ذكر الشروط الواجب توفرها به، وليس لدينا اعتراض على هذا الفهم، ولكن اعتراضنا على أن يُسلب المريد إرادته، وأن يتبع بصورة عمياء ببغائية شيخه. العلاقة بين الاثنين يجب أن تكون محكومة بالعقل والمنطق، والاحترام المتبادل، وليس بالتبعية العاطفية أو الطبقية، كعلاقة السيد بالعبد، وذلك حتى يسد باب الدجل والتسلط وتضليل البسطاء من الناس والتغرير بهم. ثم إنه بالوقت الذي تزعم به المتصوفة من الناحية السلوكية المحضة، أن من أخلاقهم الزهد بحطام الدنيا وزينتها، نجد أن معظم شيوخ الطرق الصوفية في الوقت الحالي عبارة عن إمبراطوريات مالية، إذا ما قورنوا بمريدهم، فحدث عن العقارات والعمارات والسيارات، والزيجات المتعددة، في الوقت الذي يهرم به الشباب من العزوبية، ومن ضيق ذات اليد، ذهبت أيام لبس المرقع، وأكل المنقع، اليوم لدينا شيوخ خمسة نجوم! وكم من مغفل من المريدين الأثرياء، الذين يغذون تكيات تلك الطرق وزواياها بالسيولة المالية، والتي يصب قسم كبير منها في نهاية المطاف في جيوب زعماء الطرق، ولا نريد التعمميم حتى لا نلحق أذىً أو ظلماً بأحد، لكن ما عرفناه وشاهدناه يرجح عموم هذا الوضع. وكم نتمنى أن تقوم فئة من باحثينا الشباب، بتجلية الحقيقة، وبتتبع ثروات هؤلاء الشيوخ، بالطريقة التي قام به البعض بتتبع ثروات الحكام والمتنفذين في مجتمعاتنا، فمن حق الأمة أن تعرف أين تذهب مقدراتها. على أن ابن عربي لا يتحمل وزر ذلك، وهذا بكل الأحوال ليس موضوعنا، ولكن فقط أردنا التعريج قليلاً على الحاضر على هامش زيارة الماضي.
المعيار الإنساني: مؤلفات ابن عربي مليئة بأفكار ذات صبغة إنسانية تتجاوز التحيزات المذهبية الضيقة بل إنه يتجاوز الحدود والفواصل بين الأديان والعقائد فيدعو إلى تدويل القيم الإيمانية بالصبغة الإنسانية، ولعل أبياته المشهورة في هذا الباب لا يمكن حصرها ومن أشهرها:
"لقد صار قلبي قابلاً كل صورة مرعى لغزلان ودير لرهـبان
وبيت لأوثان وكـعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت ركائـبه فالحب ديني وإيماني"29
يلاحظ المرء في هذه الأبيات دعوة صريحة من ابن عربي للانفتاح على الآخر فهو يساوي بين جميع المعتقدات وليس فقط الديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلامية بل كذلك يحترم المعتقدات الوثنية، ومن باب حسن الظن لن نأخذ وجهة نظر الشيخ هنا من الناحية (العقدية أو من معيار العقيدة)، بل على مضض! نحاول جاهدين فهم وجهة نظره من ناحية (المعيار الإنساني) في إطار نظرياته في وحدة الوجود ومن خلال فكرته بأن الأديان جميعاً إنما تصدر عن مشكاة واحدة، وأنها جميعاً تبتغي الوصول إلى الحقيقة في عبادة الحق. لذلك خلاصة القول في هذا المعيار: أن فكر ابن عربي يستطيع على المستوى الإنساني، أن يعلمنا التسامح والتعايش والتواصل بين جميع الناس، وحتى لو كانوا مختلفين في أديانهم وأعراقهم وألوانهم.
السؤال الثاني: ماذا يجب أن ننكر ونرفض من فكر ابن عربي؟
المعيار العقدي: على مستوى العقيدة بينا آنفاً أنه توجد اعتراضات واتهامات كثيرة يوجهها عدد لابأس به من التيارات الإسلامية، ضد (عقيدة) ابن عربي، وكتبه تحتوي على كم هائل من الأقوال والأفكار، التي إذا أخذت على ظاهرها، جعلت موقف صاحبها من الناحية العقدية أمام بقية المذاهب الإسلامية محرجاً، فظاهرها يخالف بشكل صريح بعض أسس (العقيدة الإسلامية)، ولكن من باب حسن الظن، وعدم الشك في إخلاص الرجل، وتجنباً للفهم السطحي لمذهبه، وتقديراً لسعة علمه، يحاول المرء أن يجاري منهج المتصوفة في فهم مقاصدهم الباطنية من تلك الأقوال، فإن وجدت إمكانية لفهم باطنها على خلاف ظاهرها بحيث تنسجم من جهة أخرى مع الأسس العقدية، ولا تخالفها مخالفة صريحة، غض المرء الطرف عنها وقبلها، مُحْسناً الظن بصاحبها، وموكلاً أمره إلى بارئه، فهو المعني بمحاسبته. وحتى لا نطيل الكلام تحت هذا المعيار، فإننا نوجز القول: بوجوب إنكار مثل هذه الآراء، إذا صح لنا بعد البحث والتمحيص والتدقيق أنها حقاً ترجع للشيخ، وليست مدسوسة عليه، دون أن نكفر صاحبها كما يفعل البعض، فتلك ليست مهمتنا، ولا هدفنا، فقد نعجز عن فهم مقصود الرجل، ولعله عند ربه يساوي ملء الأرض من أمثالنا، فالحيطة كل الحيطة، في ذمم الخلق، وليتولى أمره خالقه، فهو به وبنا أعلم.
المعيار الروحي: تحت المعيار الروحي تمحور مجمل قوله حول تصفية النفس وتطهيرها، وهذا شيء حسن، مع مراعاة ما ذكرناه آنفاً من ملاحظات بهذا الخصوص.
المعيار العملي: تحت هذا المعيار يوجد اعتراضات كثيرة ضد فكر ابن عربي والمتصوفة بشكل عام، ويمكننا الحديث عن التأثير السلبي للسلوك العملي للمتصوفة ومنهم ابن عربي على مستوى الحياة اليومية ومن هذه الاعتراضات أو الأشياء التي يجب أن نرُدها:
1- الموقف من رجال الحكم والسلطة السياسية: بكل بساطة يمكن القول أن الإغراق والمبالغة في الانسحاب من الحياة وفق الرؤية (العربية: نسبة لابن عربي) يفسح المجال لتفرد السلطان بالحكم، ويلغي دور المؤسسة الدينية، ويعفيها من دورها في نشر مفهوم العدل والمساوة الاجتماعية، وإذا كان منهج ابن عربي يدعو إلى نبذ العنف، فإنه بالمقابل يبالغ بالتركيز على هذا الجانب حتى يصل إلى حالة سلبية، تجعل (المريد أو الفرد) في المجتمع يؤخذ حقه، وتداس كرامته وهو مقتنع بأن ذلك ليس إلا قضاء الله فيه، وهو به راضٍ، وأنه خير ونفع وعليه قبوله والتسليم به. كما هو حاصل اليوم في كثير من المجتمعات العربية والإسلامية، حيث تمارس الطرق الصوفية دوراً في منتهى الخطورة في إطار شرعنة الحياة السياسية الاستبدادية، فهي تأخذ دور المبرر والمسوغ لجرائم الحكام في حق شعوبهم، وينطبق عليها في ذلك قول ماركس المشهور "الدين أفيون الشعوب". وهذا الدور أوضح ما يكون في التيارات الصوفية في مصر والشام واليمن والمغرب. إذ من الإنصاف القول أن بعض التيارات الصوفية في بعض الدول العربية والمسلمة لها بالمقابل أدوار إيجابية في الحياة الاجتماعية عموماً، كما هو الحال عليه في السودان وموريتانية والسنغال وعموم الدول المسلمة في جنوب القارة الأفريقية، لذلك يجب أن نتجنب وضع البيض كله في سلة واحدة، ونحاول أن نلتزم الموضوعية والإنصاف ما وجدنا إلى ذلك سبيل، فهدفنا بالدرجة الأولى معرفي، إصلاحي، وليس إيديولوجيا نفعيا.
2- على مستوى الحياة الاجتماعية: التصوف بشكل عام يدفع الفرد للانعزال، وبالتالي يوصل إلى حالة من الكسل والعجز وما يسمى بالدرويش ليس إلا الترجمة العملية لكلمة عاطل عن العمل أم التكيّات فليست هي اليوم سوى الترجمة العملية لكلمة مأوى المتشردة، وبالتالي: - ومن وجهة نظرنا على الأقل - يجب رد فكر ابن عربي حول مفهوم "الخلوة" ومفهوم "الزهد الشديد" ودعوات الانسحاب من الحياة العملية أو حياة الشغل، لأننا إذا قبلنا مثل هذا الفكر فسوف نصل إلى حالة تخلف صناعي واقتصادي وعلمي، أي تخلف في جميع مناحي الحياة، كما هو حالنا اليوم، فالحياة الصحيحة لا تكون إلا بالعمل والنشاط، وبغير العمل لاتقوم الأمم، ولا تبنى المجتمعات.
3- على مستوى التفكير العلمي: يجب أن ننكر ونرد كل فكرة (خرافية) ترد في فكر ابن عربي، ويجب أن نرفض كل فكرة لا تحترم العقل والعلم مثل قوى الشيوخ العجيبة وكراماتهم الخارقة للطبيعة ومزاعمهم اللامنتهية في المعارج والاسراءات الروحية في عوالم الشهود والملكوت، وكذلك الأفكار التي تكون وليدة الشطحات والمواجيد وغيرها مما يجافي العقل والمنطق. على أننا يمكن فقط أن نقبل مثل هذه الأفكار إذا حصرنا تفكيرنا في إطار نمط التفكير "السحري" وربما أحياناً في إطار نمط المعرفة "الدينية"، أما في مجال المعرفة العلمية فلا مكان لمثل هذه التصورات، فهي تصنف عادةً في مجال ما يعرف باسم "البارسيكلوجي" أو ظواهر ما وراء – حدود العلم- العقل. وهذا التوضيح من أجل ألا نخلط أنماط المعرفة ببعضها البعض من حيث المصداقية والمنهجية. فكل نمط له طرائقه في البرهنة على المعارف الواقعة في مجاله. وبكلام موجز: نرى أنه يجب أن نرد وننكر كل ما يجافي العقل، والمنطق، والعلم، والشرع، من فكر ابن عربي. وبهذه المناسبة لابن عربي رأي خاص بالعقل، حيث يرى فيه علامة النقص والجهل، مخالفاً كل ما اتفقت عليه أمم الأرض، بأن العقل هو أشرف ما في الإنسان، بل إنما المولى ما شرف الإنسان واصطفاه وميزه عن (العواجم) إلا بالعقل، كيف لا وهو مصدر التكليف، لكن الشيخ ابن عربي يسير على ما درجت عليه المتصوفة من تقليلهم لشأن العقل، وإهماله، فيقول:
"العقل أفقر خلق الله فاعتبروا فإنه خلف باب الفكر مطروح
إن العقول قيود إن وثقت بها خسرت فافهم فقولي فيه تلويح".30
ولا ندري أي تلويح يقصد الشيخ، ولا ندري ماذا يمكن أن يكون الإنسان من غير عقل، ولكن من جهة أخرى نستطيع أن نفهم المبررات، التي جعلت المتصوفة عموماً لا يحبون قيود العقل، ببساطة لأنها هي الوحيدة التي تضع حداً لشطحاتهم ومزاعمهم، وتقف قيداً يمنعهم من تلبيس الأمور على الناس.
المعيار الإنساني: لا نرى ما يمكن رده من فكر ابن عربي على مستوى المعيار الإنساني، بل الشيخ ابن عربي يجب أن يعتبر مؤسس فلسفة إنسانية ورائد مذهب يبشر بالتسامح والحب والتعايش بين بني البشر.
3- السؤال الثالث: بماذا يشعر من يقف أمام قبره؟
بشكل مقتضب ما جاوز الواقف أمام قبره أن يكون واحداً من خمسة: 1- رجل من المتصوفة: فهو لصاحب هذا القبر من المعظمين، فيرفع قاطنه إلى مرتبة الأولياء والأقطاب المكشوف عنهم ستر الغيب، والذين لهم كرامات وخوارق مستمرة حتى بعد مماتهم، فهو في ذلك يقف أمام رجل عظيم له سر خفي يجلب للنفس المهابة والجلالة. 2- رجل من مكفريه ومخالفيه: يرى في الشيخ أنه من أهل البدع والضلالات، فهو بذلك لزيارة القبور عامة مستنكر، ولزيارة صاحب هذا القبر خاصة مستدبر. 3- رجل من أهل التفلسف أو الاستشراق: فيرى فيه صاحب فلسفة روحية، وفكر إنساني سامٍ، فهو له مجل ومقدر، وبه مفتون ومعجب. 4- رجل في حيرة من أمره: تساوت عنده المتقابلات والمتعارضات من الحجج في صاحب هذا القبر، فتداخلت في خلجاته محبة خصال الزهد والتسامح والمحبة والورع التي عرف بها ابن عربي، مع مشاعر الازدراء والاستنكار لما بدر من أفكار وأقوال وشطحات تغرد بعيداً في ظاهرها عن محتوى الشريعة السمحاء. لذلك فإن هذا الصنف من الناس فضل الإحجام عن الخوض أو التقرير بشأن صاحب هذا القبر. 5- رجل "إمعه": ينقاد كيفما سار الناس، فليس له موقف، إن عظّم الناس صاحب هذا القبر عظّم، وإن كفّروه كفّر، وإن استدبروه استدبر.
المصادر والمراجع: 1 الفتوحاتالمكية،الجزءالرابع،الهيئةالمصريةالعامةللكتاب،ط1، ص. 370 2 الفتوحات المكية، الجزء الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 126 3 الفتوحات المكية، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 5 4 الحكيم، سعاد: المعجم الصوفي؛ الحكمة في حدود الكلمة، طباعة دندرة، الطبعة الأولى، بيروت، 1981، ص.248-249 5 نقلاً عن المرجع السابق. 6 الفتوحات المكية، الجزء الرابع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 79 7 الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 6 8 رسالة في معرفة الأقطاب، مخطوطة في المكتبة الظاهرية، دمشق، تحت الرقم (123)، ص. 117-118 9 الفتوحات المكية، الجزء الرابع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 76 10 الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 5 11 الفتوحات المكية، الجزء الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 362 12 الفتوحات المكية، الجزء الرابع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 430 13 فصوص الحكم، نشر أبو العلا عفيفي، دار الكتاب الجديد، بيروت، ص. 62 14 الفتوحات المكية، الجزء الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 573 15 الفتوحات المكية، الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 101 16 كتاب الأصطلاحات، طباعة مكتبة لبنان، بيروت، 1969، ص. 285 17 الموسوعة العربية العالمية، الجزء الأول، الطبعة الثانية، اصدار مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، 1999، ص. 713-714 18 ديوان ترجمان الأشواق، ص. 22-23 19 كتاب الخلوة (مخطوط)، دمشق، ص. 149 20 الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص. 484-485 21 كتاب وسائل السائل، ص. 25-26 22 أخرجه مسلم في صحيحه: 4/ 2075 23 انظر جامع الأصول: 4/ 386 24 الفتوحات، السفر الخامس، الفقرة 258 25 فصوص الحكم، ص. 54 26 الاصطلاحات، ص. 284 27 السكندري، ابن عطاء الله: الحكم العطائية، الحكمة رقم (4)، ص. 2 28 انظر الفتوحات، السفر الثالث، الفقرة الأولى 29 ديوان ترجمان الأشواق، ص. 43-44 30 الفتوحاتالمكية،الجزءالرابع،ص. 112
تدقيق: لجين قطب.