يشكل مبحث تحليل الخطاب أحد أهم المباحث التي انتشرت في القرن العشرين، باعتبار أنّ هذا القرن هو قرن نقد بامتياز، إذ تناسلت فيه المناهج النقدية وتطورت فيه النظريات اللغوية، وإن كان الأدب أساس كل هذه المباحث، فإن تطور النظريات لم يقف عند المادة الأدبية بل يتعداها إلى كافة الإنتاجات اللغوية الإنسانية المختلفة، وفي أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، اهتم العديد من الباحثين بتحليل خطابات المشاهير، طبعًا للطلب المتزايد على خصوصياتهم ومحاولة فهم دواخلهم وتقديمها للجمهور الفضولي المتعطش لمعرفة أخبارهم، وهذا ما جلب اهتمام دور النشر والجرائد والمجلات طمعًا في بيع أكثر وربح أغزر، و لما كان من المشاهير رجال السياسة فإنّ تحليل الخطاب السياسي أخذ اهتمامًا مضاعفًا سواء لأن مقدميه من المشاهير أو لأن الاهتمام بالشأن السياسي هو اهتمام بشأن جمعي وعام.
إن تحليل الخطاب السياسي الحديث يتعدى النظريات التقليدية التي تنهل من العلوم الأخرى، خاصة علم النفس الفرويدي التقليدي في تحليل النصوص لتنطلق من نظريات متولدة عن النظريات الحديثة اللغوية خصوصًا، باعتبار أن الخطاب السياسي هو في نهاية المطاف لغة ذات خصوصية لغوية.
إن شخصية بن كيران تعتبر بلا جدال الشخصية السياسية التي حضيت بالاهتمام الأوفر من لدن العام والخاص في بلادنا، وذلك لأسباب عدة يمكن أن نبدأها بالظروف التي جاءت فيها رئاسته للحكومة، وبكثرة خصوم وحلفاء الفكر الذي ينتمي إليه، وأيضا لطبيعة المرحلة التي تتسم بنوع من الانفتاح والحرية، ومن هنا كان لزامًا أن نمارس نوعًا من النقد المحايد على الرجل بتحليل خطابه تحليلًا "أكاديميًّا" يحاول أن ينحى منحى العلمية ويهرب من الانطباعية والذاتية التي تسيطر على اغلب منتقدي الرجل سواء مَنهم معارضوه أو حلفاؤه.
خلال المدة القصيرة لرئاسة الرجل للحكومة كان من السهل تجميع عدد كبير من الخطابات "البنكيرانية" التي يمكن الانطلاق منها لتكوين قاعدة معلوماتية ومادة خام يمكن الانطلاق منها، وهو الأمر الذي لم يكن متوفرًا من لدن سابقيه، نظرًا للغرام الذي يطبع علاقة بن كيران مع الإعلام ومع الخطابة، وإن كنت أرى في العديد من خطابات الرجل ابتعادًا عن خصائص الخطاب السياسي والتماسًا لمزيد من الخطاب الأخلاقي والخطابة الوعظية والسرد، وهي للإعلام وحين البحث مليًّا وجدتها من صميم الخطاب السياسي وليس منه فعلًا شاذًّا فقد وجدتها حاضرة بقوة عند العديد من محنكي السياسة في العالم عند تتبعي لتحاليل خطابات طوني بلير أو بوش الابن أو حتى أسامة بن لادن وبول بريمر وغيرهم كثير.
من خلال رصد مختلف الخطابات السياسية لابن كيران يمكن أن نلخص سمات خطابه السياسي في سمات محددة، يسهل على الدارس تحديدها نظرًا لسهولة استنباط خطاب الرجل وللبساطة وقلة الحنكة التي ترتسم في خطاباته، وأيضًا للانفعال الذي غالبًا ما يطبع خطابه ويصعب معه إخفاء دواخل الرجل وقراءة ما بين السطور، هذه السمات حددتها في التالي:
1) إضفاء الشرعية وتجريد الآخرين منها وذلك من خلال أمور كثيرة أهمها:
*إسباغ السلطة على الفعل ورد الفعل واستباق المعارضة من خلال استلهام الموروث والتقاليد والعادات والقوانين، والاستشهاد بأصحاب النفوذ والرموز الوطنية والدينية والتأثير الثقافي أو الفكري أو السياسي والانتماء الإيديولوجي وتجدره في الأمة ليتعدى حدود الوطن وربط فكره بفكر مشابه يلقى نجاحًا و قبولًا، فنجد الرجل يكرّر لفظة الملك أو صاحب الجلالة كثيرًا كما يكرر الآيات و الأحاديث ويقدم الأحداث التاريخية المُمَجّدة لفعله، ويربط فكره بفكر عالمي كعدالة وتنمية تركيا أو جماعة الإخوان العالمية تصريحًا وتلميحًا، كما يستشهد بالدول القوية والشخصيات العالمية الفاعلة والمؤثرة وإن لم يكن هناك علاقة قوية بين كل ما سبق والحدث المراد الاستشهاد عليه.
*إصدار الأحكام الأخلاقية وثنائيات الخير والشر والصالح والطالح والفضيلة والرذيلة والحلال والحرام، ونجد ذلك حاضرًا حينما يشير إلى الحكومات السابقة وما حاطها من فساد والإشارة إلى أحزاب وشخصيات بعينها واستفادتها من الدولة ومن أشكال الفساد المتنوعة.
*العقلنة في تقديم إحصائيات قد تكون معوّمة ولا تحمل دلالات حقيقية ومحاولة الاعتماد عليها في بناء تسلسل منطقي.
*الحكي و التفكه لإضفاء التقارب العاطفي بينه وبين المستمع والإحساس بأنه من نفس البيئة المجتمعية للمتلقي الذي يحس بالقطيعة بينه وبين عالم الساسة، وتصويره على أنه ذلك البطل الملحمي الذي تنتهي قصته بالانتصار وبالسعادة الأبدية لكل أطراف الخير التي هو زعيمها والشقاء لأطراف الشر الذين هم معارضوه في نهاية قصته.
2) الإشارات القوية في خطاب بن كيران لعنصري الزمان والمكان واللذان يحيلان على ربط علاقة بين المستمع والمتكلم في نفس الإطار المرجعي للفضاء مع إبراز مكانة الرجل كمحرر ومغير لواقع يتخبط في الرذيلة وإبراز علاقة الرجل بهذا الخلاص الممكن معه وليس مع غيره، باعتبار أن هذا الغير هو نفسه من رسم الخطوط العريضة للواقع المتردي، كل هذا في سياق عام مفاده أن الرجل جاء من نفس وسط العامة وأنه ليس من طيلة الخاصة التي حكمت منذ عهود ولم تكرس إلا الفساد بكل ألوانه وقد حان الوقت للتغيير، طبعًا على يديه.
3) يبدو عنصر التفاعل والانفصال حاضرًا في خطاب الرجل بقوة من خلال ربط علاقات بينه وبين رموز الخير والتغيير والصلاح، وربط الآخر المشار إليه بالتماسيح والعفاريت برموز الفساد والشر والرجوع لأزمنة الظلم الذي ذاق منها المواطن درعًا، كما يحاول الرجل في هذا التفاعل والانفصال طرح طرق للتفاوض وتداول الواقع ومراجعة فرضياته المهمة مع نقض ما دام خلال العقود السابقة لعهده و الاتصال وفرض ما استجد وما نسلم به نحن كطرف متلقي خلال عهده المبشر بالازدهار و التقدم.
4) يحضر عنصر التوقع لدى بن كيران بقوة بتقديمه الإجابات على كل ما يطمح إليه المواطن هذه الإجابات التي غالبًا ما تكون وعودًا وردية ونيات ستحقق في الأفق المنظور حسب زعمه وما يلزم هو الصبر وإعطاء الوقت الكافي.
5) الأنانية تبرز كضمير قوي من خلال أنا و "ديالي" و حكومتي، واستعمال صيغ الإلزام والالتزام الأخلاقي والديني والوطني والاجتماعي ومفهوم الواجب من خلال تعابير الأمر الحاضرة بقوة.
6) ثنائيات الخير والشر والخيانة والوطنية والحرية والقمع تحضر بقوة لمحاولة فصل المتلقي ودفعه إلى التخندق إما مع الخير الذي يمثله أو مع الشر الذي يمثله الآخر، دون ترك الفرصة له للاختيار وكأنه يقول له إن لم تكن معي فأنت ضدي إذًا أنت مع الفساد، وهذا يبرز عمومًا لدى كل مناضلي الحزب و الحركة إذ أن أي معارضة تتلقاها الحكومة فهي تحسب مباشرة مساعدة للمعارضة، والتي لا يجب أبدًا مد يد المساعدة لها باعتبارها محور الشر الذي يجب معارضته على طول الخط وإن ما يقدمه من الإيجابيات ما هي إلا تضليل وبالتالي فأنت ملزم على الاختيار بينهما، ولا تترك لك فرصة خارج التيارين، وهذا يجلب القوة الكبيرة للرجل باعتبار ما للتيار الآخر من إخفاقات سابقة.
7) مفهوم الأدوار كمفهوم مركزي عند بن كيران في خطابه، فهو يركز على ما يؤديه كل المشاركين في خطابه من أدوار في الخطاب ومن وظائف مختلفة سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو عسكرية أو دينية، سواء كانت هذه الأدوار حقيقية مؤداة على أرض الواقع ومؤجرأة أو مفترضة في هذه الفعاليات ولم تؤجرأ بعد، أو لن تؤجرأ نهائيًّا و هي أدوار يكرسها بقوة إلى حد القداسة كالحاكم والمحكوم والراعي والرعية والأمير والمؤمنين والرئيس والشعب والحكومة والمعارضة والمناضلين والمفسدين.
8) التعبير الإشاري والاستعاري من خلال تقديم مصطلحات معوّمة يمكن لكل واحد أن يفهمها بالشكل الذي يريد ويحيلها على شخصيات متعددة ومختلفة دون الرابط الإيديولوجي المقيد، ومن هذا التماسيح والعفاريت والمفسدون والمستفيدون من الريع والذين كانوا يستفيدون من الدولة والذين حكموا و لم يقدموا شيئًا والذي لم تكن لهم الجرأة على كذا أو كذا والذين كانوا فوق الدولة.
9) شكل الحديث عن الاختلافات العرقية والدينية بالمملكة عنصرًا ضديًّا وسلبيًّا من لدن الرجل فقد تعاطي مع قضية الأمازيغ بخطاب حمال للأوجه و كذلك مع الأقليات الدينية، مما شكل سقطات متعددة للرجل في هذا المجال.
10) تحضر المشاعر الإنسانية في خطاب بن كيران بقوة و ترتبط لديه بقوة بين الفعل و الرد الفعل السياسي، بإذكاء روح حب الوطن لديه ونزعها من معارضيه وخصومه وكذلك هو الشأن بالنسبة للغيرة على الدين والحفاظ على الحرمات والمقدسات وروح الانتماء وهي مشاعر يعزف على أوتارها لتحقيق غاياته وأهدافه، لكنه أحيانًا لا يجيدها و تنقلب ضدًّا عليه.
11) تأسيس علاقات بين الأنا كمحور عام و مكون أساس مقابل إشارات عامة نحو الآخر باعتباره منافس أو عدو مع التركيز على أن الأنا يدخل في إطارها العنصر الخيري وكل من يمثل الخير، فهو أنا جمعي لا ينفصل عن الأنا البنكيرانية المتأصلة لدى كل الشعب المظلوم.
12) الخطاب المعوّم والكلام العام حول القضايا الدقيقة ومجابهة كل تشكيك نحو سياساته بتشكيك حول السائل واستحضار ماضيه وإلجامه به باعتبار أنه يحيل على فترة لم يعمل بما ينتقد به الآن، أي أن الرجل يعيد نفس الحجر الذي يقذف به إلى خصومه.
13) الجهاز المصطلحي الذي يستخدمه بن كيران هو جهاز جديد باعتبار أنه يمتح من المرحلة الراهنة وخطاباتها الجديدة ما بعد الربيع العربي، هذا ما يبدو في الوهلة الأولى لكن المدقق يبدو له جليًّا أن الجهاز المصطلحي هو نفسه جهاز حكومة التناوب التوافقي في عهد اليوسفي من مثل التناوب التوافقي، الانتقال الديمقراطي، الاستحقاقات الانتخابية، التشريعية، التنظيمية، الحزبية، جيوب المقاومة، تخليق الحياة العامة، الأوراش الكبرى، تدبير الزمن السياسي، التنمية المستدامة، التنمية القروية، الحكامة الجيدة، حكومة الظل، مطاردة الساحرات، الخروج عن المنهجية الديمقراطية، ما فعله بن كيران أنه لبس المصطلحات لبوسًا أخلاقيًّا ودعويًّا إضافة إلى لبوس الصنم الديمقراطي الذي كانت تلبسه في عهد اليوسفي، فمحاربة الفساد هي نفسها تخليق الحياة العامة بلغة حكومة التناوب، و"عفا الله عما سلف" هي ما كانت حكومة "اليوسفي" قد قررت منذ البداية الاشتغال على ما يساعد على تخليق الحياة العامة، بدل الانشغال بما أسمته بمطاردة الساحرات، وجيوب المقاومة بدلت بالتماسيح والعفاريت وهكذا.
إن استعمال قاموس حيواني من طرف بن كيران و بعده وزراء حزبه له دلالات متعددة منها أن الرجل لا يجرؤ على الإشارة مباشرة إلى من يقصد ومنها عدم قدرته على الوصول إليهم حتى إن أشار إليهم ومنها إشعار المواطن بأنه يعيهم كما يعيهم المواطن ولا داعي لأن نسميهم وفي هذا جلب للمشاعر مع درء تهمة السب والقذف دون دلائل.
14) أزمة المرجعية في الخطاب البنكيراني تبرز من خلال تبني مرجعيات إسلاموية ديمقراطية وفي نفس الوقت هدمها بممارسات وتصرفات مناقضة تمامًا في باب الحريات والشريعة خصوصًا مما يشكل إرباكًا في خطابه، فهو من جهة يرمي بشعارات كبيرة أخلاقية بالأساس دون أن يجرؤ على تطبيقها في أرض الواقع، ولعلّ لوبي الفساد والمفسدين الذي طالما ردّده في خطاباته لم يستطع أن يواجهه إلى الآن بإجراءات ملموسة وواضحة و قد فشل في امتحانات مواجهة ضده كثيرة.
نلخص بعد كل هذا أن المشهد السياسي المغربي بقيادة السيد بن كيران يعتبر ظاهرة كلامية بارزة لم يشهدها المغرب بهذه الحدة قبل الآن، فهي تسجل سجالًا غير مسبوق بين الفرقاء السياسيين لكن يبقى الخطاب السياسي للسيد رئيس الحكومة الطاغي على المشهد باعتباره خطاب يزاوج بين العاطفية والعقلانية من جهة وبين الاستفزازية والديماغوجية من جهة أخرى، مما يجعل فهمه عصيًّا على الكل، ليس لعمقه بل لتعويمه وضبابيته التي تحيل على شيء من التخبط والانفعالية من لدن الرجل، دون إنكار أن هذا النوع من الخطاب هو صالح بامتياز لطبيعة المرحلة ، وما يشوبها من حرب كلامية بين الحكومة والمعارضات المتعددة تنقصها العقلانية والمنطق والنقد البناء، مما أحال النقاشات إلى كوميديا لدى العامة تراجيديًّا لدى الخاصة.
التدقيق اللغوي: ريم المطيري