لا أحد يعلم إلا الله مقدار الهول الذي قاساه الباقون من العرب على أرض الرعب، ساعة أغلق الستار على مأساة النكبة سنة 1948، تحت ضغط العواصف القاسية والمرعبة التي داست ترابهم الوطني وعبرت بيوتهم جميعها، وعلى هذا الأساس يمكن للمرء العربي وغيره أن يفهم مرحلة الشتات الداخلي التي تلت النكبة لبضعة أعوام تجنباً لوطأة الاحتلال الذي يدوس في طريقه كل وعي للجماهير العربية الفلسطينية، ويدمر كل حياة لها. حيث أجبرت الشخصية العربية الفلسطينية، ولم تكن تستطيع سوى ذلك، على أن تركن نزعة مقهورة الى صمت عميق لكن بوعي تتذرع به، كصدف المحار، لتحمي نفسها من بطش المحتل وتعسفه في التعامل معها. ويمكننا أن نقدر المهمة الكفاحية التي قام بها الفن الشعبي لهذه الأقلية العربية بكفاية واقتدار في مجابهة عذابات حياتهم والتصدي لها، إذا لاحظنا بدقة البداية الصعبة التي بدأ فيها المثقفون منهم مهماتهم في مجتمعاتهم القروية في مجملها. وهذا المجتمعات أخضعت لحصار سياسي واجتماعي وثقافي، وهددت من مخططات استيطانية لا ترحم أبداً، في وقت لم يبق لديها أي مفاصل ثقافية يمكن لها أن تشكل نواة لنوع جديد من الانعتاق العربي.
جرفت موجة النزوح الكبيرة سنة 1948 أجيال المثقفين والشعراء من عرب فلسطين مع من جرفت من أغلبية الشعب الفلسطيني الساحقة، وقذفت بهم خارج الوطن الأم فلسطين، ويقول الشاعر توفيق زياد في وصف هذه الظاهرة: "وسرب النسور هذا، الذي حملته العاصفة، خلف وراءه فراخاً طربي العود، بالكاد يستطيع الواحد منها أن يمسك حفنة ريح تحت جناحيه. وأكثر فراخ النسر هذه شهرة ما كان ليعلق شعره بغير ذاكرته هو، وأما اسمه فلم ير أسود على أبيض في الصحف أكثر من مرات لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة .." وعلى هذا الأساس، فقد اهتز جوهر المجتمع العربي الجديد الذي يواجه يومياً بآلة التسلط الصهيونية الى أعماقه.
"على مهلي
لأني لست كالكبريت
أضيء لمرة .. وأموت
ولكني..
كنيران المجوس: أضيء..
من مهدي
الى لحدي
ومن .. سلفي
الى .. نسلي
طويل كالمدى نفسي
وأتقن حرفة النمل
على مهلي
لأن وظيفة التاريخ..
أن يمشي كما نملي!!"
هكذا كانت وظيفة الشعراء الوطنيين مرتبطة ارتباطاً كلياً بنشاط العمل الوطني، الذي يمكن اعتباره بداية تململ الشخصية الفلسطينية ويقظتها من مرحلة الشتات الداخلي التي فرضت عليها.
ويأتي الشاعر الراحل توفيق زيادة على رأس هؤلاء الشعراء، ومنهم "حنا أبو حنا، حبيب قهوجي، عصام عباسي وجمال قعوار.."، الذين يمثلون جيل الرواد هناك وقد كان زياد بينهم الأكثر نشاطاً، وأسبقهم الى نظم الشعر في تلك الفترة، حيث نقرأ له قصيدتين هما "عبدان" و"مصر 1951" وقد نظمهما سنة 1951.
وفي هاتين القصيدتين نلمس محاولته في تفتح الذات العربية تحت نير الاحتلال على الآفاق القومية والأممية لتشهد نماذج من تمرد الشعوب الشرقية المستغلة، على ظالميها من الحكام والمستعمرين الأجانب وبعض الحكام والأنظمة العربية صنيعة الاستعمار، تعكس في القصيدة الأولى نضال شعب إيران ضد حكم الشاه. وسجل في القصيدة الثانية للشعب العربي في مصر حركته الوطنية قبيل ثورته في تموز/ يوليو 1952، وكأنه يحس الثورة دبيباً تهز الأرض تحت وقع خطاها. ويمكننا أيضاً، في هذه المرحلة المبكرة، أن نتلمس في شعر توفيق زياد بعض نوبات الشعر المقاوم من خلال روح المعارضة والاحتجاج التي تمثلها قصيدته "ضرائب"، وفيها يجسد بروح تهكمية لاذعة ظلم الاحتلال وعسفه في صوت فني أقرب الى الخفوت والهمس، مبرراً المفارقة الظالمة، ومجسداً أبعادها من خلال صورة أطفال اليهود الأغنياء، وصورة أطفال العرب الفقراء، ومن خلال المقابلة بين صور نساء أولئك المترفين، وصور نساء هؤلاء الفقراء المعوزين في صور مملوءة بالتفكير والتعبيرات الشعبية التي تثريها بدلالات خصبة موحية.
"وأطفالهم ..
ينمون داخل أقفاصهم كالدجاج
.. ونسوتنا البائسات عرايا
يلاقين من عيشهن البلايا
.. وأخبارهن "حكايا بكايا"
ونسوتهم كاسيات الدمقس
دمى للفراش
ولين المعاش"
وفي منتصف الخمسينات تنضم أصوات الشعراء الرواد لتجسد معاً صوت شخصية شعبهم الجماعية المستيقظة، أرادت به حماية ذاتها، والدفاع عن وجودها، وعن هويتها القومية، وقد أنطقها به سياسة الصهيونية القائمة على السكين والمذابح، ويأتي صوت زياد ضمن أصوات زملائه من الشعراء في هذه المرحلة عالياً ومدوياً يوزعه في مجموعة قصائد، منها ما هو قومي، يعرض فيه بعض جوانب الاستعمار الغربي للمنطقة، ومنها ما هو وطني خاص في سبيل الحفاظ على الهوية الفلسطينية، وإبراز ملامحها أمام مبارد العنصرية الصهيونية ، التي بقيت منذ قيام دولتها تنحت في لحم البقية الباقية من الفلسطينيين في أرض أجدادهم وآبائهم، محكومة بشعار "المزيد من الأراضي والأقل من العرب".
وقد تحدث عن هذه القضية، فيما بعد، الكاتب الفلسطيني نور الدين مصالحه في كتابه "أرض أكثر وعرب أقل" ، مراجعاً وموثقاً التصريحات الإسرائيلية في تلك الفترة التي كتبها زياد شعراً. في ذلك الوقت، كان من الطبيعي أن يتحسس الشاعر توفيق زياد جروح هذه الشخصية كعلامة فارقة، وليزيد مع رفاقه الشعراء في يقظتها على الواقع، وشد الانتباه إليه. ومن مظاهر جروح هذه الشخصية التي زاد دمها الساخن في يقظتها وتنبهها، ظاهرة اغتيال سلطات الاحتلال للكثيرين من الشبان العرب، وظاهرة نسف القرى العربية ومصادرة الأراضي الخاصة بالعرب، وبمقدار ما أدمت هذه الجروح جسم الشخصية الفلسطينية وقلبها، وبمقدار ما تعددت المذابح ضدها، زادت يقظتها، وعمقت وعيها على الوطن الذي ملأت الصهيونية ربوعه أطلالاً ومقابر، وبيوته بالقصص الحزينة المريرة "حتى تكاد إحداها تغرق السفينة" ولم يكن أحد يجهل، كما يقول توفيق زياد، سلسلة جرائم الاحتلال وقضاياها المتعددة، مثلما تجسدت مذبحة "كفر قاسم". ففي أول قصيدة حملت العنوان نفسه، فضح الشاعر هذه المذبحة التي رافقت العدوان الثلاثي على السويس سنة 1956، وكانت سلطات الاحتلال حاولت إخفاءها والتستر عليها فترة من الزمن، فيها أبرز صراخ المفجوع الذي لا يريد أن يصدق وقوع هذه المجزرة الفاجعة، وحشد كل عناصر المأساة، ورسم في المقطع الثاني منها زمان المجزرة ومكانها، وبعض مظاهر إعداد الجنود للمسرح، كأن بهم لوثة من جنون. "ثم استقدم الى نصه الضحايا الى الفخ المنصوب الذي يترصدهم حتى الموت، وحاول أن يتحدث عن المأساة، فعرض صور العمال العائدين بعد كدح النهار مثقلين بالكثير من الهموم الشخصية، ويحملون في صفو البسطاء وطيبتهم القليل من الطعام للصغار. يشغلهم بعض التفكير في أماني المستقبل الباسم. وقبل أن يفيقوا من هول مفاجأة رشقات الرصاص التي أحالت
"الضياء
بأعينهم
ظلمة
وفناء
...
ليحصد أجسامهم كالسنابل"
كان الموت قد مد ذراعه ليقصف خمسين روحاً منهم. ويبدو أن اشتعال المشاعر والتهابها لم يتيحا للشاعر أن يخمر التجربة الفنية في وجدانه، على الرغم من إخلاصه الذاتي للموقف والتعبير عنه، فتبين كأنه مهموم أكثر ما يكون بإعلان الجريمة وبالدعوة الى التكاتف والتوحد، وتعميق الإحساس بالمسؤولية الجماعية لدى الشعراء والناس. بقيت المعركة من اجل فلسطين والبقاء على أرضها أبرز معارك الشعراء، إذ إنهم تحملوا مع شعبهم أصناف الاضطهاد والعذاب اليومي، حتى تجسدت في وطنهم أيام اضطهاد يسوع المسيح وعذابه من قبل الجلاد نفسه، فاستحالت أرضهم غابة صلبان، نقرأ أحاسيسهم بالحصار فيها من خلال الشعر الكثير الذي قدموه. ويقدم الشاعر توفيق زياد، بتجربته النضالية الطويلة التي ولدت فيه عناداً صلداً صلادة الصخور التي في الجليل، نماذج شعرية يبدو فيها الداغية القوي، والمنظر الحكيم لصمود الشعب وإصراره ومقاومته. ففي حماسة مؤثرة كان يقول:
"كأننا عشرون مستحيل
في اللد، والرملة، والجليل
هنا.. على صدوركم
باقون كالجدار
وفي حلوقكم،
كقطعة الزجاج، كالصبار
وفي عيونكم
زوبعة من نار"
ولأنه يدرك غايات المحتل وآماله بتنظيف البلد من أهله وسكانه الأصليين، وإلحاقهم بالشعب الفلسطيني المشرد ليقطعوا الطريق على كل أمل بالعودة، فإن عناد الشاعر يأتي في مكانه الصحيح، فيحتمل جميع أصناف العذاب والتضييق والقهر في موقف من التحدي والإصرار يتصاعد فيه الى التظاهرات والى احتمال السجن، وأكثر من ذلك الى صناعة أجيال من الثوار والأطفال فبقاء الشاعر إنما هو وجود فاعل لشعب يخطط للبقاء والحياة في وطنه بوعي كامل وإصرار لا يلين، لأنه يعرف أن الأرض أرضه، ليس له على سواها أي ماض أو مستقبل.
"إنا هنا باقون
فلتشربوا البحرا ..
نحرس ظل التين والزيتون
ونزرع الأفكار، كالخمير في العجين
.. هنا .. لنا ماض .. وحاضر.. ومستقبل
.. يا جذرنا الحي تشبث
واضربي في القاع يا أصول"
وهذا المقطع هو إصرار وتأكيد من الشاعر توفيق زياد على وجود شعبه الفاعل في أرضه، وتحت حكم الغصب مثلما في قصيدتين أخريين. ففي قصيدة "أهون ألف مرة" بجسد استحالة قدرة الحكام على أن يحرفوا شعبه عن طريقه النضالية، أو أن يميتوا فيه وميض فكرة، ويجعل ذلك سابع مستحيلات أسطورية يصنفها من خلال الحكايات الشعبية وقوة احتمالها، وهو لذلك يعمل في هدوء وعلى مهل.. يضع برودة الجليد في أعصابه، وإن كانت جهنم الحمراء في قلبه.
إنه يريد أن يظل عمله مضيئاً ومشعاً لا أن يقرقع، ويتجسم قلبه الكبير في قصيدة "نيران المجوس" حيث يرتقي في نضاله وصموده الى مرتبة القديسين الثوار، فلا ييأس ولا يمل .. بل يشد من ظلمة الحياة حوله خيط ضوء دقيقاً ينسج منه حياة المستقبل في دأب النمل ومثابرته، وهو مطمئن الى النهاية، لأنه واثق بحتمية العدل التاريخي، فيخوض معركته بنفس طويل وجلد من دون أن يفقد صبره، ويعينه على ذلك تسلحه بفهم القوانين الموضوعية التي تحدد، هي وليس أي شيء عابر، وجهة التطور التلقائي للتاريخ:
على مهلي
لأني لست كالكبريت
أضيء لمرة .. وأموت
..لأن وظيفة التاريخ..
أن يمشي كما نملي!!
طغاة الأرض حضرنا نهايتهم
سنجزيهم بما أبقوا
نطيل حبالهم، لا كي نطيل حياتهم
لكن..
لتكفيهم
لينشنقوا ..!!
هذا العناد والتحدي المتفاني في حب الوطن، رضعه زياد من ثدي أمه، "ففي ثدييها سر دمارهم". وقد أرضعته الأم الفلسطينية أبناءها ليتواصل كفاحهم ونضالهم من أجل الأرض والوطن.
زادت معركة البقاء والصمود التي خاضها شعراء فلسطين ببسالة في يقظة شعبهم، ومعها بدأت شمس هذه اليقظة تسطع وعياً في نفس الشخصية الفلسطينية، فهب توفيق زياد كمن بلغ سن الرشد على الإحساس العميق باليتم، ليعيد الى أمه وجودها وكيانها الحقيقيين، فيناديها من أعماق بئر المأساة والأحزان ليذوب في جروحها كي يداري هذه الجروح في همة الفتى الناقم العنيد، وفي تفاني راع عربي في الجليل وطهره.
أجيبيني ..
أنادي جرحك المملوء ملحاً، يا فلسطيني
أناديه وأصرخ:
ذوبيني فيه .. صبيني
أنا ابنك خلفتني ها هنا المأساة،
عنقاً تحت سكين
أعيش على حفيف الشوق..
في غابات زيتوني
.. وآكل حائط الفولاذ
أشرب ريح تشرين
وأدمى وجه مغتصبي..
بشعر كالسكاكين
وإن كسر الردى ظهري،
وضعت مكانه صوانة،
من صخر حطين !!..
فلسطينية شبابتي،
عبأتها، أنفاسي الخضرا وموالي
عمود الخيمة السوداء، في الصحرا
وضجة دبكتي،
شوق التراب لأهله،
في الضفة الأخرى
وبتصاعد الوعي الجماعي بالهوية الأصلية للشخصية الفلسطينية، تستكمل النظرة في أبعاد الموقف، ويضحى لزاماً على الشعراء داخل أسوار الاحتلال أن يمدوا أنظارهم نحو خارج هذه الأسوار بحثاً عن النصف الثاني للبرتقالة الفلسطينية التي شقها سكين الاحتلال بلا رحمة وبلا ضمير، ومن دون أدنى شعور بالإنسانية. وإذا كان شعراء الأسر غنوا للبقاء والعودة معاً، ففي أواسط الستينات كانت الشخصية الفلسطينية تستكمل مقوماتها الذاتية في المنفى، وكان لهذه الحركة صدى بعيد الأثر في عرب الأسر. ولعل توفيق زياد اجتاز خطوة أبعد من على جسر العودة لملاقاة النصف الثاني من الأهل واستكمال ملامح الهوية الناقصة.
ففي "رجوعيات" يبني جسر عودته للأحبة، حين يقول:
أحبائي برمش العين،
أفرش درب عودتكم،
برمش العين
وأحضن جرحكم،
وألم شوك الدرب،
بالكفين
ومن لحمي..
سأبني جسر عودتكم،
على الشطين!!..
ويبني توفيق زياد الجسر، ويصلب نفسه على الطرف الآخر وينتظر، ويرقب هبة الريح التي تأتي من الشرق:
لعل على جناح جناحها
يأتي لنا خبر
لعله ذات يوم يهتف النهر:
تنفس..أهلك الغياب
يا مصلوب .. قد عبروا!!
إن الهوية الفلسطينية عند توفيق زياد لا تستكمل جميع ملامحها ما دام الشعب تائهاً في منافيه، ومتشبثاً بأرضه، وغريباً عن وطنه وفيه.. وقدرة توفيق زياد على تصوير إحساسه العميق بالموقف نادرة المثال، وهو بارع جداً في استخلاص لب الخبرة الفنية الشعبية، دائماً، وفي استخدام روحها الأصيل باستمرار ليرفع بهما مادة أبنيته الفنية، بعينه في ذلك عمق إحساس الفنان في داخله، وتفاني الرجل، وصدق الإنسان، ولولاهما لما صلب نفسه يرقب هبة الروح الشرقية، ينتظر عبور أهله الغياب ليلتئم نصف البرتقالة، فيعود نبض الحياة فيها من جديد، وقد بلغ إحساس الشخصية المستيقظة بهويتها الفلسطينية أن راح توفيق زياد يهجس بيوم العودة الذي جاء ناقصاً قبل أعوام، ويعيش يوم اللقاء المنتظر الجزء المنفي من شعبه. ففي قصيدة "أشد على أياديكم" بروح يحدث أهله عن صموده الجبار:
أنا ما هنت في وطني
ولا صغرت أكتافي
وقفت بوجه ظلامي
يتيماً، عارياً،
حافي
حملت دمي على كفي
وما نكست أعلامي
وصنت العشب فوق قبور أسلافي
هكذا، على أرض المحنة ينطق توفيق زياد وزملاؤه من شعراء المقاومة بلسان شعبهم المصلوب، وهم يتقدمونه الموقوف على الصليب، إيماناً منهم بأن إعدام شعب بكامله هو كلام نبوي ينبئ بقيامته.
ومن ملامح الهوية الفلسطينية التي أهتم شعراء المقاومة اهتماماً مقصوداً بإبرازها، التراث الشعبي الفلسطيني، بصفته، كما في كل شعب، يمثل أصالة الشعب وموروثه ومعدنه الحقيقي. ولم يكن اهتمامهم بهذا التراث في مجمله مجرد عمل فني جمالي يوسمون به شعرهم، وإن كان ذلك بعض غاياتهم، وإنما الغاية الأهم في عملهم كانت غاية وطنية غرفوا لأجلها من هذا التراث سلاحاً قوياً في معركة الحفاظ على الشخصية الفلسطينية، فاستلوا كثيراً من عروق هذا التراث ونصوصه التي حبكوا بها قصائدهم باستعمالهم ألفاظاً وتعبيرات شعبية كاملة، أكان في مضمونها أم في روحها وأوزانها. وقصيدة "سرحان والماسورة" واحدة من التجارب التي أجراها توفيق زياد ونسجها على نغم الحكايات الشعبية الشعرية، وفيها يحكى حكاية سرحان العلي من عرب الصقر المنتشرين في غور بيسان. وقد نسف ماسورة بترول العراق- حيفا أيام ثورة 1936 الشعبية.
ويظهر توفيق زياد في هذه القصيدة من خلال ما يسقطه من صفات على بطلها، في شخصية الرجل الخشن القريب من التوحش، كأنه من خلال بطله هذا أحد الشعراء الصعاليك. وإذا كان توفيق زياد بطل كثير من قصائده في خدمة وطنه، ممثلاً روح الصعاليك العامة في خدمة مجتمعهم، فإنه يخلع بردة البطولة في هذه القصيدة على سرحان العلي بطل الحكاية، بعد أن تخلى عن دور المتقاعس الذي لا يبالي بغير شؤون حياته الخاصة، فأصبح من أبطال الثورة الشعبية.
ويبدأ الشاعر قصيدته على غرار بعض الأساليب السينمائية من نقطة في أواخر أحداث القصة، فيبدو لنا البطل يغذ السير الجاد في طريقه على مشارف الأفق. في ليلة كليلة الشنفرى، ثم يعود الشاعر بعد ذلك الى سرحان السابق، نموذج المتقاعس عن العمل الوطني الذي أثاره ظلم الانتداب – الاستعمار البريطاني حيث كان يطغي على البلاد والعباد، فيبين كيف انفجرت من أحشاء هذا الظلم ساعة الهداية أو ميلاد البطل، التي قادت من خلال العنف والقسوة الى النهاية في صورة مأساة أمجاد بطولية، أفرخت أثرها ووقعها في شكل أفراح شعبية تزخر ببهجة الفخر والاعتزاز ويجيد الشاعر ، على عادته في تجاربه المعمقة، إجارة واضحة في أجزاء القصيدة، فيبدو العمل القصصي في قصيدته بتصاعد في اتساق وتكامل كما يبدو الشاعر أيضاً خبيراً بالنفس البشرية، وذا كفاية في استيطانها وسير أغوارها، كاشفاً عمقها الوجداني، وقادراً على تجسيد مكتشفاته فيها معتمداً على خياله الخصب، فيرسمها بالكلمات على شكل أصحابها وفي تصرفاتهم، ومن خلال تفكيرهم بدقة وصدق، يصف بطل القصيدة – القصة في طريقه الى الماسورة، ثم يصف ليلة الشنفرى وسرحان --- كالقط يرى الإبرة في الليل الكثيف.
"إنه يعرف هذي الأرض كالكف.. كما
يعرفها كلب الأثر
كانت الدنيا مطر
..كتلة صامتة كان يسير
وبعينيه سكاكين، وشر مستطير
كتلة تنحت نحتاً دربها، بين الصخور
شرها كالذئب.. للصيد الكبير
ويعكس الشاعر ما يرعى في نفس البطل من وساوس الإنسان وهواجسه التي تزيد في يقظته وحماسته:
"إيه يا سرحان..أسرع!!
إن لليل عيوناً، ربما تقرأ أعماق الضمير
وترى ما في الصدور
إيه يا سرحان..أسرع
ولتكن رجلك، فوق الدرب، منديل حرير
لم لا يخلق للإنسان، أحياناً، جناح
كي يطير..؟!
ويترك الشاعر بطل قصيدته عل الطريق، ليعرض صورته القديمة – عندما لم يكن يفهم – بدوياً ساذجاً غفلاً، لا يرى في أشد الأوقات ضيقاً غير مصالحه. ويبرز الشاعر في بطله هنا عنصر الرجل الخام من خلال الواقعية الشعبية التي يجسدها على لسانه وألسنة مخاطبيه، فتأتي صورة صادقة مقتبسة من ساحة وسط البلد، أو من ديوانها، لتصور نموذج الجهل الطيب في الإنسان البسيط، فتتعمق نفوس أمثاله في يسر وإقناع:
" هز كتفيه: أنا..؟؟ يا ناس خلوني بعيداً عن
حكايات الوطن
عندما قالوا سرحان .. يا سرحان ..
هيا للجبال
هز كتفيه:
أنا..؟؟ ما دام جلدي سالماً
مالي وما للآخرين
لعنة الله..
على شكلك..
يا كتلة طين..!!
إن أقصى حالات الشعور بالأنانية الفردية والتقاعس عن خدمة الوطن، أجاد الشاعر تجسيدها في هذا الحوار الدافق بالحيوية والمشع بالحرارة صدقاً وواقعاً، وهو ما يزيد في إحساس الانبهار عندماتأتي ساعة الهداية، التي "رأت يوماً، نجوم الظهر عيناه"، ومن بعدها "عاش سرحان العلي مطارداً عاماً ونصفاً، وثائراً "ما درى حي مقره"، وارتفع سعر رأسه الى ألف جنيه، للذي يقتله، أو يكشف سره، وتلتمع في ذهن الثائر فكرة نسف ماسورة البترول .. فيفكر
آه.. يا سرحان .. لو..لو يتفجر
.. آه يا ماسورة البترول.. يا بنت الحرام..انتظري!
ويقف بنا الشاعر الى ما قبل انفجار الماسورة ببضع ثوان، ليطلعنا على ما نشرته الصحف. وفي الحلقة الرابعة والأخيرة من القصة الشعرية حيث ترثي البطل أمه، تحيل الأم هذا الموقف على عرس شعبي تمتزج فيه العروق من الفرح بعروق من الأسى والحزن، وتأتي فرصة توفيق زياد ليفرغ على لسان أم البطل صناديق من بضاعة التراث الشعبي:
وزعوا الحلوى وأكياس الملبس للكبير والصغير
بالهنا كل الهنا يا هنية
..
شيعوا لبني عمومته..يجيئوا مثل أسراب النسور
خبروهم أنه لما أتاني عينه جمر وشر مستطير
ناوليني فرشنا الأبيض يا أماه فالأمر خطير
بعت إسورة الزفاف وبعت خاتمي الأخير
.. عاد من غاراته يرتاح في حضني الوتير
.. خبروهم أنه إن جاء ثانية أبع ثوبي الأخير
بالهنا يا أمه زفي الى أحضانه أحلى صبية
بالهنا يا /ه بيعي ثيابك واشتري له بندقية
وكما قصيدة "سرحان والماسورة" كتب الشاعر قصائد مماثلة وخلاقة، وقر فيها الكثير من الروح الدرامية وعناصرها المؤثرة. ففي قصيدة "خائف يا قمر" يكاد عنوانها يلخص مأساتها حين يصبح ضوء القمر الوديع الجميل الذي طالما جلب مشاعر الهدوء والطمأنينة الى النفوس مثاراً للخوف والقلق فمنذ مطلع قصيدته يقول:
أنا خائف يا قمر!!
من الليل .. منك.. ومن ضوئك المنكسر
بحيث يكررها الشاعر تكراراً موفقاً، مما يحمل روح المأساة، فيضفي على القصيدة جواً من التوقع الرهيب لا يلبث أن يتحقق بعودة أخيه الكبير مضرجاً بدمائه، يلقيه الجنود في وجه أمه ملفوفاً في شرشف أبيض تلونه بقع من دمائه:
خذوه ..قتلناه..عند الحدود
..بدون بكاء ..بدون بكاء
لخص توفيق زياد في شعره سيلاً من الشخصيات الشعبية التي تلتقي في الإنسان الفلسطيني: الكاتب، الشاعر، السياسي، المناضل. وإذا كان ليس من السهل أن نفصل في الواقع بين هذه الشخصيات لتلاحمها تلاحماً طبيعياً، وتكوينها شخصية بملامحها الكثيرة، فقد أنصب الحديث عنه في هذه العجالة على شخصية الشاعر فيه، ونضاله من أجل هذه الشخصية بالكلمة أترى عناصر الحياة وأكثرها قابلية للخلود. وقد نستطيع القول إننا، في خارج فلسطين، قد عرفنا شعر توفيق زياد كله أو جله، وإننا نحاول الاجتهاد والنظر فيه، لكن أحداً في الخارج لا يستطيع ادعاء معرفة الجوانب الأخرى من توفيق زياد / السيل من الشخصيات، ولعل بعض عارفيه ومعايشيه من مواطنيه يتصدى لإغناء موسوعة الشخصيات الفلسطينية بالإحاطة بسيل الشخصيات التي تلتقي في هذا الشاعر الكبير وتخلده.
وقد يكون الشاعر توفيق زياد أقوى هذه الشخصيات روافد، وأكثرها خلوداً وثراء، وبهذا يأتي على رأس شعراء المقاومة في فلسطين المحتلة، الذين طبقت شهرتهم آفاق الإنسانية بما جسدوه من الالتزام الواعي بقيمة الكلمة وفنيتها في معركة النضال في وطنهم، وبإدراك مسؤوليتها من دون أي استخفاف أو استهانة تشوب قدسية دورها، أو تهز أثر فعلها في تشجيع الأمل والحث على المقاومة، والتشوق الى تحقيق الآمال الوطنية. ربما لم يذكروا كلمة "فدائي" في قصائدهم، لكنهم يعنونها حتماً من خلال إيمانهم بتجربة الموت ، البعث التي تتسلط عليهم جميعاً، لأن من دون النضال والمقاومة والفداء والموت لن تغير أحوال وطنهم ولن يرفع الظلم عنه. لذلك فإننا نراهم، باستماتتهم في المقاومة وباستعدادهم لكل التضحيات مع الوعي العميق والتفاؤل الثوري، يملأون كثيراً من قصائدهم بهذا الموت/الحياة الأجمل، وعودة الأحباب المنفيين. وكما يرون في موتهم حياة لشعبهم، يرون في محنة شعبهم وعذابه خلاص الأمة وإحياء فلسطين بإعادة بنائها من جديد بروحها العربية الأصيلة، وبحضارتها الإنسانية العميقة. ولئن لم تبرز الدعوة الى تقويض كيان الدولة الصهيونية الساخرة في شعر هؤلاء الشعراء بحكم الأوضاع التي يعيشونها، فإننا نستطيع أن نتلمس هذه الدعوة متضمنة في شعرهم، في شكل رفضهم مضمون هذه الدولة وأسسها القائمة على العنصرية والطائفية والقهر والاغتصاب والاستيطان. فالشاعر عندما يناضل ضد هذه المقومات، التي تكون في مجموعها الدولة الصهيونية، فهو يحارب، بحق، حقيقتها الأساسية التي تميزها وبنيت عليها، ولا يمكن أن تستمر من دونها، ولا معنى لاستمرارها بفقد هذه المقومات. أما ما يمكن أن يحدث بعد ذلك، فليس من شأن الشاعر أن يقوم بحصر جزئياته وتفصيلاته لأن ذلك من شأن السياسيين.
بهذا الالتزام القائم على الوعي العميق والمسؤول تجاه القضية، تكونت لدى توفيق زياد ولأعوام كثيرة رؤية ثورية صافية وثابتة لأبعاد معركته ورسالته، ولم يكن ممكناً أن تهتز بتأثير أي طارئ مهما يكن ثقيلاً، وهو الذي يقول في مواجهة هزيمة حزيران / يونيو 1967، وما آلت إليه:
يا بلادي! أمس لم نطف على حفنة ماء
ولذا لن نغرق الساعة في حفنة ماء
من هنا مروا الى الشرق غماماً أسودا
.. من هنا، سوف يعودون، وإن طال العدى
..
لا تقولوا لي انتصرنا!!..
إن هذا النصر شر من هزيمة
نحن لا ننظر للسح، ولكنا
نرى عمق الجريمة
وهو الذي يقول أيضاً:
أي شيء
يقتل الإصرار
في شعب مكافح؟
أي حرب
قدرت يوماً، على
سرقة أوطان الشعوب؟
وطني..!! مهما نسوا
مر عليه
ألف فاتح
ثم ذابوا..
مثلما
الثلج يذوب..!!
وهو القائل أيضاً:
إن من يسلب حقاً بالقتال
كيف يحمي حقه يوماً – إذا الميزان مال؟!
ثم..ماذا بعد؟ لا أدري، ولكن
..كل ما أدريه أن الحق لا يفنى،
ولا يقوى عليه غاصبون
وعلى أرضي هذي، لم يعمر فاتحون!!..
إن ما حدث اليوم بسبب ضعف الأمة وتهافتها في هذا الزمن الرديء، هو عرض من أعراض الزمان كي يعتدل التاريخ ويأخذ سمته ومجراه المستقيم. وفي طريق عودته من أريحا، حيث تدهم توفيق زياد السياسي رائحة الدولة الفلسطينية، مات الفارس وهو --- شطر القدس، ويهجس بالوصول إليها، وخلد منه توفيق زياد / الشاعر – فهل مات فارس الجليل؟ ومتى يقوم ؟ إنه حقاً قام..