تأسست عام 1916 جمعية روسية لدراسة اللغة الشعرية، سيطلق عليها الشكلانية الروسية. ومن الضروري وصل هذه الأخيرة، بكيفية متسعة الأفق بازدهار اللسانيات البنيوية وخاصة أعمال حلقة براك. لإبراز ذاك التوجه الأدبي والجمالي الذي نشأ في العقود الثلاثة الأولى للقرن العشرين، "والذي يلح على إبراز قوانين الخطاب الأدبي الداخلية ويرفض المشهد التاريخي الذي هيمن آنذاك في حقل النقد"[1].
فلقد شغف الشكلانيون الروس بالبحث عن القوانين الداخلية التي تمكننا من القبض على العمل الأدبي، ما دام "المنطلق الطبيعي والمعقول للعمل في البحث الأدبي هو تفسير الأعمال الأدبية ذاتها وتحليلها. فبعد كل شيء، نجد أن الأعمال الأدبية ذاتها هي التنوع التي تسوغ كل اهتمام نبديه بحياة الأديب وبمحيطه الاجتماعي وبعملية التأليف الأدبي كلها[2]. لهذا تعتبر الشكلانية الروسية انعطافًا في الفكر الغربي، تظافرت مع جهود متزامنة ومتماثلة كالتكعيبية في التشكيل واللانصونية في الأدب. وغدت اتجاهات متعددة كان لها نفس المنبع – أي إعطاء الأولوية بدءًا أو ختامًا للشكل الأدبي - حول نظرية اللغة الشعرية.
هكذا، أعطيت أهمية خاصة للشعر من خلال التركيز على المكونات اللسانية. أي على شكله؛ إن شكل العمل الأدبي هو كل قيمته. ويعرف هذا عند الشكلانيون الروس بمبدأ الإحساس بالشكل. "وهي نتيجة تأتي من النظرية العامة للغشتالت التي يعتنقها الروس. فليس للتفعيلات وجود مستقل. وهي لا توجد إلا بحسب علاقتها بكامل القصيدة. والوحدة التنظيمية في الشعر تتنوع في مختلف اللغات ومختلف نظم الوزن"[3].
ضمن هذا المنظور، انكب الشكلانيون الروس على توزيع الوحدات الصوتية الصغرى داخل القصيدة، وحدود الشبكات الصوتية والأشكال التي ترتبط بوزن الشعر. ورفضوا النظر إلى التفعيلة بصفتها وحدة الإيقاع الأساسية. كما ميز هؤلاء بين الشعر والكلام اليومي: فالشعر لا يحيل على شيء خارج عنه، بينما الثاني ذو وظيفة مرجعية.
وقد توصلوا إلى ذلك من خلال تقسيمهم الكلام إلى ثلاث مستويات: مستوى اللغة المعياري، ومستوى الكلام العادي أو اليومي، ومستوى اللغة الأدبية والشعرية. فمن خلال هذه الأخيرة تبوأ مبدأ الوزن والإيقاع مكانة رفيعة في بحوثهم. "يطبق الروس في دراسة الشعر العادي الموزون، مناهج إحصائية لكشف العلاقة بين النمط وإيقاع الكلام. فهم يتصورون الشعر على أنه نمط من التناغم المحكم بين الوزن المفروض وبين الإيقاع العادي للكلام، والسبب في ذلك، كما يقولون بشكل مدهش: هو أن الشعر (عنف منظم) يرتكب بحق اللغة اليومية. وهم يميزون (الدافع الحقيقي) من النمط. فالنمط سكوني ترسيمي و(الحافز الإيقاعي) ديناميكي تقديمي[4]".
فقد جمعوا هنا بين نظرتين للإيقاع والوزن، إحداهما تستدعي دور المنشد كشرط لازم للإيقاع، بينما تصوغ الثانية الإيقاع ضمن تطور متسع، فتضمنه حتى أشكال الحركات غير المتكررة. فالوزن موضوعه أصداء الحروف المسموعة وفق التقسيم الزمني كصيغة صرفية ودلالية ملموسة بشكل مباشر في انتظامها وتنوعها. أما الإيقاع فهو تقسيم للزمن بالنغم موضوعه الصوت من جهة تأثيره في النفس. متغير وغير مرتبط بالصيغة الصرفية بل ببناء القصيدة وطريقة تركيبها. غير محسوس إلا بدرجات صوتية محددة حيث يمثل البنية الإيقاعية الكلية للنص الشعري." إلا أن ما هو أكثر أهمية من ذلك أن كل إنشاد للقصيدة هو أكثر من القصيدة الأصلية. فكل أداء يحوي عناصر خارجية عن القصيدة كما يحوي خواص التلفظ وطبقة الصوت والتوقيت وتوزيع النبرات – وهي عناصر إما أن تحددها شخصية المنشد أو أنها أعراض ووسائل جاءت من تفسيره للقصيدة[5].
إن الإيقاع يضيف إلى نمطية الوزن علاقات أخرى بين مستويات النص الشعري الصوتية والصرفية والدلالية والتركيبية، يحكمها التناوب بمظاهرها المختلفة. "إذ لا بد أنها تلونت بفردية المؤدي الذي يضيف إليها تفاصيل ملموسة في التوقيع والترجيع والتنغيم ... إلخ"[6].فمبدأ الإحساس بالشكل في النص الشعري الواحد، تتحقق فيه الفنية بمقدار ما يتردد على إلقائه أو إنشاده من الأشخاص والحالات.
وعلى صعيد الدلالة والمعجم، جاء الشكلانيون الروس بمصطلح التغريب. يتضافر فيه الإيقاع - في مستواه الصوتي - مع الصورة الشعرية لخلق مبدأ الإحساس بالشكل. ٳذ يدعو الشكلانيون إلى التجديد اللغوي والخروج عن الجمود الذي ران على اللغة طوال المذهب الكلاسيكي، "بزيادة نظام المدخول التصوري من جانب الأديب المبدع. وهذا فإن التغريب لا يعني بالضرورة عند شلوفسكي كسر ألفة مفردة اللغة بل كسر ألفة الأشياء ذاتها"[7].
والواقع أن التغريب ذو ارتباط أيضا بالنظرة الشكلانية لحركة الأشكال الأدبية. وهكذا، وتماشيًا مع مبدأ الإحساس بالشكل والإيقاع والوزن وقانون الإغراب. اهتم الشكلانيون بالأشكال والأعمال الأقل قيمة تاركين أهمها، لأنها بحكم العادة استنفذت ودخلت في باب المألوف والعادي.
وعلاوة على ذلك، انكب الشكلانيون على تشييد نمذجة للحكايات انطلاقًا من الأشكال البلاغية. حينما سعى بعضهم إلى وضع نحو لبعض أجناس النثر على غرار نحو الجملة. على اعتبار أن القصة مثلاً، شبيهة في ترتيب معالمها بالجملة في ترتيب كلماتها. ومع هذا يبقى الفرق بين دراسة الجملة ودراسة الحكاية واضحًا، حيث أن دراسة الحكاية عند الشكلانيين خاصة، تهتم بتبيان الارتباط السببي أو المنطقي بين أجزائها.
أما الرائد الفعلي في هذا المجال فهو فلاديمير بروب الذي حلل في كتابه (علم تشكل الحكاية)، الحكايات إلى وحدات ووظائف، بتوجيه اهتمامه إلى الأحداث بناء على سيادة الاعتقال القائل: أن الشخصيات تتغير باستمرار، ولكن الأحداث في الحكاية الشعبية الروسية محدودة. وقد استعرضها في مائة حكاية فوجدها لا تزيد عن واحد وثلاثين حدثًا بارزًا أو إحدى وثلاثين وظيفة كوظيفة الغياب والفقد ... ويعرف فلاديمير بروب الوظيفة "بعمل الشخصية من وجهة نظر دلالته بواسطة سياق محكي"[8]، استخلصت بعد مقارنة وتفريد البنية المنطقية لمئات وآلاف الحالات. وبغية توخي الدقة التامة، يتبنى الباحث مصطلح (نضد) الذي يقصد به "تتابع الوظائف كما تقدمه لنا الحكاية ذاتها. إن الخطاطة التي نستخلصها منها ليست نموذجًا مثاليًّا ولا إعادة بناء وحيدة كانت موجودة في وقت ما ... إنها خطاطة النضد الوحيدة التي هي أساس الحكايات العجيبة"[9]. من هنا يسترفد بروب مصطلح (مدار) للدلالة على "مجموع الأعمال و الأحداث التي تتطور حسيا في مجرى الحكي"13. فيصبح النضد كالواحد الكثير في مرائي مرياه: فلمدرات عديدة نضد واحد كعامل ثابت، بينما المدار هو عامل متغير. طبقا لهذا المعطى التصوري يمكننا إطلاق تسمية بنية الحكاية على: مدار+ نضد. فالمدار هو المحتوى في حين نجد النضد" يدخل في شكل الإنتاج النثري. من هذه الوجهة من النظر، قد يندمج العديد من المحتويات في شكل واحد"14. إنه مجموعة من القوانين والقواعد الشكلية الضابطة لسيروة الحكي: "إن لدينا هنا قوانين شكلية (النضد) هي من الصرامة بحيث يدل جهلها على ارتكاب أخطاء فاحشة ... هذا (أي المحتوى) لا يمكن تحليله علميًّا وموضوعيًّا إلا بعد أن يتم توضيح القوانين الشكلية للإنتاج الفني."15
ويقر بروب أن تحديد الوظائف هو ثمرة المقارنة والتحليل المفصل لمادة الحكاية التي يتكون جسمها من أجزاء (Episodes)، وهذه تبنى من ثلاث مقطوعات séquences:
تدهور ← تحسن.
استحقاق ← جزاء.
ذنب ← عقوبة.
ولقد أفاد من هذا القالب الأساسي للحكاية السيمائيون البنيويون لاحقًا في تحليل الحكاية العجيبة. نظير ما فعله كلود بريمون حينما استخلص أربعة أنماط للتحليل المرفولوجي للحكاية العجيبة الفرنسية*.
وفوق ذلك، يفصل الشكلانيون الروس بين الحكاية (القصة) والبنية السردية (الخطاب). فالأولى تتعلق بالأحداث والأشخاص في فعلهم وتفاعلهم، وترتبط الثانية بالطريقة التي بواسطتها يتم إيصال القصة والتعبير عنها. هكذا يرى توماشيفسكي "أن البنية السردية(Sujet) هي العقدة معروضة من خلال وجهة نظر أو (بؤرة سرد). أما الحكاية فيمكن أن يقال أنها تجريد من "المادة الخام" للقصص (تجربة الكاتب وقراءته...إلخ). والبنية السردية تجريد من الحكاية أو من الأفضل أن نقول أنها تركيز أكثر حدة للرِؤية القصصية" 16.
لقد كانت تعيينات ومبادئ الشكلانية الروسية ثورة في مجال الأدب، وخروجًا عن التعريف الكلاسيكي. وفي هذا الصدد يجمل إيخنباوم أهم المحطات التي مر بها النقد الشكلاني في أربع محطات هي:
1– "إقامة التقابل بين اللغة اليومية واللغة الشعرية. وما استتبع ذلك من نتائج ودعوات إلى إقامة بلاغة جديدة تضاف إلى البويطيقا.
2– انطلاقًا من المفهوم العام للشكل بمعناه الجديد، تم التوصل إلى مفهوم النسق ومفهوم الوظيفة.
3– انطلاقًا من التقابل بين الإيقاع الشعري والوزن تم التوصل إلى إدراك الشعر كشكل متميز للخطاب يتوفر على خصائصه اللسانية المتميزة (نظم- معجم- دلالة).
4– انطلاقًا من تحديد مفهوم النسق والوظيفية ثم الانتقال تصور جديد لتطور الأشكال التاريخية17.
خلاصة بالنسبة لما يقرب نظريات الشكلانية الروسية من الخطاب هو اهتمامهم بمسألة الأدبية (علم الأدب) "إن موضوع العلم الأدبي يجب أن يكون دراسة الخصيصات النوعية للموضوعات الأدبية التي تميزها عن كل مادة أخرى. وهذا باستقلال تام عن كون هذه المادة تستطيع بواسطة بعض ملامحها الثانوية أن تعطي مبررًا لاستعمالها في علوم أخرى كموضوع مساعد"18.
وبتعبير أدق، سيكون موضوع الأدبية هذه المرة هو الخطاب الأدبي. "إن ما تبحث عنه البويطيقا هو خصائص هذا الكتاب الخاص الذي هو الخطاب الأدبي".19
[1]- جان لوي كابانس. (النقد الأدبي والعلوم الإنسانية). ترجمة عبد الجليل بن مجمد الأزدي. دار النشر الملتقى. الطبعة 1 – 2002 (الصفحة 105).
[2]- رينيه ويليك.أوستين وارين :(نظرية الأدب) –ترجمة محي الدين صبحي، مراجعة: حسام الخطيب. المؤسسة العربية الدراسات والنشر / ط.3 )لصفحة 145).
[3]- المرجع نفسه )الصفحة 176).
[4]- المرجع نفسه )الصفحة 176).
[5]- المرجع نفسه )الصفحة 152).
[6]- المرجع نفسه )الصفحة 152).
[7]- د عبد العزيز حمودة، (المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك). عالم المعرفة العدد 232.) الصفحة 128).
[8]- كلود ليفي ستراوش. فلاديمير بروب: (مساجلة بصدد تشكل الحكاية.) . ترجمة: محمد معتصم. الناشر عيون المقالات. الطبعة1-1988 (الصفحة (74
14- المرجع نفسه)الصفحة 80).
15- المرجع نفسه) الصفحة 81).
*- انظر كتاب ؛LAROUSSE : Sémiotique narrative et textuelle,1973.(de la page 96 à la page 121)
16 - المرجع نفسه) الصفحتين 228 -229).
17- سعيد يقطين: (تحليل الخطاب الروائي). المركز الثقافي العربي الدار البيضاء. الطبعة الثالثة 1997 )الصفحتين 28 - 29).
18– المرجع نفسه (الصفحة 13).
19- المرجع نفسه) الصفحة 14).