حوار في حضرة النقد مع الدكتورة ديانا رحيّل

لا تنفصل صورتها عن كتاباتها؛ فهي ناطقة بالصراحة والجدية، ورغم قلة المادة العلمية المطروحة عنها، إلا أن قراءة مقال واحد لها فيما يشبه الدراسة، بألفاظها المحكمة، وأهدافها الممنهجة قد أفاد كثيرًا في استكشاف مدى ما تتميز به من علمية منهجية نظرية، وخبرة واحترافية تطبيقية.. ولمعرفة الأكثر والأعمق حول بعض القضايا النقدية، والأدبية، والحياتية الأخرى، كان هذا الحوار مع الدكتورة ديانا رحيّل، أستاذ النقد الأدبي المساعد:
- ما لا نعرفه عن الدكتورة ديانا رحيّل؟ عن الوطن؟
- أكاديمية أردنية، حاصلة على دكتوراه لغة عربية، تخصص أدب ونقد، من جامعة اليرموك سنة 2013، وماجستير لغة عربية، تخصص أدب وتحقيق التراث، من الجامعة الأردنية سنة 2009. أؤمن أن العلم هو الإمكانية الكبرى لبناء الإنسان، ملحة في الدعوة إلى الثقافة والكتاب، مقتنعة بأن الأمر ضروري لتحقيق التحرر الفكري وبناء الشخصية. أما وطني الأردن، فله عشقي على الدوام، حاضن للروح، دعواتي بألا يريني الله بأسًا به.


- كلنا نتمنى للأردن ولكل الدول العربية كل خير، ولكن لدي ملاحظة استوقفتني، لماذا لم تحفل الشبكة العنكبوتية بكتبك، ودراساتك، ولقاءاتك؟ حتى أطروحاتك في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ماذا كان موضوعهما؟
- منذ تخرجي من الدكتوراه العام الماضي بدأت أكتب قراءات نقدية لبعض الأعمال التي وجدت فيها زوايا أحب البحث فيها. والناقد الذي يريد أن يكون مبدعًا، يحتاج للقراءة باستمرار لصقل موهبته النقدية، فالدكتوراه لا تصنع ناقدًا، بل هو من يصنع نفسه، بالقراءة ثم القراءة ثم القراءة، وأيضًا القارئ ليس ساذجًا، بل يستطيع أن يميز الناقد الحق من غيره، لذلك أقول أنني ما زلت في طور القراءة، لكن أكتب بعض القراءات وأنشرها في صحيفة الدستور الأردنية وبعض المواقع الإلكترونية. أما أطروحة الدكتوراه التي ستصدر قريبًا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، وعنوانها: "بنت الشاطئ ودراسة التراث الأدبي وتحقيقه"، فقد بينت فيها جهود الدكتورة عائشة عبد الرحمن في خدمة التراث، وما قدمته من تحقيقات ملتزمة فيها بالمنهج العلمي الدقيق. أما رسالة الماجستير التي صدرت عن دار أروقة للنشر والتوزيع سنة 2013، فهي بعنوان: "الفصول المختارة من كتب أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، لحمزة بن الحسن الأصفهاني - دراسة وتحقيق"، وهي عبارة عن رسائل للجاحظ جديدة تُنشر لأول مرة، غير تلك التي نشرها عبد السلام هارون، وحسن السندوبي، والحاجري، وعبيد الله بن حسان، وقدمت دراسة لمضمون هذه الرسائل.

- خبر جيد برسائل للجاحظ جديدة، ولكن من الأساتذة الذين تأثرتِ بهم بشكل غير مباشر، أو من اتصلتِ بهم وكان لهم جميعا أثر في حياتك؟
- تأثرت بمشرفي في مرحلة الدكتوراه، الأستاذ الدكتور يوسف بكار، تعلمت منه الكثير. وتأثرت بشكل غير مباشر بالأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، اطلعت على أغلب تحقيقاته، لفتني سعة اطلاعه. أما من يؤثر بي بكل كلمة كتبها فهو إدوارد سعيد، مفكر عزَّ تكراره.

- المفكر الراحل إدوارد سعيد، صدقتِ فهو رجل متفرد بحق، وما دام الأمر كذلك فلماذا لم تضعي كتابًا حتى الآن في النقد الأدبي الحديث يواكب المد الثوري العربي الحادث الآن؟
- لأنني ما زلت حديثة العهد في مجال النقد، لا أملك رصيدًا من ثراء الخبرة، ما يؤهلني لنصح كاتب أو ناقد، أو وضع أسس للنقد، لكن في المستقبل القريب إن شاء الله، سيكون عبارة عن موقفي تجاه الأعمال النقدية التي قرأتها، وسأشدد على حق الكاتب المغمور، الذي لم يُعرف بعد في الوسط الأدبي، في التعريف بعمله إن كان جادًا، لأن بعض النقاد يلجأون للكتابة عن الكتاب المعروفين، ويهملون الكتاب الجدد.

- ما شاء الله! صراحة تحسدين عليها دكتورة ديانا، ولكن هل يخاف الناقد المبدع من الانتقاد؟
- يجب أن يقتنع الجميع بأن الاختلاف في الأدب يجب أن يكون اختلاف تكامل وليس اختلاف تضاد، والناقد إذا تحرى الصدق في عمله النقدي، فلن يخشى النقد، وعليه أن يحترم الاختلاف، فليس عيبًا أن يختلف في رؤية أو رأي، لكن العيب أن يدين الآخر لمجرد اختلافه عنه. والأصل النقدي الذي يحرك النقد من الفكرة إلى الفعل هو الشعور العملي لما وراء النقد من فائدة (للمستمع/القارئ) لاحقًا دون تعسف نقدي، وقصدية ملحة تسعى خلف الإجراء النقدي وتجعلها غايته.

- هل الناقد المبدع يؤازر ويدعم نوع الأدب الذي يمارسه فقط كما قال ت.س إليوت؟
- إذا كان مبدعًا فلا يقتصر عمله النقدي على جنس أدبي، فالناقد الحقيقي يتعامل مع كل الأجناس الأدبية، بمبدأ العمل الأدبي بما فيه والناقد بما لديه، لكن قد يجذبه الشعر مثلاً فيخصه بقراءات أكثر، لكن دون نبذ الأجناس الأخرى، لأنها جميعا تصدر عن تجربة الشاعر الذاتية.

- حتى الآن يحاول أكثر من أستاذ في النقد البحث عن نظرية عربية نقدية خالصة، فما العوائق التي تمنع من هذا من وجهة نظركم كأستاذ للنقد؟
- إن النقد الرصين هو ما يعوزنا لتغيير الخارطة الثقافية، وتهميش كثير من قناعاتنا (ذات الطبع المنتصر لغيره)، وتسييد الاعتراف بالمنجز على حقيقته الأصيلة لا على ما نحكم عليه ارتهانًا على الشعور. وأظن أنه ليس بالإمكان وضع نظرية في النقد الأدبي محدودة بشروط معينة، لأن كل عمل فني يحدد المنهج والأحكام التي تطبق عليه، وتختلف من جنس أدبي إلى آخر، وأيضًا من عمل أدبي إلى آخر. ولكن قد تكون خطوط عامة، وهي التي أوجزها الدكتور إحسان عباس رحمه الله، بعائقين: الأول: عدم امتلاك الناقد للإحساس النقدي، والآخر: اختلاف المنابع الثقافية واختلاف المستويات الثقافية، وحدَّة الانقسامات الجزئية في إيديولوجيات كثيرًا ما تكون متقاربة.

- هل نحن كعرب متخلفون في النقد عن الغرب؟
- لا لا، لكن لم نتقن بعد ثقافة النقد، لا نزال نعد النقد قدحًا في شخص الكاتب، وتقليلاً من شأنه، لذلك ندعو دومًا الكاتب إلى أن يتحلى بسعة صدر، ويتقبل النقد ويأخذ به، ويتدارك هفواته بالقراءة، لأن النقد يرفد العمل الأدبي ولا يقلل من شأنه.

- من وجهة نظر من يرفض أن يكون للناقد الأدبي شأن بالسياسة والأحداث الجارية لاختلاف الأدوات بين النقدين، بينما هناك من ينخرط فيه حتى صار قضيته، مع أي الرأيين تقف الدكتورة ديانا؟
- أنا مع أن يكون للناقد شأن بالسياسة والأحداث الجارية، فكثير من الإبداع الأدبي مشتبك بالهم الوطني. والنقد موكول له أن ينتج الأسئلة التي ترافق حالة الأدب، ويقترح مقاربات لمختلف الظواهر التي تحيط بالأدب، من تحولات تاريخية، واجتماعية، وسياسية. والنقد هو شكل من التفكير في الممارسة الأدبية، وفي سياق تلقيها، وفي شروط محيطها. والنقد خطاب منتج للمعرفة، يثير الأسئلة حول وضعية الأدب في الممارسة والقراءة، وفي التعليم والثقافة، وفي السياسة والمجتمع، فالنقد ليس مجرد قراءات، بل القراءات ما هي إلا عنصر من بين عناصر أخرى تشكل الخطاب النقدي الذي يؤسس في النهاية لرؤية فكرية، فالنقد ثقافة ورؤية.

- من خلال مقالتك العميقة "العمل الأدبي ما بين الناقد والكاتب" وضعتِ يدكِ على أوجاع مفصلية في النقد العربي ولكنكِ شخصت الداء ولم تصفي الدواء؟
- جاءت هذه المقالة كرد فعل، بعد اطلاعي على قراءات نقدية عدة لمجموعة من الأعمال الأدبية، وكانت القراءة جيدة، أما العمل الأدبي فضعيف وركيك ولا يستحق القراءة العادية، فكيف بالقراءة النقدية؟! وخصوصًا أنها كانت من ناقد محنك، له باع في النقد، دفعني هذا الأمر للكتابة عن ثقافة النقد، وتعرية بعض النقاد الذين أسميتهم "المؤلفة أقلامهم"، يخونون أقلامهم لأجل مصلحة شخصية، وكان الخاسر الأكبر بذلك هو النقد. الدواء الشافي هو أن يمنح الناقد نفسه مساحة كافية من الحرية، وتقبل الآخر، وعليه ألا يتجاهل الحقائق، أو يتعصب لرأي، أو يهمش آراء الآخرين، وألا يشهِّر بالآخرين كي يشتهر على حسابهم. فالناقد بما يملكه من أدوات تؤهله دون غيره لكشف جوانب الإبداع في العمل الأدبي، بعيدًا عن الشللية، أو التصادم، أو المحاباة.

- من أكثر أمراض المجتمع الأدبي العربي (الشللية) فهل ما زالت تقف عائقًا أمام ترسيخ ثقافة النقد؟
- في أكثرها نعم للأسف، لأن بعض النقاد يعتمدون أسلوب المحاباة في نقدهم، يغالون في مدح عمل معين رغم رداءته، ويقينه من ذلك، وهذا موجود ونقرأ عنه، في المقابل يهمل بعض الأعمال الأدبية الجادة التي تستحق القراءة، لأن هذه الفئة من النقاد يمارسون وظيفتهم النقدية اعتبارًا للعلاقة بينه وبين الكاتب، فأعمال أصدقائه يعمل على قراءتها ونقدها نقدًا إيجابيًا، مهما كان مستواها الإبداعي، ويجعل منه مبدعًا وخلاقًا، ويصنع من أشباه الشعراء والكتاب رموزًا في الشعر والأدب، ولكن حين يقرأ عملاً لآخر لا يعرفه، يكيل له قدحًا وذمًا. لكن لا نعدم الخير في الفئة الجادة من النقاد، الذين يقومون بجهود رائعة من أجل ترسيخ ثقافة النقد، بعيدًا عن كل الضغوط، لكنها غير كافية، نحتاج مزيدًا من الجهد، وتوسيع قاعدة العمل.

- ما معالم الصحوة الأدبية التي دعوت إليها؟
- الصحوة هي أن نعيد للأدب هيبته، وللعقول عقلانيتها، فالأدب الآن مليء بالغث والسمين، ويدور كثير من اللغط حوله في وسائل الإعلام المختلفة، ويقع الأمر على عاتق الكاتب والناقد على حد سواء؛ فالكاتب الذي يمتلك رغبة في الكتابة عليه أن يقرن رغبته هذه بأسلوب أدبي رصين لغة ومضمونًا، رغم أننا لا نملك أن نمنع أحدهم من الكتابة، لكن عليه أن يعي ذلك تمامًا، فالكتابة المبدعة لا تأتي من فراغ، ولا تستجيب لدواعي العشوائية من الكيف، أما إن كان يبوح للورق، فعليه أن يعرف أن هذا لن يخلق منه مبدعًا. أما الناقد فعليه أن يقدم نقده بأسلوب حضاري يقوم على الصدق، والرغبة في الإصلاح، وليس ذلك الذي يقوم على الغلو في التأويل، والتهويل في الاستنتاج، ويحترم تعددية الرأي. وأيضًا نريد صحوة أدبية تنتهي معها العلاقة المأزومة والتصادمية بين الناقد والكاتب، التي تصل إلى درجة القطيعة بينهما، وهذا كله يعتمد على ترسيخ ثقافة تقبل الآخر.

- هل تبدو في الأفق بوادر جيدة لخروج جيل مبدع قوي، وجيل آخر ناقد واعٍ في عالمنا العربي؟
- لا أنكر وجود عدد من النقاد الذين لا يزالون محافظين على دور الناقد ورسالة النقد، ولم ينجرفوا في الفوضى النقدية، فلو نهض كل ناقد للنقد الرصين للأدب شعرًا ونثرًا، لاختلفت حسابات كثيرة. ولكن يظل الأمل معقودًا على جيل جديد من شباب النقاد.

التدقيق اللغوي: أنس جودة عبد التواب.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية