يتميز الشاعر والروائي أحمد سامي خاطر بأسلوب شعري رهيف وعميق في الوقت ذاته يلحظه المتابع والقارئ المثابر لديوانيه ( أيها القط العجوز الذي بجواري ) و ( السطوح الملساء ) وقد انعكس هذا الأسلوب على أعماله النثرية كما سنلاحظ في روايته التي بين أيدينا الآن ( براء الخاطري ) . وهي العمل الأول لكاتبنا في مجال النثر الروائي ، وقد صدرت الرواية عن دائرة الثقافة والإعلام بحكومة الشارقة بالإمارات العربية ، وبعد فوزها بالمركز الثالث على مستوي الوطن العربي في مسابقة جائزة أمانة حكومة الشارقة للإبداع العربي ، ولأحمد سامي خاطر رواية أخري قيد النشر بالهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان (جس المالح ) هذا إلي جانب أعمال أخري قيد النشر أيضاً ما بين كتابات نقدية وكتابات للطفل وقصص قصيرة ، أي إننا أمام كاتب شاعر وأديب متعدد المواهب ، وغزير الإنتاج أيضاً .

وأول ما يلفت النظر في رواية اليوم ، ذلك العنوان الذي يضعه المؤلف على غلاف الرواية (( براء الخاطري )) إنه اسم أحد شخصيات الرواية بل أهم شخصيات الرواية التي تدور حولها .. أو تنتهي إليها معظم الأحداث ، مما يشعر القارئ أو المتلقي أنه أمام رواية سيرية ، تقوم على تتبع سيرة حياة شخص ما ، ولعل في ذلك جزء من الحقيقة ، بيد أن الرواية ليست كذلك .

وربما جعل الكاتب "براء الخاطري" عنواناً للرواية على اعتبار أنها شخصية ترقي إلي مستوي الرمز الأدبي ، فيمكن أن نقول أن (براء) رمز للنقاء والصفاء والسلام والخير والمحبة إلي جانب تميزه بقدرات خارقة تجعله يقترب من مرتبة القديسين والأنبياء فثمة تماس بين شخصية ( براء ) وشخصيتي المسيح وموسي عليهما السلام ، وجهاد النبي محمد (ص) في سبيل دعوته المحمدية ، إضافة إلي هذا الحس الصوفي الذي يلفف معظم الشخصيات تقريبا وليس براء فحسب .

يمكن ملاحظة تماس براء مع شخصية المسيح منذ الصفحة الأولي من الرواية ، فنقرأ العبارة التالية على لسان (الشيخ المكرمي) ( .. .. وأسفل الجبل نفسه الذي شهد مخاض أمك ، وهي تنتبذ بك مكاناً شرقياً عند الترعة الرائقة ، وتضعك في أمان السماء ) .

إن ميلاد براء هنا يذكرنا بميلاد المسيح عليه السلام .

أما اقترابه أو تماسه مع شخصية موسي عليه السلام فيمكن ملاحظته في تعلق براء بالحكيم (ورد بن سليمان) وتعجله المعرفة والوصول إلي الحقيقة ، فنقرأ على سبيل المثال الحوار التالي بين (ورد) و ( براء) :

( .. أردف للهواء جملةً :

إن أولي درجات الترقي لتحصيل الحكمة أن تسمع بلا أذن وتتكلم بغير لسان ، ومنطوق القول منك هو زنة بين عقلك وقلبك معاً .

علمت في الحال أنه يأمرني بالتزام الصمت فلم أنطق بحرفٍ حتى وصلنا إلي مشارف العواضية ) ص74-75

فهذا الحوار ربما أشار في طياته إلي رحلة موسي والخضر عليها السلام

أما تماسه مع شخصية النبي (ص) فإنه يتمثل في حرص براء على نفاذ دعوته إلي جانب كثير من الإشارات والأدعية المستقاة أساساً من كلم النبي (ص) .

وبالنسبة للحس الصوفي في الشخصية فواضح ، ويكاد يكون هو المظهر الأساسي ، فبراء هو نبوءة الشيخ ( أبو ركن المكرمي ) ولكنه في ذات الوقت تلميذه وتلميذ تلامذته (ورد) و(الخاطري الأب)

ولا تقف شخصية براء عند مستوي الرمز فحسب ، إذ أنه على مستوي الأحداث يمثل محور الحدث الرئيسي فيكاد ييستأثر بمعظم الأحداث فلا يخلو فصل من فصول الرواية الإحدى والعشرين من ذكر أو قول أو فعل يختص به ، بل إن الرواية لتبدأ به وتنتهي به أيضاً ، إنها سيرة ترقي (براء) وتطوره عبر مدارج الوصول الصوفي .

ومع ذلك أجدني غير ميال لوسم الرواية برواية السيرة الذاتية ، ذلك لأن الأحداث وإن ركزت ودارت حول براء أو بالضبط تكوين براء لم تتجاهل الشخصيات الأخرى ، فهناك الشيخ ركن المكرمي ، وسليمان الخاطري ، وورد بن سليمان ، وحمدة ، وعطفة وعمَّار السوقي ، وشقراء الجبل ، وهذه الشخصيات جميعاً تمثل جانب براء ، جانب الخير والطهر والسلام ، وذلك في مقابلة مع السوقي الكبير وأعوانه الذين يمثلون الجانب الآخر من الشر وحزبه ، إن الرواية باختصار شديد تصور لنا في بساطة وعمق ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر ، بين الخواطرة والسوقة ، وقد حاول الكاتب ولعله نجح في ذلك ، على الرغم من لغته الشعرية السامقة وجو الرواية الصوفي أن يقدم للصراع أرضية واقعية ، فحصر الصراع بين عائلتي الخواطرة والسوقة يعاونهم العبيد من البربر فوق أرض العواضية ، ولكي يعطي هذا الصراع بعداً تاريخياً يعمق صدق الواقع استدعي أسطورة شعبية سائدة في القرى الريفية ألا وهي أسطورة الطاحون الذي لا يدار إلا بصبغ سيوره بالدم البشري ، يقد م إليه كقربان كل عام ، وقد برع الكاتب في كشف زيف هذه الأسطورة مؤكداً خداع وشرور الجنس السوقي ؛ حيث ترهيب الناس وتخويفهم لإذلالهم من ناحية ، وتمكنهم من السيطرة عليهم من ناحية أخري بامتلاكهم للطاحون ، إن الأسطورة هنا تصل إلي مرتبة الديانة التي يأتي براء ليهدمها ويقدم بديلاً عنها ديانة أخري قوامها العدل والطهر والخير والسلام .

على حين نجد المؤلف يستدعي تاريخ الخواطرة فيجعلهم يصلون بنسبهم إلي النبي (ص) يتضح ذلك عندما يثور سليمان الخاطري فيقتل ثلاثة من رجال السوقة وثلاثة من نسائهم ليس لمجرد ارتكابهم الفاحشة في وضح النهار ولكن لأن أحد هؤلاء السوقة قام بافتراش العقال الخاطري لتتم عليه ممارسة البغاء ، فكان ذلك بمثابة المثير الذي دفع سليمان لقتلهم جميعاً .

إ ن الرواية ترقي في رمزيتها لاستيعاب الواقع المعاصر (الآني ) ، فيمكن لنا اعتبار السوقة رمزاً لكل طبقة حاكمة فاسدة مخادعة وغير شرعية في ذات الوقت ، لذلك يجب مقاومتهم وكشف زيفهم للشعب .

إن براء الخاطري رمز لداعية السلام والأمان وانتصار القيمة والمثل ، لذلك لا نعجب عندما ينجذب إليه بعض الشخوص من الأعداء أو من المعسكر الآخر لهذه الرواية / العالم ، فينضم إليه من السوقة ( صفوان ) ومن العبيد ( بشير البربري ) بعد أن رأيا منه ما جعلاهما يؤمنان به فينحازان إليه ، وينضمان لجانب الخواطرة عند ما تدور العركة بين الفريقين في العواضية .

إن شخصيات مثل الخاطري و سليمان و ورد و الشيخ المكرمي و عطفة وعمار السوقي ما هي إلا شخصيات مكملة لشخصية براء ، فبوحها هو تقريباً بوح هذا الصبي براء ، وهدفها هو هدفه في الوصول إلي صيغة أفضل للحياة من خلال معطيات السلام والمحبة والطهارة والخير .

وكون رواية ( براء الخاطري) ليست رواية سيرية يسلمنا إلي الحديث عن بناء الرواية فأقول إنه من الصعب أن تضع هذه الرواية تحت أي بناء تقليدي ، كالبناء المتتابع أو المتوازي مثلاً ، إن بناء الرواية هنا بناء خاص ذلك لأن الكاتب هنا يتخلى عن وسائل القص التقليدي وعناصره ، فالرواية لدي أحمد سامي خاطر ، مزيج من القصيدة والدراما والقصة القصيرة والسيمفونية ، حيث تمتزج الأنواع الأدبية الثلاثة فيختلط الدرامي بالملحمي بالغنائي في هذا العمل ، إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أن رواية براء الخاطري تعتمد بناء الرواية الغنائية حيث " تتخذ الرواية شكلاً فريداً يتخطى الحركة العرضية والطارئة للسرد ضمن إطار القصة إنها جنس هجين يستعمل الرواية للتقرب من وظيفة القصيدة "(1) ، ولا أغالي إذا قلت أن براء الخاطري تتجاوز بناء الرواية الغنائية ، فهي لا تستعين بتقنيات الشعر فحسب ، لكن تعتمد أيضاً بناء القصيدة ، إنها كما أشرت مزيجاً من الأنواع الأدبية الثلاثة . إن براء الخاطري قصيد روائي إذا جاز التعبير يمتزج فيه السرد مع العرض الدرامي ، فتعتمد على مجموعة من الشخصيات تقدم نفسها إذ تقدم شخصيات أخري في لغة شعرية راقية أقرب إلي المنولوج الدرامي ، في حين يتواري دور الراوي العليم أو الراوي عامة في كثيرٍ من فصول الرواية وقد كاد البناء الروائي ينفرط عقده من المؤلف ، لولا الفصول من( 12 - 14 ) عندما استطاع أن يجد دوراً للراوي العليم والمشارك في الأحداث ، لذلك أنقذت هذه الفصول الأربعة مع عدد آخر من الفصول – وهو قليل – من ضعف البناء الروائي ، لقد أعطت هذه الفصول للرواية حيوية حيث أسرعت بالإيقاع الروائي وأمسكت بعدد كبير من الشخصيات المؤثرة في الأحداث .

إن نجاح أحمد سامي خاطر الحقيقي تمثل في رأيي في السيطرة على هذا العدد الكبير من الشخصيات عبر إحدي وعشرين فصلاً ، فعلى الرغم من كثرة الشخصيات فقد جعل لكلٍ منها دوراً في بناء الحدث ، ولعل هذا يرجع إلي المزج ذاته بين الغنائي والدرامي والملحمي في هذا العمل .

وبعد فهذه قراءة أولي لرواية ( براء الخاطري ) والتي أعتقد أنها تحتاج إلي قراءات أخري .. أما إن كان من مأخذ لي على هذه الرواية فأري أنه فقط المبالغة في تهميش دور الراوي في الرواية ، صحيح أن غنائية الرواية وبنائها يتطلب تهميش دور الراوي ولكنني أعتقد أنه ليس بهذا القدر .
كاتب مصري
ليسانس آداب – قسم اللغة العربية- كلية الآداب /جامعة الزقازيق/مايو 1985م. ماجستير في الآداب كلية الآداب - لغة عربية - /جامعة الزقازيق/مايو 1991م. دكتوراه في الآداب – تخصص الأدب الحديث - كلية الآداب / جامعة المنصورة 2001م. له مجموعة من المؤلفات الأدبية والأكاديمية منها: لن أقلع عن هذه العادة (مجموعة قصصية)، شعراء حول الرسول صلى الله عليه وسلم (دراسة أدبية)، الفن القصصي عند فاروق خورشيد.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية