تثير قصائد لقمان ديركي في مجموعته الأخيرة " الأب الضال " مشاعر وأحاسيس لا يثيرها الشعر عادة، فالشعر لا يخلِّف وراءه ركاماً وأجساداً محطمة وبقايا بشر وقلوب مريضة إذ هو في بعض وجوهه كاشفاً ومرمماً لهذه الإنكسارات والنوازع، وقلَّما قرأنا شعراً يدمر قارئه كما يفعل شعر ديركي على الأقل من ناحية تركته للحياة تسير بدون مبالاة مجدية أو أن عليها ان تمر كما هي عليه بدون أن تترك أثرا بالغا سوى أنها مرت من هنا على مرمى من الفرد نفسه الذي ى يعنيه تقلبها ولا مزاجها المتقلب الذي يتشبه به هو نفسه. فهذا الشاعر السوري الكردي " وتركت أغاني الأكراد الجميلة \\ وأخذت حزنهم والشتات " لا ينبئنا سوى بالدمار ويفعل فعله فينا وكأن الشعر عنده صنو طرق الحديد بالحديد، يطرق القاريء بالشعر بحيث يجعلنا نتألم من قسوة الشعر الذي يكتبه " أنا نهر الفرات \\ عندما يقطع الأتراك عنه الماء " حين يفرد مساحة للهزيمة. ولكنه في الوقت نفسه يكتب من اجل النكاية أو الوصف الدقيق لما لا يهم القاريء او يهتم به. لا عواطف مرئية عنده ولا عواطف يحسب حسابها، فهو لا يقول أحبك في كتابه كله ولا يصف الحب الذي له مكان محسوس في هذه المجموعة، النساء عنده مجرد أجساد بدون وصف دقيق لهم. وهو الى ذلك يستهلك النساء كما يستهلك علبة سجائره، حين يحادث ابنته الصغيرة متنبئاً لها بما سيكون عليه في ما بعد، إبنته التي لا تعيش معه كما يظهر يقول: " ستلمحينه \\ يتأبط فتاة قبيحة \\ وبشعره الطويل \\ ستجدينه \\ يعانق فتاة جميلة \\ وتعبرين " الجمال هنا ليس ذاته وليس ذات اهمية، هو والقباحة نظيران لجسد واحد أنثوي صارخ ولا يهم البحث عن المقاييس ولا التعب في البحث المضني عن الشروط التي عادة ما يستهلك فيها الرجال جل وقتهم، المرأة هي المرأة، الجسد هو الجسد، وشكل الإستهلاك الجنسي له لا يفرق بين الجمال الظاهري وصفاء الروح وأناقة العلاقة قبل الولوج في حمأة الجسد الأنثوي الملتهب وتموجاته الجنسية وقبوله فقط. إذ ليس الهدف من العلاقة مع المرأة عنده في نهاية المطاف النظر المتمعن في جمالها، فالفرق هنا في النظرة الى عملية الوصول لا التمييز، وليس الجمال على أنه قشرة رقيقة شفافة وأن القباحة تكون حتى العظم بحسب أنسي الحاج في خواتمه، بل الجنس والفعل الجنسي الجارف وقدرة الجسد الأنثوي على الإستجابة له.
الشعر هنا ليس سوى صورة نقية عن واقع متعدد الصور والدلالات المجزية من قهر اجتماعي وانتكاس عائلي وتسكع وقرف من مناخ لا يتوافق مع الحلم الفردي او الجماعي للشاعر في ذاكرته الخصبة أو ذاكرة شعب كامل. لذلك تصب جميع قصائده في القهر والنكد، نكد من لا يرضيه شيء ولا يرضي من حوله، ولكنه رغم ذلك موجود وبقوة في مجتمع " متخلف " عنه " وما حمل ساعة في معصمه \\ وما علق في عنقه زردا \\ وما نقش على جسده وشما \\ ولكنه مشى في الشوارع المزدحمة \\ كعلامة فارقة " . أيضا نكد من لا يرى ما حوله على أنهم ناس لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ويبدو هنا وفي مقطع بسيط متؤثر كليا بما سبقه اليه بسام حجار اللبناني في " مهن القسوة " بالقول والمشافهة عن الضجر من علاقته بالأشياء المحسوسة حوله " سأغلق النوافذ جيدا \\ ولن أفتح الأبواب \\ سأرتق شقوق الجدران \\ لأنني أخاف \\ أن يدخل الهواء الذي تتنفـسون منه إلي ". فيما يقول حجار " إذهبوا الى إذا كان الرحيل لا يزال ممكنا..... إلخ ". الكلام الذي يحوله ديركي الى مجرد ايحاءات بالغة الفجيعة لا ينتهي في كل صفحات مجموعته، فهو المتسكع بامتياز والمتمرد منذ نعومة أطفاره كما يقول، والذي لا عمل لديه ليفعله ومع ذلك " أنا الذي لم يستطيع أن يكتب الشعر عنك \\ لأنه لم يجد الوقت الكافي ".
لعبة الوقت تكشف نفسها بحيث تحيل كل ما حولها بما فيها النص نفسه الى إضاءة في مساحات خالية من الرغبة، خالية من الوصف الدقيق لها أو هي وقت المدينة الناقل الذي لا فضاء رحب فيه ولا صورة تعطي المتخيل حيزا للمبادرة، على خلاف حجار في معظم شعره إذ يقتنص صورة الأشياء الداخلية في منبتها الأول ويصفها على انها من مؤثرات الحياة اليومية ومركبها الشديد الهشاشة. مع ديركي لا نجد هذا السعي الى فضح ماهية الأشياء بقدر ما نجده هو غارقا في تفاصيل نفسه وعلاقاتها بالأشياء التي من حوله، أشياء المدينة الماضية الى النفايات أو هي هكذا لا منبت اساسي لها وتأثيرها لا يجعل من المدينة وقتا خصبا لا للكتابة ولا للنسيان فلا محل للنسيان في شعر ديركي " يقولون عني : وغد وسافل \\ وهناك من يقول : فتى منطلق كالفراشة \\ بينما ولأنها صفات لا عمر لها \\ بقيت وغدا وسافلا " . تعلم قصائد ديركي قارئها على الضجر الذي يمكن تلمسه في كل مفردة، وهي الى ذلك تجعل من الحياة الطويلة مديحا للركود والعيش على جانب مقصي من الذات.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية