3 حلقات تدفق عبرها خال في (ايلاف)، تحدث عن دور النشر،الأشباح الإلكترونية، حقائب السفر المتوحشة،عكاظ،الوطن، الضباع والمكان الذي تنام فيه شهادته الجامعية
[IMG]http://www.nashiri.net/aimages/khal.jpg[/IMG]
عبده خال
ولد عبده خال في قرية المجنة بمنطقة جازان (جنوب السعودية) عام1962،تفاصيل استيقظ عليها مازالت تملأ ذاكرته الطرية، يهطل: "أذكر طفولة عذبة،التصقت فيها بتفاصيل الحياة بشتى أنواعها،طفل لأسرة زراعية تمتد جذورها لأرض عميقة،مهمتها الفلاحة،وانتظار عذاق السنابل لتعبر بها حياة متقلبة".
لن يبوح بكل شيء لـ (ايلاف)، هكذا أشار الروائي خال بوضوح في سياق اجابته المقبلة،إذا سنصغي الى بعض حكابات الطفولة، دعونا نتمتع بالصغائر،هل جربتم قراءة مابين السطور؟هاتوا آذانكم، لنصغي الى الأصوات المخبوءة، إلى حديث الأكواخ الصغيرة الغضة: "عشت بين الأشجار وطمى الأودية،وملاحقة العصافير،والخشية من الأمطار والصواعق،وبناء الأكواخ،والركض في الخبوت بحثا عن الأرانب،وهربا من الضباع،والثعابين،والذئاب،وفي الليل تأتي الحكاية بالجن وأحلام الفقراء بالعثور على خاتم سليمان حياة مليئة بالسحر والدهشة ،لا لن أحدثك عن كل التفاصيل".
لماذا ترك القرية وهجرها كالبقية؟ألايشعر بوخز حاد، تأنيب ضمير، يجيب القاص عبده: " حين نكون أطفالا لانعرف سبب ارتحال ذوينا،الآن وبعد كل هذه السنين أجد أن الارتحال كان ضروريا كرد فعل طبيعي لقسوة الحياة هناك،فالمسافة الزمنية بيني وبين تلك الطفولة تقدر بخمس وثلاثين عاما،غدت القرية ذكرى جالبة للشجن،ولو استجبت لحالة الشجن هذه فلن أكون صادقا لو قلت لك اني لن استطيع أن أعيش في قريتي الآن،لقد تلوثت بالمدينة ولم أعد كائنا مستأنسا لأن اعيش حياة القرية،كما ان المدينة غزت القرى العربية وحولتها الى أماكن مستلبة لم تعد قابضة الا على مسمياتها" .
زميلي سنوي شراحيلي (32عاما) يدرس الدكتوراة في فلوريدا، أخبرته انني سأحاور عبده خال، انزلق الفرح من عينيه، قال بكل وضوح: "لاأحب خال لأنه ابن منطقتي فحسب، أحبه لأنه اكتشف القرى، لونها، أريدك ياعبدالله أن تراقب نزفه، انه حار، لاذع، تمهل وأنت تشرب كلماته، ارجوك اقرأ عليه السلام واعتني به". جمل زميلي شراحيلي المتراصة والساخنة رافقتني طوال الاعداد للقاء خال، شعرت أنني يجب أن أضعها في المكان المناسب،حقنتها في مطلع الفقرة الثانية تلوح للروائي خال كجموع غفيرة مودعة قبل ان نغادر مؤقتا الحديث عن مسقط رأسه وصديقي وننتقل إلى جدة، التي يعبر عنها ضيفنا قائلا:" عشت في مدينة جدة منذ ان كان عمري ست سنوات،عشت براءة المدينة حينما كانت لاتزال ساذجة لا تعرف المكر والخديعة،عشتها وهي جدر منخفضة،وبيوت متلاصقة وأبوابها تفضي لبعضها،وغدوت مشطورا بين ماضيين،ماضي القرية وماضي المدينة،ولم يكن الزمن رحيما في تقديم حياة استهلاكية وأكثر سرعة وفجاجة ،كان علي أن اتوازن من خلال الكتابة،في محاولة لاستعادة الماضي بترتيب سردي لا يغفل محورية التغذية الثقافية التي ضخت في أوردة المدينة وفي تعرجات القرية" .
يبدو انك رومانسي ،يجيب بسرعة: "لست رومانسيا – بمفهوم الرومانسية المتداول - في هذا الجانب،ثمة معادلات كانت تكتب،والرياضيون مغرمون بالمجاهيل،وفي التغيرات السريعة والمتلاحقة كان علي أثناء الكتابة متابعة تلك المجاهيل واظهارها كنص روائي يجسد تشوهات الحلول غير المنطقية التي دوناها في كراريسنا من غير أننفقه نوعية تلك المعادلات".
وهل الكتابة قادرة على ترتيب المجاهيل ؟ يرد على (ايلاف): " الكتابة بناء هندسي قائم على فرضيات لدراسة المتغيرات وهو بهذا يحقق تلمس كيف تمت صياغة المعادلات التي أوصلتنا الى الحاضر،وهي ليس بالمفهوم السطحي الذي ترسخ في أذهان الكثيرين من كونها كتابة متعة أو تسلية،هي عملية معقدة لاعادة ترتيب عشوائية ما حدث ..وفي أحيان (خربشة) الواقع كنقمة على من صنع كل هذه العشوائية،وشوه حياتنا".
يفسر الكتابة وفائدتها: "الفائدة بمعناها المادي غير محسوسة لدى المتلقى،هي تحدث أثرها فيه من خلال تجسيد جماليات فنية،هي تسعى لبذر المشاكسة مع الواقع مستهدفة التحريض لإعادة صياغة تشوهات الواقع،فأنت لاتستطيع الغاء هذه التشوهات ولكنك قادر على فضحها،والبحث عن أفاق جديدة لكتابة مستقبل أقل تشوها مما حدث ،الكتابة عندي هي ترتب الفراغ القادم،بجعله أكثر مقدرة لاستقبال الأحلام،الكتابة حالمة لخلق الفردوس المفقود".
الكثير من الرومانسية تفوح من حديث خال يبررها: "الرومانسية من وجهي نظري أجدها ملتصقة بنا كبشر فنحن لا نستطيع التخلص من أعماقنا،وهي أيضا ليست كما تم ترسيخها من كونها معنية بتجسيد حالات عاطفية ساذجة كما أرادت السينما العربية أن تجعلها علاقات عاطفية محمومة".
يتابع: "الرومانسية عندي مرتبطة بأعماق البشر وبما تموج به النفوس من عواطف متناقضة تصل في أحيان الى الرذيلة،الرومانسية شبكة عنكبوتية معقدة تظللنا بالكلمات بينما هي مغارات :توجد بها الشلالات والازهار و يوجد بها أيضا السباع والافاعي،هي ليست تلك الرومانسية التي يتم التضليل على فجواتها بوضع يافتات مغرية بالدخول إليها لمجرد دلق مشاعر عاطفية تقليدا لهيام عاشقة أو عاشق".
استمد خال رواياته من الطرق المعبدة التي سلكها، الصحراء التي شقها من الجنوب إلى الشمال، التضاريس التي تعلو الوجوه والأرض، أتابع كتابات خال التي غرسها في صفحات ومضى، عرعر(شمال السعودية)كانت وماتزال ترتبط بشكل أو آخر به وتحديداعندما أشار إلى اقامته في أنحائها في احد تصريحاته الصحافية السابقة، يقول لي:" لم تكن عرعر هي المدينة الثانية التي عبرتها،سبقها عبور لمدن كثيرة،بدأت بعبور لمدينة جازان،ثم مدن امتدت على طريق الجنوب حتى بلغت بي لمدينة جدة،إلا أن عبوري لمدينة الرياض هو الاحساس الاول بالفقد والغربة". يروي القاص خال لـ (ايلاف) المزيد عن الرياض: "كان عمري عشر سنوات حينما سافرت وحيدا وعن طريق البر لتلك المدينة القابعة فوق هضبة كأسد ينتظر الداخلين لالتهامهم،هناك تعرفت على الصحراء،والبرد،والعزلة،وحياة مليئة بثقافة مغايرة تماما لما عشت عليه". يكمل: "ثم ارتحلت الى مدينة الظهران،ثم عرعر،وكل مدينة من هذه المدن كنت أسيرا لها حاملا ذهنية قروي ،يحن لرؤية السماء الملبدة بالغيوم ورؤية البروق المتناثرة في السماء،عبرتني كل هذه الرحلات طفلا أو شابا غضا،تاركة حنينا عاصفا،مكنني من تجميع مشاعر اللوعة والشعور بالفقد الدائم،هذا الفقد كانت ترممه قراءات – من غير وعي – كنت أحاول من خلالها استعادة حياة مستقرة ،فإذا بالقراءة تقودني الى غربة مضاعفة،غربة تحرك قوارب الشوق دائما".
قبل شهور قليلة، اضطررت لسفر طويل، صرفتُ نحو 35 ساعة بالسيارة في طريق يربط غرب اميركا بذيلها (فلوريدا)، تناوبت وصديقي على قيادة المركبة، عندما يحين دوري في القيادة، انشغل بالغناء بأصابعي، ترقص على المقود، أما عندما يجيء دور رفيقي، فتتفرغ أظافري الخشنة في رسم الطريق على جلدي، أصنع خطوطا بيضاء حادة لاتجف الا عندما أصل، ماذا فعل الارتحال بخال؟:"الترحال أكسبني تنوع المكان،بقاء شخوص عبروني أو عبرتهم أثناء السفر،كنت أسافر عبر البر لمدينة الرياض قاطعا مسافة مايقارب 1200 كيلو مع مسافرين لا أعرفهم ولا يعرفوني،كنت طفلا،يتم حشري في سيارة البيجو من مواقف جدة لاعبر كل هذه المسافة في برد قارس من غير أن أن يوجد رجل كبير يرعى طفولتي تلك،هذه الوحدة المبكرة مكنتني من التربص بمن هم حولي وقراءة خبايا انفسهم،مراقبة تفاصيل الوجه،وسماع الحكايات التي تنتهي ولا ينتهي ذلك الخط الطويل الممل". يواصل عبده خال حديثه عن الطريق وملابسه المثيرة: "كانت هناك استراحات لهذه الرحلة الطويلة،كنا ندخل الى مدن موحشة ليلا،ترتدي ملابسا ثقيلة لتدفع بردا ضروسا،ونبقى في مقاهيها لساعات". يتابع: "هذه الساعات تكررت خلال ثلاث سنوات متتالية أقطع فيها خط الرياض ذهابا وايابا – الغريب انها كانت تتم في فصل الشتاء- ومع مضي سنوات طويلة على تلك الرحلات الا أنها ظلت باقية بشخوصها ومدنها ( الطائف،الحوية،عفيف،ظلم،شقراء ) مدن كثيرة تركت في داخلي شيء من قسوتها أو وداعتها أو لوعتها أو وحشيتها...عشت في أكثر من مدينة،وكنت أسافر لها وحيدا". ماذا تبقى من تلك الرحلات في ذاكرته الحافلة: " من تلك الرحلات غدوت كارها للمواقف ومن رؤية الغرباء،أشعر بشي يجز حنجرتي حينما أرى رجلا يحمل حقيبة وعليه علامات السفر ..ومن مساوىء تلك الرحلات أني غدوت لا أحب السفر،أظل في مدينة جدة طوال الوقت ولا يحركني لخارجها سوى أمر ملح كاستجابة لدعوة أو محاولة للخروج من اختناق حياة اجتماعية".
سؤال كلاسيكي، يبدو كأنه جندي بلاحقني وهراوته، سأرضخ له على مضض: متى بدأت الكتابة؟ يجيب خال: " الكتابة ككتابة بها التخيل واختيار المفردة بدأت في وقت مبكر،كرسائل لحبيبة،ثم تحولت الى كاتب رسائل للمحبين،وفي ثالثة ثانوي،نبهتني جملة لأحد الزملاء بأني أجيد الكتابة،أو بمعنى اصح قال: احسن من يكتب التعبير بالفصل هو عبده،وتحول هذا الاطراء الى رغبة دائمة للخروج للقاء ما كتبته في حصص التعبير،وفي موجة ظروف عاصفة،وجدت نفسي مقذوفا بين الاوراق والمفردات في محاولة لكتابة رسائل عشق منشورة،بدأت بقصة (في الغروب موت الشمس) حظيت بالاهتمام ونشرت في ملحق ثقافي (دنيا الادب) وأذيعت كنموذج من الادب السعودي،كان عمري انذاك ثمانية عشر عاما،وبسبب تقريع،انحرفت لكتابة شعر ردىء ومفكك".
هل يذكر تفاصيل القصة الأولى، يتذمر القاص عبده: " الان أشعر بملل،ولست راغبا في ذلك".
ماتفسيرك للملل؟: " شعور يخلق في داخلك ضجر من شيء ما،ومولدات هذا الشعور لا تحصى،لكن الامر أصبح مفجعا لأن الغالبية يسيرون مرتدين هذا الشعور" .
كيف؟ يشرح لـ (ايلاف): "الذي حدث أننا جميعا تركنا الطبيعة،ودخلنا الى سجوننا (وأقصد بها منازلنا)،فمنازلنا ذات تصاميم قاتلة تبعدك عن عيون الشمس وعن التراب وعن الاشجار وعن كل مكونات الطبيعة،ودخولنا الى المنازل ولد لدينا شعور السجين،ألاتلاحظ أن حياتنا تحولت الى مشاريع مستقبلية؟". يضيف:"كل حلم يتم ترحيله للمستقبل،وبما فيها رؤية الطبيعة حيث تكون في الاجازة ننتقل بين مفردات الطبيعة لنعاود سجن سنوي لا ينتهي الا بنهايتنا،وفي داخل سجوننا،لا نحلم بشيء سوى كيف نتجاوز اليوم القادم،بمتطلباته واحتياجاته،غدا الركض لتأمين قوت الحياة مكلفا،وتحولت الاشياء الى استهلاك غير ممتع،مما خلق في داخلنا ضجر السجين الذي ينتظر خروجه من هذا القفص،وفي احيان لا يعود راغبا في الخروج من بيته لأنه ألف الحياة المعلبة".يوضح: "فنحن نستعير من أغذيتنا المعلبة طريقة تواجدها،فالقروي يخرج ليزرع غذاءه ويحتك بكل مفردات الطبيعة،يمارس حياة مفتوحة ويتعرض لاحداث تشعره بانه كائن حي،بينما نحن في المدن معلبون في منازلنا ومكاتبنا،نحن نشبه المعلبات التي ترس داخل السوبر ماركت ...نحن نشبه كثيرا أغذيتنا التي نستهلكها،علينا تاريخ صلاحية الالبان سريعة العطب،غدونا سريعي التلف" .
( في الجزء الثاني خال يتحدث عن معاناته مع دور النشر، الأسماء الإلكترونية، والأندية الأدبية السعودية)
يتبع