ليلى الجُهني: انتقلُ من ألمٍ إلى ألمٍ

ننتظر الأثنين أسبوعياً بحماسة لنجر البحر إلى أقدامنا، نفرش على أطرافه المبللة أحاديثنا، شتائمنا، سخطنا، أحلامنا، وقهوتنا التي لايتجرعها سوانا، أنا وخالد السعدون (35عاما)، محمد الرشيد(30عاما) وأحيانا صالح الخليف(37عاما)، الأخير يغادرنا دائما، يذهب بعيدا بعيدا، بعد أن يرتدى سترته الزرقاء الداكنة، نحن الثلاثة لانحب تلك السترة أبداً، ليس لأنها قصيرة، ضيقة، وأزرارها سوداء قاحلة واطارها ذهبي باهت، بل لأن حضورها دلالة على غروب صالح وهجرته المؤقتة، قبل أن يسافر الخليف إلى الضفة الأخرى يُخرج من تحت مقعد سيارته التي تقلنا الأربعة كتبا كثيرة يصنع منها أجنحة يطير بها، ليمعن في الغياب! الأثنين الموافق 17 (كانون الثاني) يناير2005، عاد خالد إلى سجادتنا الحمراء سريعا على غير العادة، قطع خشوعنا البالغ، طلب بإصرار أن ننصت لسطرين فقط، من رواية يحملها بضمير بكلتا يديه، غلافها أبيض حالك كلون قلب أمي تماما، استجبنا أجمعين إلى ندائه، السطران أصبحا عشرة بل مائة، امضى اربع ساعات، يقلب الرواية صفحة صفحة بصوته الحاد ولهجته النجدية الصرفة، تقاسمنا خلالها الأجنحة التي يلفها تحت سترته،شربنا القهوة وبقية الليل!
رواية (الفردوس اليباب) للسعودية ليلى الجهني لم تشغلني 4 ساعات فحسب بل أيام، منذ أن أطفأت واصدقائي قمر الأثنين المثير، وهي مصدر اهتمامي، الأسئلة تتناسل في ارجائي، تطرق وتهز كتفي كطفل لحوح، تصرخ في أذني، تجتاحني بشدة كالرياح التي ارتطمت بعباءة الفتاة التي تنتصب على غلاف الرواية، وتقاوم بعناء التيارات المقبلة التي تكاد تقتلعها لولا ساق كعبها التي تدفن رأسها في الأرض حتى لاتذهب ونذهب! حوار من (3) حلقات يجمعنا مع ليلى، يتصدى لأسئلة تعتمر (فيونكة) وأخرى بأنياب شيطان صغير!


إمرأة منقبة
ولدت ليلى الجُهني في تبوك عام 1969،الكثير لايعرف عن هذه المدينة السعودية سوى انها تقع في الشمال، تنبت على صدرها بساتين جمة، و تمد يدك في أحد أجزائها لتصل إلى الأردن، ويضيف الصديق خالد السعدون من الدمام، زارها مرة واحدة: "انها إمرأة منقبة، لاتجزم، ولاتراهن على سحرها وجاذبيتها حتى تتعرف عليها،شعبها يحب أميرها فهد بن سلطان، ويحب مهاجم فريق كرة القدم في نادي النصر ولاعبه السابق ماجد عبدالله". تبوك التي يسكنها نحو 500 ألف نسمة و700 ألف وردة، تقول عنها الروائية ليلى التي أبصرت النور بين ذراعيها: " لا تختلف تبوك عن غيرها من المدن. صغيرة ومنظمة، ويحتاج المرء إلى أن يولد ويحيا فيها حياته كاملة كي يتآلف مع انغلاقها – مقارنة بمدن أخرى – ويغفر لها قلة تفاصيلها، وفضول عيونها، وصرامتها إزاء ما يمكن أن تعتبره خروجاً على عرفها السائد".
تصف الجُهني لحظات الارتحال من تبوك إلى المدينة: "عندما غادرناها ذات صباح بعيد باتجاه المدينة المنورة شعرت بحزن عظيم. أحسستُ بأني انتُزعتُ من كل أناسي وأشيائي التي أحبها وألفتها، وأن عليَّ أن أبدأ من جديد في مكان يبدو ما أعرفه عنه غائماً، قليلاً، غير أكيد. في مسائي الأول في بيتنا الجديد في المدينة المنورة، وقفتُ إزاء نافذة خشبية، عزلاء إلا من ذكريات رطبة دفعتني إلى بكاءٍ، ازدادت حدته عندما انطبقت النافذة بقوة على أصابعي ؛ فازرَقَّت أربع من أظافري. شعرتُ وقتها بشعور خانق بالوحدة لم أفهمه إلا عندما كبرتُ قليلاً. وظننتُ أني لن أحب المدينة أبداً ؛ لكن الظن خاب".
ماذا أخذت تبوك من ليلى وماذا منحتها؟ تجيب على (إيلاف): " الآن أفكر فيما الذي أخذتُه مني تبوك وما الذي منحتني إياه، وأكتشف أنها أشياء قليلة. أخذتْ مني بعض أعوام طفولتي، وكلمات قليلة نثرتها عنها هنا وهناك، أخذت مني أيضاً ذكريات غائمة تشحب يوماً بعد يوم وأحاول دائماً استنقاذها، ومنحتني الشجر، لن أنسى أن كل ما تعلمته عن الشجر كان في بساتين جدي – رحمه الله – فيها، منحتني تبوك كذلك هوسي باستكشاف الأمكنة، لقد كان انتزاعي منها – فيما أعتقد – سبباً رئيساً في هذا الهوس الجميل الذي أنساق له دائماً في كل مكان أعبره أو أقيم فيه، وما أكثر الأمكنة التي عبرتها أو أقمت فيها".
الإنحناءة اللافتة ازاء التفاصيل التي ترصدها أصابعها الصغيرة، تبررها: "تصدق ينتابني أحياناً شعور بأني طارئة على كثير من أمكنةٍ وأناسٍ وحيواتٍ تمرني أو أمرها، يربكني هذا الشعور، لكني لا أملك إزاءه سوى أن أكتب، فقط كي لا أفقد يقيني بأنها عبرتني، وأني عبرتها ولم تكن ظلالاً عبرت ولم تعد".


أمنية مستحيلة
هل غابت العرائس الصغيرة، والشرائط الملونة في أيامها الأولى؟ لماذا نشعر أن ليلى ولدت في العشرين؟من خطف طفولتها؟ "لم تكن طفولة ناقصة. كانت طفولة ناضجة، أردد على مسامع صديقاتي كثيراً أنها كانت طفولة ناضجة أكثر مما ينبغي. لكن ذلك لم يمنعني من لهو جميل، وألعاب لم أحتفظ بها. يعاني المولود البكر من ضغوط هائلة، وتزداد هذه الضغوط عندما يكون هذا المولود بنتاً، وقد جمعتُ الأمرين معاً، ولا أدري أَكنتُ سأختار أن أكون بكراً – فيما لو تُركَت لي حرية الاختيار – لكن ما أنا متأكدة منه أن ترتيب ولادتي، وطبيعة الحياة التي عشتها، والبيت الذي نشأتُ فيه قد شكَّلت كلها مجتمعة ما أنا عليه الآن".
تعترف: "لا أنكر أني تضررتُ، وحرمتُ حتى من أن أرتكب أخطاءً صغيرةً فقط لأنني الكبرى، لكن الوضع لم يكن سيئاً طوال الوقت، تمتعت بمزايا أخرى كثيرة. وإن كنتُ تعلمتُ شيئاً فهو أني سأرحم طفلي البكر ؛ إن أنجبته ؛ ولن أكون مصدراً من مصادر الضغط عليه، سأحاول ذلك جاهدة، وسأُذكِّرُ نفسي كلما ارتكب خطأً بأن أعاتبه دون أن أرهقه بقيود ترتيبه وبأنه قدوة". تبوح بأمنيتها المستحيلة لـ (إيلاف): "أعتقد أني سأتذكر كلما تطلعتُ إليه أمنيتي المستحيلة بأن يكون لي أخ أو أخت أكبر مني ألوذ إليه / إليها عندما تضطرب حياتي، أو عندما يعتريني قلقٌ ما، وسأحاول ألا يكون لديه الأمنية نفسها".


"بابا لا تمت"
الجُهني الحاصلة على شهادة الماجستير عام 2000من جامعة الملك عبدالعزيز بالمدينة المنورة في تخصص الوسائل التعليمية تنتظر أن ينام والدها حتى تحدق في وجهه، تتأمل ملامحه بحرية تفتقدها عندما يستيقظ ويشرع عينيه: " بابا، كم هو جميل هذا الرجل، وكم أحبه. مذ وعيتُ وأنا أحبه، وأشعر بقربه الحميم. أكرمني هذا الأب، ووفر لي حياة كريمة، وأنا مدينة له بجزء كبير مما أنا عليه".
تدرس الدكتوراة حاليا في كلية البنات بالمدينة، حصلت على جوائز جمة على قصصها وروايتها ونجاحاتها الأكاديمية، ليلى التي تفتتح يومها بحمل 3 حقائب على كتفها، اثنتان تبتلعان كتب ووسائل المادة التي تدرسها لطالباتها، والثالثة تحمل كراساتها، ترجع الفضل الى ابيها لما وصلت إليه الآن: " لقد وقف دائماً خلف كل ما حققته في حياتي، وكل ما أنجزته ؛ وآمن بي كما لم يفعل أحد. قبَّل جبيني فخراً مرات كثيرة، وقال لي كلمات حنون عذبة، واستوعب اختلافي، ما وسعه ذلك، وحتى في أشد لحظات خلافنا عتمة، ظل في أعماقه معي ضد نفسه، وحاول بلِينٍ أن يجعلني أفهم وجهة نظره". أخبرتكم قبل قليل عن طقوسها وهي تترقب انفاس والدها سعيد وهو نائم، سأدعكم تستمتعون بوصفها: "أتأمله أحياناً وهو نائم غائبٌ في ملكوت لا أعرف ما ينطوي عليه، فأفكر أن حياته لم تكن لينة، وأنه يبدو الآن كمحارب قديم يتوق إلى أن يستريح، ولا أستطيع أن أنكر أن هذه الفكرة تقلقني". لماذا ليلى قلقة، تجيب على (إيلاف): "يقلقني أن يسير نحو الموت بهدوء، ولفرط ما أنا قلقة كتبتُ له : " بابا لا تمت ". أعرف ألا شيء سيحول بينه وبين الموت، لكني أردته أن يعرف أن موته لن يمرَّ عليَّ دون أن يهزني بقوة ؛ لأني بفضل تفهمه، عشتُ حياة حرة – مقارنة بغيري من النساء – وأخشى أن أفقد كثيراً من حريتي إن غاب".


موسيقا ودفاتر ممزقة
حروفها تهز أكتافها، لاتختلف عن الفتيات اللاتي أطل عليهن راهنا من نافذة شقتي في فورت لودر ديل بفلوريدا وهن عائدات من المدرسة المجاورة، يتحركن بنشوة تعلو ملامحهن، وجوههن ملأى بالمشاريع الصغيرة، استشرف المستقبل في خطواتهن النزقة،كيف استطاعت السعودية ليلى أن تبني هذه العلاقة الخاصة مع الحرف وتكتب بهذه الجودة، ما القصة؟ تكتب لي وآذان الفجر يرتفع في المدينة المنورة حسب قولها: " فتنتني الكتابة منذ وقت طويل، كنتُ قد بدأت فيه بقراءة الكلمات، والاستمتاع بوقعها على الأذن، والبحث عن جرسها والموسيقا التي تنبعث من أصوات متجاورة اتخذت هيئة الحروف. ولم أفكر – ولو للحظة واحدة – وأنا أنقاد لفتنتها أنها ستكون طريقي إلى ذاتي. عرفتُ مبكرة أني سأكتب، لكني لم أدرِ أن الكتابة ستسم حياتي حتى النهاية".
تنهمر: "تراكمت لديَّ دفاتر ملأى بالخربشات، وكنتُ مقتنعة أن ليس فيما أكتبه رائحة أدب عظيم، ولم يزعجني ذلك ؛ لأني كنتُ ولازلت أكتب لنفسي عنها وعمَّا يخلفه مرور الحياة وهي تتغير بلا هوادة من حولي. كنتُ في الخامسة عشرة عندما بدأت الكتابة بانتظام. راعني وقتها أن يكون لديَّ أفكار – ظلت تدب تحت جلدي حتى كتبتها ثم مزقتها – عن حياة تتغير بسرعة مزعجة".
كم استغرقت مرحلة التمزيق، سنعيرها أصابعنا، هاتوا لنعد معها ونلمس حرفها ايضا، تقول: "احتجتُ إلى ثلاثة أعوام من الكتابة فالتمزيق فالندم، قبل أن أعي أنني عندما أمزق أوراقي فإنما أمزق جزءاً من حياتي، قد لا أتذكره فيما بعد بوضوح، فأقلعت عن عادتي تلك. ظللتُ أكتب كما لو كانتِ الكتابة طريقتي في الحياة، وعليَّ أن أعترف الآن أن الكتابة – من بين أشياء أخرى قليلة – قد ساعدتني على أن أتوازن وأنا أسير على حبل الحياة الرقيق، وساعدتني أكثر على أن أفهم ما يحلُّ بروحي وهي تنتقل من ألمٍ إلى ألمٍ".


زاوية يسرى
ساهمت جريدة الرياضية التي تصدر من الشركة السعودية للابحاث والنشر في ولع ليلى بالنشر، رغم ان المتعارف عليه أن المطبوعات التي تعنى بالرياضة لاتسحر الفتيات، كيف جذبتها، هل بسبب عدم وجود بدائل آنذاك؟ تبيّن: "لا يكمن الأمر في عدم وجود البدائل. اعتاد أخي خالد ابتياع (الرياضية) بانتظام، ولفتت نظري فيها صفحة ثقافة التي كان يشرف عليها آنذاك الأستاذ محمود تراوري. لا أتذكر اللحظة التي قررت فيها أن أرسل للصفحة بعض ما لدي. أردتُ أن أرى ما إذا كان فيما أكتبه ما يستحق أن يُمنح مساحة على تلك الصفحة".
ماذا عن تجاربها السابقة مع النشر؟ "كنتُ قبل ذلك قد نشرتُ في المسائية وراسلتُ اليمامة وعكاظ والمدينة ولقيتُ احتفاءً في كل مرة، وقد أفرحني أن تحتفي بي صفحة ثقافة، وأن يغامر محررها بالمراهنة على حرفي، في وقت لم يُنشَر لي فيها سوى ثلاثة نصوص أو أكثر بقليل".
هل تذكر الأستاذة الجامعية تاريخ رسالتها الأولى لصفحة ثقافة الرياضية وفي اي عام، وأين نامت مشاركتها في الصفحة؟ تقول: "أتذكر أن ذلك كان في أوائل 1991، فتحتُ الصحيفة ذات مساء فوجدتُ كتابة لي في زاويتها اليسرى، مع تعديلات قليلة أتذكرها الآن وأبتسم. ولم يكن ثَمَّ شعور خاص تجاه نشرها ؛ لأنها لم تكن أول ما يُنشر لي، إذ سبقتها نصوص احتفت بها المسائية واليمامة وعكاظ". تضيف: "جاء الشعور فيما بعد، عندما غامر الأستاذ محمود تراوري بنشر قصة : " وقال وداعاً " على حلقات، شعرتُ وقتها بشعور مخلوط من الدهشة والفرح والقلق. بدا مدهشاً – وسيظل – أن يلقى أول نص طويل أكتبه اهتماماً بهذا القدر، وأن يُكرَّس له ذلك الحيز على مدى سبع حلقات متتالية".
يقلقها الاحتفاء السالف، يجعلها تسير بعينين غائمتين،اصوات عارمة تختلط مع موسيقا في أذنيها، تشرح: " أعترف أن ذلك الاحتفاء قد وضعني – ومازال يضعني – في مواجهة مع نفسي، مع الكتابة، مع ما أريده من الكتابة، ولا أدري حتى اللحظة إلى أين ستقودني تلك المواجهة".


( في الجزء الثاني: تتحدث عن صديقتها الاماراتية، اللغط في أبها، علاقتها مع جريدة الرياض، والفردوس)

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية