الكاتبة السعودية ليلى الجهني(35عاما) التي تركض أصابعها على القبور، وتتعذب من قلة الموت، لاتمتلئ بالقهوة العربية التقليدية، لاترتشفها أبداً، تغمض عينيها وأنفها، عندما تمر رائحتها، وتتساءل أيضاً عن سر تهافت الكل عليها، وارتفاع أيادي الجميع وهبوطها من أجلها. قبل أن تزور صديقاتها تتوسلهم ان لايشعلوا النار اسفل ابريق القهوة الساخط، أن لايستعرضوا أمامها الدلة واطفالها الصغار الذين يتراصون بعناية، ويفتحون أفواههم الواسعة! ليلى التي تحب رائحة الخشب المبتل وابناء أختها الثلاثة، تكمل قصتها في الحلقة الثانية من حوارها مع (إيلاف) والذي يتزامن مع صدور روايتها (الفردوس اليباب) ضمن مشروع (كتاب في جريدة) الذي تموله اليونسكو وينتقي ابرز الأعمال الأدبية العربية لاعادة اصدارها وتوزيعها تكريما وتقديراً.
حصلت ليلى عام 1991 على المركز الثالث في مسابقة نادي الطائف الأدبي، هل كان فوزها الأول أم سبقه انتصارات عدة؟ تجيب: "أجل ، كان ذلك فوزي الأول . أحاول أن أتذكر الآن كيف عرفت بأمر المسابقة ، ومتى قررتُ المشاركة فيها ، لكني أفشل في ذلك للأسف . لكن ما لن أنساه أني لم أستلم قيمة الجائزة حتى اليوم . إذ أُرسِل شيك بها لم يصلني ولم أراجع النادي بشأنها حتى تاريخه".
أثار حصولها عام1995 على المركز الثاني في مسابقة أبها الثقافية تساؤلا كون المركز الأول ظل شاغرا حتى اللحظة؟!، تقول الجُهني: " هذا أمر مرت عليه أعوام كثيرة ، كيف عرفت به ؟ بعد وقتٍ من حصولي على الجائزة عرفتُ أن رواية (دائما يبقى الحب) كانت مرشحة لتحتل المركز الأول ، لكن اللجنة تراجعت ، لأن النص كان أنضج من أن يكتبه قلم ناشئ ، ثم إن اسم : ليلى الجهني ، لم يكن معروفاً في الساحة حينها ، وراودت أعضاء اللجنة شكوك بأن يكون هذا الاسم اسماً مستعاراً يختفي وراءه كاتب متمكن".
كيف كانت ردة فعلها، اقْتَرِبُوا أكثر: "ضحكتُ وأنا أسمع الحكاية ، وتساءلت لِمَ لم يخطر لهم أن يطلبوا إثباتاً رسمياً بوجود كائن حقيقي يحمل هذا الاسم ، ثم يقرروا بعد ذلك ما إذا كانوا سيحجبون المركز الأول أو يمنحونه لروايتي ؟".
قبل مشاركتها في مسابقة الشارقة وحصول روايتها(الفردوس اليباب) على المركز الأول عام1998، كانت ليلى بصدد نشرالرواية على حلقات في جريدة الرياض السعودية، ماذا حدث ولماذا غيرت رأيها؟ تبوح: "عندما أنهيتُ الفردوس اليباب جهزت نسخة منها ، وبعثتها إلى صحيفة الرياض . كنتُ أود لو نشرت على حلقات كما حدث مع نصوص طويلة أخرى كتبتها من قبل ونُشرت في الرياضية. وعندما هاتفت الصحيفة بعد فترة من إرسالها لأسأل عنها ، تم تحويلي إلى الأستاذ سعد الحميدين الذي أخبرني بوصولها ، واعتذر بلطف عن نشرها لطبيعة ما تطرحه ، ولقيود النشر التي لا تخفى على أحد ، وقد احترمتُ مبرراته جداً ، وكنتُ على وعي بها حتى قبل أن أبعث النص ، أردت أن أحاول ؛ لا بأس في أن نحاول حتى لو انتهينا إلى فشل".
فتاة أقرأ وجهها في حرف ليلى، اسمعها في صوتها، كنت افتش عنها منذ انطلاقة الحوار، سأدعكم تتعرفون على (أمنيات) من الامارات، اجلبوا حزنكم لنفتته هنا، وادعوا بصوت خفيف أن تدوم وليلى: "يا الله ، كم عاماً مذ عرفتُ هذه البهية ؟ كانت تحرر صفحتين في مجلة الرياضة والشباب ، وقد راق لي ما كانت تكتبه فخططت لها رسالة صغيرة ؛ لم تكن أكثر من تلويحة لعينين عرفت فيما بعد أنها تريان ما أراه وربما أكثر مما أراه . نَمَتْ على أطراف الفضاء الممتد بين المدينة المنورة والشارقة كلمات كثيرة حملتها الرسائل ، وفي كل مرة كنتُ أسألها : لِمَ لم تكن ابنة الجيران أو رفيقة المدرسة ؛ لكن لو كانت كذلك أكان سيتغير الوضع كثيراً ؟ لا أدري ، لكن وجودها عنى لي كثيراً وقتها ، ويعني لي أكثر الآن".
ماعلاقتها برواية (الفردوس اليباب): "عندما أنهيتُ كتابة " الفردوس اليباب " ، بعثتُ لها بنسخة منها ، وكنتُ أفعل ذلك مع كل ما أكتبه . بعد فترة هاتفتني لتقترح عليَّ المشاركة في مسابقة الشارقة للإبداع . أخبرتني بالشروط ، والإجراءات ، وكل ما هو مطلوب ، ثم طلبتْ مني – في حال موافقتي – أن أبعث لها بنسخة مطبوعة على الكمبيوتر".
هل استجابت الكاتبة السعودية الجُهني إلى أمنيات؟ صوت ليلى يرتفع إلى الأعلى يختلط مع اغنية: " فعلتُ ، ولن أنسى أبداً الفرح الذي غمر صوتها وهي تهاتفني ذات مساء لتنقل لي خبر فوز" الفردوس اليباب " بالمركز الأول . ولم يكن ذلك كل ما فعلته أمنيات من أجلي".
تتابع طالبة الدكتوراة في كلية التربية للبنات في المدينة المنورة حديثها عن صديقتها الإماراتية: " إذ سهَّلت لي فيما بعد الاتصال بـ : خالد المعالي ، صاحب دار الجمل ، الذي تحمس للرواية ، ووافق على نشرها . أمنيات نعمة ؛ عليَّ أن أقر بذلك ؛ وعليّ أن أقر كذلك أن في حياتي نِعَماً كثيرة حلوة أحاول دائماً الحفاظ عليها ، مادمتُ عاجزة عن أشكرها كما يليق بها . ربما غابتْ عن حياتي مباهج كثيرة كنتُ أستحقها ، لكن الله لم يحرمني أبداً بهجة الصداقة طوال ما مضى من عمري". تبكي: " ما أن ألتفت حتى أرى وجوه الصديقات مزروعة في دروب حياتي . وجوه قليلة ، لكنها دافئة وحميمة ويمكن الركون إليها وغفران زلاتها . أمنيات تقطن الآن دبي ، ولديها ثلاثة أطفال ، وكتاب واحد ، وقلب واسع أظن دائماً أني لن أجده موصداً في وجهي ذات مرة".
قبل أن نغادر الامارات، تتلبسني رغبة جامحة لمعرفة تفاصيل رحلة ليلى إلى الشارقة، لاتخذلني، تسترجع الماضي القريب، تهطل بغزارة: " قضيتُ خمسة أيام مع أبي في الشارقة ، شاركت خلالها بورقة عمل عن " الأسطورة والأدب " ضمن ورشة العمل المرافقة للجائزة . وقد قوبلتُ بحفاوة من معظم من التقيتهم هناك ، وعلى رأسهم الدكتور / جابر عصفور ، الذي شدَّ على يد بابا ، وشكره لأنه ترك لـ " الزهرة " – حسب تعبيره – أن تتفتح دون قيود". الكلمات التي لوح بها البشر في الشارقة، التي عبروا عنها كتابة، صوتا، وهمسا كان لها اثر بالغ في اصرار ليلى على المضي قدماً :" سمعتُ كلمات كثيرة مشجعة جميلة ، ولعل من أكثر ما حفر فيَّ أثراً عميقاً كان أن يجلب نزيه أيوبه – أحد موظفي دائرة الثقافة والإعلام هناك – طفلتيه ليعرِّفهما بي لأني كما قال " قدوة طيبة " يحب لهما أن تتأسيا بها ، لم استطع حتى أن أشكره وقتها على كلمته تلك ، بدا الشكر شيئاً قليلاً إزاء ما قيل".
الفردوس بعد نحو 7 سنوات من صدورها مازالت تحظى بالكثير من الاهتمام والتناول والنقد، تقول الروائية السعودية في قلبها: " أتصدقين يا خالدة ؟مرتْ أيام كان الهواء يموت فيها مخنوقاً بين جسدينا الملتحمين عامر وأنا".
وفي صفحة اخرى كتبت ليلى في ذات الرواية: "أجل الأمريكيات اللائى كن يقدن سياراتهن في شوارع جدة منذ زمن بعيد.ربما منذ أكثر من عشرين عاماً.الآن يا خالدة، لا الأمريكيات ولا غير الأمريكيات يحلمن بقيادة سيارة واحدة في شارع خلفي من شوارع جدة". هل كون الرواية اخترقت التابو الديني والسياسي وراء انتشارها الكبير، خاصة أن المتلقي لم يعهد روايات بهذا القدر من الجرأة مكتوبة بأنامل كاتبة سعودية ؟ تبيّن لـ (إيلاف): " أكتب دون أن يكون في ذهني استهداف لشيء أو تابو معين . أعترف أني جريئة في كتابتي ، لكني لا أتعمد هذه الجرأة أبداً ، يحدثُ كثيراً أن أنتبه لجرأة كتابتي بعد تلقي ردود الفعل تجاهها . وبالنسبة لـ : " الفردوس اليباب " ، فقد كُتِبت بعفوية ولم تكتب بجرأة . على الأقل وأنا أكتبها ، لم يكن لديَّ هاجس الجرأة".
توضح: " إن افتعال الجرأة يشبه تماماً تلطيخ وجه طفلة بمكياج ثقيل ، ما أن تنظر إليه حتى تشعر بنفور منه ، وربما ترغب في مسحه ، وللفردوس وجه طفلة ، وربما سذاجتها ، لكن جرأتها غير مفتعلة أبداً . أتأملها الآن بعد كل هذه الأعوام ، ثم أقلب في مسوداتها الأولى ، وأتساءل مَنْ مِنا ستلتهم الأخرى ؟ مَنْ مِنا ستتجاوز الأخرى إلى ما ينتظرها ؟ لابد أن تفعل إحدانا ذلك ، وأتمنى أن أكون أنا من يفعله".
الكاتب كمال الخطي يرى أن ليلى قد اقتبست من فيلم (روب روي) واستوحت منه المفصل الهيكلي في روايتها.وذلك حينما قال عامر بطل الرواية (الحب مزبلة ياصبا وأنا ديكها المؤذن)، كيف كانت ردة فعلها عندما نشرت مجلة المجلة عنوانا تصدر غلافها يتعلق بسرقتها، ماشعورها ورسالتها الى الكاتب والمجلة؟ هل هي سعيدة لأن المطبوعات تستغل اسمها للترويج والتسويق لمبيعاتها؟ تجيب الكاتبة الجُهني: " لا أنكر أن العنوان قد ضايقني قليلاً ، لكني ابتسمت وأنا أقرأ ما كُتِب في الداخل . من حق مجلة المجلة أن تبحث عن الإثارة ، لكن الإثارة الرخيصة ستسيء لها لا لي ؛ لأني بصدق لم أتضرر مما كُتِبَ ، ولم أفكر حتى بنفيه أو الرد عليه ، لقد ردَّ صاحب المقال على نفسه بنفسه في ثناياه . وليس الجدل واحداً من اهتماماتي". تضيف ليلى في اجابتها على (إيلاف) : "أذكر أني قُلتُ لأحدهم وقتها إن المجلة تعمدت أن تضع اسمي بخط أحمر على غلافها مع غلاف الفردوس لأنها تعرف أن هذا الاسم سيلفت الأنظار وسيزيد من مبيعاتها ، وثق أن هذا شيء لا يسعدني ولا يضايقني على حد سواء ، شيء أعبره وأمضي لشأني ، في حياتي أشياء أهم وأجمل".
في مجلة المجلة ايضا يقول الروائي والصحافي السعودي عبده خال في سياق تعليقه على اختيار رواية ليلى الجهني ضمن مشروع كتاب في جريدة: "في تصوري ان اختيار –كتاب في جريدة- يخضع لعدة مقاييس وربما ثمة أمور ساهمت في اختيار الصوت النسائي السعودي وهذه الأسباب هي أولا وضع المرأة داخل السعودية الذي ظل فيه الصوت النسائي مهملا، السبب الآخر سعي جهات متعددة لتحريك شؤون المرأة داخليا وإلقاء الضوء على هذا الصوت وتقديم نماذجه". ( المجلة ، العدد 1296،كانون الأول/ديسمبر 2004)، ألا تظلمها الآراء التي تعتقد ان فوز روايتها في النشر عبر كتاب في جريدة يعد كونها انثى سعودية وليس نظرا لتميز الرواية فنيا؟ ترد: " أنا أعي مأزقي يا عبدالله ، قلت في لقاء نشرته عكاظ قبل فترة : " رددتُ كثيراً لأناس أثق بهم أني أتحسس من كوني امرأة وسعودية ، يشعرني هذا بثقل ، وبأني سأتعرض لا محالة للظلم إما بالمجاملة أو التجاهل . أعي مأزقي ، أعيه جيداً ، وأحاول كثيراً أن أتغلب عليه " . أحاول أن أتفهم ، وأضع الأمور في سياقها الصحيح . وأنا موقنة أن كثيرين يتهامسون بأن هناك أعمالاً أجدر من " الفردوس اليباب " ، وأحق بأن تُنشر في كتاب في جريدة ، وقد عبر بعضهم صراحة عن ذلك".
تبحث ليلى عن آذان صاغية: " أود أن يسمعوني وأنا أقول إني معهم وأشاركهم الرأي ، وأود كذلك أن يتفهموا أن ليس عليَّ أن أعتذر لهم عن اختيارٍ لم تكن لي يد فيه ، ولم أسعَ له ؛ لأني لو وقع الاختيار على أي عمل آخر ما كنتُ سأشعر بشيء سوى فرح لا ضغينة فيه ، والذين يعرفون ليلى عن كثب وحدهم سيدركون صدق ما أقوله هنا".
(في الجزء الثالث تكشف اسمها المستعار، تفاصيل روايتها الثانية، والأكل الصيني)