سؤال: حين نقدم غيرنا لغيرنا، ننصب لا شعوريا مرآة بضمير المخاطب أو الغائب نقدم من خلاله أنفسنا. ما رأيك في تكسير هذه المرآة بضمائرها ( المخاطب منها والغائب) والحديث مباشرة عن مشوارك الشخصي والأدبي؟

جـواب: هي طريقة تقليدية، لابد من المحافظة عليها.أـنا إنسان تقليدي وأحب المأثور. إن حدوث زلزال في عاداتنا وتقاليدنا أمر مخز ومهين. الغربيون أصبحوا يحنون إلى الماضي. لكن كما يقال: الصيف ضيعت اللبن.انقلابهم لن يجنوا منه سوى الأشواك. ثلاثون سنة وأنا أجوب بلدانهم  وأدخل منازلهم وأحضر مهرجاناتهم  وأقرأ صحفهم. العلمانية حطمت قدراتهم، حتى أفكارهم استسلمت وأصبحت لا تنتج سوى المعلبات والمثلجات وتعتمد على الأرقام والأسهم.

 

القاص والروائي المغربي محمد التطواني

 


سؤال: تجربتك مع النشر، كيف تقيمها؟
جـواب: النشر مصيبة... لم يكن يوما سهلا لا في البلاد العربية ولا حتى في أوروبا. واستسمحك حين أعكس المرآة على ظلال أوروبا لأني عشت فيها أكثر مما عشت في بلدي  والمقارنة مفيدة: ففي بلداننا العربية أنت في حاجة إلى (مغرفة) وزبونية وعلاقات ومصفاة وغربال  وطريق ستار وجرافة لتصل إلى الهدف وأن تكون ناسكا لأحد الأضرحة ليقبل ولاءك وتكثر من ربت الكتف أو تنزل عليك لعنة الكتابة وتصبح صعلوكا تسخر قلمك الذي يرضي صفوة من المشاغين، وأن تتجرد من ثيابك حتى من ورق التوت، وتحكي ما لا يقدر الشيطان عن حكيه، حتى وإن لم يكن أدبا.
في هدا الحال، قد لا تهرول في ناحيتك بعض الصحف فتظل غريبا منبوذا عند بعض الأوساط.  ولا تقبلك ضيفا عليها في بيتها. وغالبا ما يحتفظ بإنتاجك خارج البيت لأنه غير محتشم.
أما في أوروبا فالنشر لم يعد كما كان من قبل. لقد كان، كما أذكر، متورطا في السلوكيات والرموز بين الكاثوليك والبروتستانت وهي عداوة  حملها لهم عصر النهضة ورغم ذلك لم تكن تقر بالمواصفات كما هو الحال عندنا في الماضي والحاضر.
هذا بالنسبة لجزء من أوروبا كهولندا وبلجيكا على سبيل المثال. وهناك رقابة طبعا ترصد لبعض المواد التي لا تتلاءم مع طبيعة مجتمعهم وبعد هذا الانفتاح الذي طال النشر عندهم كارثة مما أطاح بقيمة الإنتاج الأدبي. وتورطت بعض دور النشر في طبع ونشر بعض أعمال بعض المهاجرين ممن يسمون أنفسهم شعراء وكتاب بالأحضان لنشر غسيل عيوب أبناء جلدتهم، جلهم من المهاجرين.
أما فيما يخص تجربتي ، فأنا بعيد عن الوطن وليس عندي وقت لأربت على الكتف وعلاقتي مع بعض الصحف سواء داخل المغرب أو خارجه هي من وراء حجاب. أنا ملتزم بالطريقة التقليدية كما ذكرت. دائما اصحب نصوصي برسالة شكر وتقدير وأنتظر دون يأس. لأن الكتابة لعبة تشفع فيها الرحمة.


سؤال: من خلال تجربتك مع القراء، ما هي أقوى ملاحظة اخترقت مسامعك ووجدانك من قارئ من القراء؟ وما هي أطرف ملاحظة تلقيتها من جمهور قراء تكتب له؟
جـواب: أنا بدأت الكتابة مبكرا ولم أقبل على نشر أعمالي سوى في نهاية السبعينات. وكانت التجربة الأولى مع جريدة العرب اللندنية. زرت صفحتها الثقافية عدة مرات ولسنوات وتنقلت بين أعمدتها. وكل علاقاتي في البداية كانت مع قراء من بلدان عربية وهم في نفس الوقت مبدعون بحكم تواجدي في هولندا وسفرياتي المتعددة إلى بلدان عربية وأوروبية. احتككت بقراء جراحاتهم تشبه جراحي وهمومهم يضيق بها هذا الكون   الفسيح . وبما أننا جيل فتح أعينه عن نكسات عديدة مند 67 إلى يومنا هذا فقد كان لابد أن تبرز بعض الملاحظات. أهمها بعض التوصيات وشكاوى لا تخصني أنا وحدي. تصب كلها في معنى: أن لا يكون القارئ في واد والكاتب في واد. والجمع بين القارئ والكاتب والشارع أمر ضروري لتوظيف الكتابة في عين المكان.
أما الشق الثاني من سؤالك. فبالنسبة للجمهور، منهم من يلتزم الصمت، ومنهم من يجاملك، ومنهم من يكون صادقا، ومنهم من يفضلك، ومنهم من يكرهك... وأريد أن أضيف أطرف ما  تلقيته وهو ليس ببعيد.
الحكاية وقعت بمدينة العرائش، شمال المغرب. فقد استدعيت من طرف نادي جمعية الموظفين للمشاركة في قراءات قصصية وحضر هذه الأمسية نخبة من الأدباء لهم وزنهم من العرائش وخارجها.كما كان الحضور متواجد بكثافة. باختصار تقدم ما يزيد عن خمسة أو ستة كتاب للمنصة لقراءة نصوصهم شعرا ونثرا. في صمت رهيب. فإذا بوجه جديد يطل علينا من المنصة. لم يكن من ضمن المدعوين شاعرة فرنسية، على ما أعتقد، قرأت قصائدها باللغة الفرنسية فإذا بالجمهور يهتز في النهاية من مقعده بهاليله الحارة. سألت أحد الحاضرين على يميني عن سبب ما يجري فقال:" لم يصفق لكم أحد أنتم الأدباء المغاربة لأن كلامكم كان واضحا. أما هده الشقراء فقد اخترق صياحها آذاننا دون أن نفهم لغتها. لهذا استحقت الشقراء الهرج والمرج".

سؤال: من هو قارئك المفترض؟ كيف تتصوره؟ كيف تتوقع تفاعله مع إنتاجاتك؟
جـواب: القارئ كالنحلة. يمتص غذاءه كما يشاء ومن حيث يشاء. سوف تجني على القارئ إذا قمت بعملية الافتراض. هناك قراء العناوين، وهناك قراء لآخر جملة من النص، وهناك من يهوى أن تكون مكتبته فيها فلان دون فلان... لكن هذه الحالة طغت على الكتاب واستثني القارئ العادي الذي لا زال يبحث عن ظله. أنا لا ألغي عملية الافتراض. لقد عاشها جيل الستينات والسبعينات بكثافة. كنا نقبل على استعارة الكتب رغم قلتها ونعيدها إلى أصحابها وقد احتفظت بها عقولنا من ألفها إلى يائها. فقد كان كل منا يحمل مكتبته معه في ذهنه. ورحم الله أستاذي أحمد السوسي حيث قال: "علمي حيث كنت ينفعني. كنت في الدار كان معي. كنت في السوق كان معي".
لم نعد نقدر على التحكم في خوصصة الافتراض في زمننا هذا نظرا لكثافة الاختراعات والاختصاصات والمتطلبات. الوحيد الذي يقدر أن يجمع كل هذه المواصفات هو "دكان التوابل" أو كما نعبر عنه بالعامية "العطار". ولهدا وداك، أذكر القارئ المفترض بالمثل العامي: "الضيف ما يتشرط ومول الدار ما يفرط".


سؤال: تختلي بنفسك، تسهر، تكتب، تنشر وتواكب ردود الأفعال القارئة وغير القارئة. لماذا كل هذا الإصرار على الكتابة في مجتمعات عربية ضعيفة الإقبال على القراءة ولا مبالية لكل الأشكال الثقافية المكتوبة؟ 
جـواب: الكتابة جنون وقد تكون ملاكا لا يمكن صده إلا بالاستسلام له. وهو ما ذكرته في الشق الأول من السؤال حرفيا: الاختلاء مع الوجع.. السهر للتصنت لما يوحى إليك.
ورغم أن الكتابة موهبة " تسونامية"  فقد تعرضت بعد نكسة.. نكبة 1967  إلى وجه فاحم حولها إلى كتل وانقسامات باغتت كل المبدعين وارتفع البحاح وتشوش الحال  مما صير أيامنا داجية مظلمة. ومنح الفرص للشامتين لقطع دابرنا.
هذه مجرد سهام مختصرة أذكرها. كانت حافزا جعلت من أمتنا شعبا خائر القوى في كل المجالات السياسية والعلمية والتكنولوجية.
حقيقة إنه اغتراب فادح، يزيد طولا وعرضا يختلف شيئا ما عن سقوط الأندلس في آخر محنتها. لكن أقول بتفاؤل: "إن شعبنا لن يحرق سفنه. ولن يتراجع ليرمي بجسده للجبناء، تلك أيام، وهذه أيام. وسوف يعود الكاتب إلى رشده والقارئ إلى عنفوانه".
حين تلتقي الأصابع مع بعضها ويسمع من هو فوق أنين من هو تحت.

سؤال:  الكتابة الإبداعية في زمن القرية الكوكبية، زمن العولمة، كيف تراها؟
جـواب: باختصار، بالنسبة للعولمة أقول فيها"لكم دينكم ولي دين". إذا كانت نسبة 80٪ في العالم الغربي تعلن رفضها لغيلان العولمة، فلم يبق لنا نحن العرب المسلمين سوى الشهادة. العولمة تخص فئة معينة وتضر العامل الكادح. والكتابة قطار لن يتوقف رغم أنف العولمة. مهما كشرت عن أنيابها. يبقى الإبداع بمحاذاتها يمج دخانه ويحسب له ألف حساب.


سؤال: " مطرب الحي لا يطرب" شعار عامي لكنه يلقى صدى لدى النخبة أيضا. فالمبدع العربي والمبدعة العربية محصنان ضد القراءة للمبدع الجار والمبدع ابن البلد. فأغلب المبدعين العرب حين يتعلق والأمر بإبداء رأي حول الكتاب الذين يقرؤون لهم، يقفزون مباشرة للضفة الأخرى والأسماء الأخرى. لمن تقرأ حاليا؟

جـواب: في اعتقادي أن مطرب الحي لا يطرب مثل شعبي في حد ذاته. يصف لنا عدوى ابتلينا بها مند أن فقدنا النورج أو سكة الحراثة. التي تساعدنا على قلب التربة وزرعها وحصادها.
وما دمنا لا نملك النورج، نحصد الأشواك عوض الورد.
ربما سألتني لمن أقرأ. سؤال يحرج الكثيرين  وأغلبهم يقفزون إلى أسماء العجم. وكان الحكمة في حوصلتهم. أو كـأن معاجمنا لا يوجد فيها من يضاهي الغربيين.
بالنسبة لي فأنا لا زلت أحتفظ بوصية والدي. أفتتح نهاري بتلاوة القرآن وبعدها لا شروط لي. كل من استطاع أن يعلمني حرفا أستطيع به أن أخدم مصلحة الإنسان أهلا وسهلا.

سؤال: أيهما أهم في الإبداع الأدبي: الخلفية النظرية أم النص الإبداع؟ هل تمتلك مشروعا جماليا يكسب نصوصك خصوصية وتفردا؟
جـواب:الإبداع كلمة مسبوقة بالجمال، كلمة لها معنائيتها التي لا تكتمل إلا بالصورة. كان مادة أو صوتا ويبقى النص جوهر الإبداع مادام يتفاعل مع عدة إيحاءات والدلالات وأسلبة اللغة. أنا لا أقول كان أبي ولا ها أنا ذا. المشروع الجمالي يختاره ويقرره القارئ  نحن صناع المادة، لا صناع قرار.

سؤال: الثقافة والسلطة، الإبداع والرقابة، والأفق اللامحدود والخطوط الحمراء... ما هو موقفك من هذه الثنائيات؟ وكيف تموقع كتاباتك بينها؟
جـواب: إما أن تكتب بيد يمنى ورجلك اليسرى على شفى حفرة أو تكتب لما يملا عليك. إنه لمرض بنا، أنمى فينا حضارة يشبه ذوقها  الدفلى  في مرارتها وكبح المبدع  وأنغص عليه عيشه.

سؤال: كيف تقيم هذا اللقاء الحواري؟     
جـواب: أود على هامش هذا الحديث إذا سمحت أن أضيف جرحا آخر. إننا أصبحنا لا نطاق في عيون الآخرين كأمة عربية إسلامية. تبهدلنا  كل أوصاف البشاعة جمعت فينا: فقراء، لاجئين، يتامى، مشردين، عاطلين... وما التصحر وقلة الماء إلا دليلا على غضب الأرض منا.

كاتب مغربي
محمد سعيد الريحاني كاتب مغربي، عضو اتحاد كتاب المغرب، وعضو هيئة تحرير «مجلة كتابات إفريقية» الأنغلوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في الترجمة من مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة/المغرب، 2021. وحاصل على شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من كلية الفنون الجميلة بجامعة لانكستر بإنجلترا، 2017.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية