عيناه الغائمتان، يده المرتعشة،صوته المبحوح، رأسه الذي كاد أن يسقط من جسده في الكأس التي يحملها بصعوبة، مشاهد شغلت أمريكا لأيام طوال، وقائع حفل وداع رئيس النشرة الإخبارية في شبكة (إن بي سي) توم بروكو (65 عاما) والذي نقلته جل القنوات الأمريكية مازالت عالقة في ذهني.
منذ 4 سنوات وأنا متابع نشط لنشرته المسائية على قناة شبكة (إن بي سي) الرئيسة، يستعرض عبرها تقارير صحافية وخاصة من داخل وخارج أمريكا، صوته المسلح بخشونة حميدة، ولهجته الصافية، وحضوره الجذاب يستقطب المسافرين والعابرين. عندما خصصت له القناة التي عاش في كنفها نحو 25 عاما برنامجا وداعيا، تحلق الصغار والكبار حول الشاشة، كانوا يتابعون الابتسامات التي يوزعها بروكو على مضض، هدوء خيم على ملامحه، قبل أن ينفجر بكاءً عندما سأله زميله مات لاور عن مشروعه الليلة بعد تقاعده عن تقديم النشرة المسائية اليومية، لم يستطع إكمال كلمة واحدة، لأول مرة منذ 40 عاما تقريبا قضاها توم في الإعلام يستسلم لدموعه أمام الكاميرا رغم معاصرته وتغطيته لأحداث تاريخية هزت أمريكا كاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام2001، عندما انتقلت القناة إلى الإعلانات التجارية بعد أن فشل الجميع في انتشال المذيع بروكو من دموعه التي حبسها بين ضلوعه طوال 6 عقود وتدفقت فجأة، شعرت أن أمريكا كلها تجفف دموعها.
كل القنوات الإخبارية والمنوعة خصصت برامج لبروكو، شملته بحنانها واهتمامها، قال لصحيفة الواشنطون بوست: "هل فعلا أستحق كل هذا؟ المهم أنني لن أبكي كمافعلت أمس".
بروكو المولود في 2/6/1940 بساوث داكوتا (شمال أمريكا)، التحق بتخصص الصحافة بعد أن شاهد تقريرا إخباريا بثته قناة الولاية المحلية آنذاك عن سوء صيانة الحديقة المجاورة لمنزلهم، يقول: "كنت أراقب أيادي أمي وأبي وبقية أسرتي وهي مشغولة بالتصفيق للمراسل الصحافي رغم أنه لا يسمعهم، ذهبت مباشرة إلى غرفتي، مسكت قنينة عطر فارغة، وأخذت أتكلم عن أستاذ الرياضيات وحزمه البالغ، أعجبت بأدائي أمام المرآة، انهال التصفيق على مسامعي، خرجت من الغرفة واكتشفت أن التصفيق للمراسل أيضا، حينها قررت أنه يجب أن أنتزع هذا الإعجاب يوما ما".
طوال دراسته كان يفكر في التخرج والتفرغ للعمل التلفزيوني، قبل أن يستلم وثيقة تخرجه حزم حقائبه إلى ميامي في ذيل أمريكا، قدم على برنامج التدريب في محطة (دبليو تي في جي) في يونيو عام 1962، قابله رئيس الأخبار في القناة آنذاك رالف نيك، أعجب بطموحه وحماسته، قال له رالف وفق موقع قناة (إن بي سي السادسة): "ستخضع للتجربة، سنمنحك 100 دولار أسبوعيا". قبل أن يكمل رينك وافق بروكو، لكن سرعان ما تلاشت سعادته بعد أن رفع فريق المتابعة في المحطة تقريرا إلى رئيس الأخبار مملوءا بالملاحظات يطعن في مهنية توم ويشكك في فعالية وجدوى وجوده بينهم في الأيام المقبلة، رالف الذي عرض مائة الدولار السابقة، منح توم نصفها وأبلغه بالتقرير وما تضمنه.
غادر اليافع بروكو ميامي متألما لأنه تزوج بناء على قرار تعيينه الذي لم يستمر أسبوعا، ذهب إلى أطلانطا، ثم إلى لوس أنجلوس حيث تعاقدت معه شبكة (إن بي سي)، عمل أيضا مراسلا للمحطة في البيت الأبيض وغطى قضية ووتر جيت التي أدت إلى استقالة الرئيس الأمريكي نيكسون، يقول: "قرار استبعادي من محطة ميامي كان إيجابيا، شكرت رالف كثيرا لأن قراره جعلني أدخل التاريخ وأصنف ضمن أفضل المذيعين على مستوى الولايات، الاستقالة ليست سيئة دائما، تفضي أحيانا إلى نجاحات مدوية، المهم أن تتوفر أبواب جديدة".
أبواب جديدة، جملة متكاملة قالها بروكو ومضى، سألت نفسي مرارا بعد أن طرقت العبارة رأسي، هل توجد أبواب وخيارات كثيرة في وطني؟ لن أتمدد وأتحدث بشكل عام، سأنهمك وأركز على المجال الإعلامي، هل سيستطيع طالب ثانوية عامة في الوطن -يملك موهبة وحس صحافي- أن يتخصص في الإعلام؟ هل ستشرع له الأبواب في الفضائيات والقنوات السعودية (المحطات الخاصة التي يمولها سعوديون يشملها الحديث السابق) أو على الأقل تتاح له الفرصة؟ سأدعوكم للإصغاء إلى خالد الخليف (31عاما) والذي قابلته في مطار الملك فهد بالدمام قبل 3 سنوات تقريبا، كان متوجها إلى أبو ظبي لتقديم أوراقه في محطة إذاعية، لا أدري إذا تكللت رحلته بالنجاح أم لا، قال لي: "أحب الميكرفون بشكل غريب، أشعر أن الإعلام مكاني المناسب، لكن لم أحظ بترحيب عندما زرت مكاتب إذاعة الرياض قبل فترة، سأحاول في الخارج ربما أحصل على فرصة وأعود بخبرة تنفعني إذا عدت إلى وطني".
أدرك أن الثلاث السنوات الماضية كانت مفعمة بالتطوير والحركة والنشاط لكن نأمل فعلا أن تتاح فرص أكبر للعديد من الشبان الذين لا يرغبون سوى في فرصة وتجربة عادلتين، هموم الشباب يجب أن لا تُغيب الأسماء الناضجة التي ملأت إعلامنا وغابت لأسباب متفاوتة دون تكريم لائق من الوسائل الإعلامية، ألا يستحق المذيع القدير الأستاذ ماجد الشبل برامج وتقارير وصفحات خاصة جراء مساهماته الجادة واستقامته وخبرته؟ أعود باستمرار إلى كلمات كتبها صديقي المهندس عبدالرحمن صقر حينما التقى القدير الشبل في مصحة بالتشيك: "حكاني عن أيامه في جامعة دمشق وعن أشعاره القليلة الرائعة. حكاني عن بداياته وحواراته مع نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم واستطعت أن أقنعه (ربما أشجعه فقط) أن يدون هذه الخبرة في كتاب أختار له عنوانا (أربعون عاما مذيعا).
سبقته ذات يوم على اقتناء آخر نسخة من صحيفة (الشرق الأوسط) وعرضت عليه عرضا ماكرا أن أعطية الجريدة شريطة أن يقرأها لي بصوته فوافق بعرض (أكثر مكرا) أنه سيقرأها على مسامعي في التاسعة مساء موعد نشرة الأخبار!!".
هل تذكرون المذيع عوني كنانة (رحمه الله)؟ ربما، ولكن هل سيتعرف عليه الجيل المقبل؟ حزن ينتشر في أرجاء جسدي، عندما أذكر أن رجلاً بقامة الأستاذ عوني رحل دون أن نكرمه كما ينبغي دون أن نحتفل به، مات قبل نحو عامين في منزله، توفي بهدوء، بعد أن قرأ آلاف النشرات الإخبارية على مسامعنا، كنا نتلقاها بجدية تامة، عندما يظهر الأستاذ كنانة، أمارس وغيري صمتا يتناسب وأهميته، كان معلما بدون طباشير، مدرسا بدون قلم أحمر، كنت أتمنى لو قام تلفزيوننا العزيز بتأريخ تجربته بالكلمة والصورة للأجيال، نسيت أن أقول لكم إنني تعرفت على والد المذيع توم بروكو، جدته، أحفاده، والحي الذي ترعرع في وسطه، طالعت الحدائق والمقابر التي مر بجوارها عبر حلقتين وثائقيتين أنتجتهما (إن بي سي) عن مذيعها المتقاعد بالتزامن مع توزيع كتاب يحكي مشواره، يزخر بالصور والمعلومات التي استثمرت بعضها في هذه المقالة...