قبل عدة سنوات، وتحديدا أثناء دراسة اللغة الإنجليزية في أحد المعاهد المتخصصة بأمريكا، واجهت واجبا ممضا يتمثل في إعداد مشروع يتعلق بالحديث عن تجربتي الدراسية في وطني بالكلمة والصورة أمام الفصل المحشو بالطلاب الأجانب، تواثب الحزن من كل الأمكنة، لأني أدرك أنني لو عثرت على الكلمة فلن أقبض على الصور التي تجمعني مع رفاق الفصل السابقين، فالكاميرا ممنوعة في مدارسنا، ولا تتوافر إلا في مناسبات طفيفة وتنتقل وسط جيش من الأسئلة والتحقيقات... أذكر جيدا كيف خنقني الفصل بيديه المتوحشتين، وأصابعه الوعرة، عندما بدأ الطلاب في استعراض صورهم ذات الجودة العالية التي تحتضنها إصدارات خاصة تذيعها مدارسهم في، اليابان، بوليفيا، المكسيك، رومانيا، روسيا وغيرها، مع نهاية كل عام وسط حفاوة بالغة من إدارت المدارس تعبر عنها ابتسامات الطلاب الفائقة وفرحهم المدهش الذي ينزلق من الورق ويتبعثر وينتقل إلى كل مكان إلا أنا. بقيت مرتعشا أتحدث بقلق على مسامع الفصل الباسم، ارتجف وصورة صغيرة تجمعني مع صديقين ماضويين وسط ظلام دامس، نتقاسم كعكة، امتصت كريمتها أنوفنا اليافعة.
غياب الصورة منذ مراحل مبكرة جعلنا من أقل شعوب العالم استثمارا لتراثتا وثقافتنا، من أقل شعوب العالم حملا للكاميرات في الداخل والخارج.
نسافر ونعود متأبطين ذكريات لا تلبث أن تذوب، لا نتذكر رحلاتنا إلا من خلال فواتيرنا وجيوبنا الفارغة!
رغم غياب التأهيل والاهتمام والتوعية في السعودية بالتصوير والمصورين، إلا أن هذا لم يمنع ظهور أسماء رصدت زوايا متميزة، كافحت في سبيل هوايتها، مثل: عيسى عنقاوي، الدكتور طارق الجهني، الدكتور حسن بن أحمد عبيد، عبدالغفار المطوع، خالد الحربي، مصلح جميل، زكي الغواص، ضاحي العلي، فيصل المغلوث، سلطان منديلي، حسن النمر وغيرهم.
أيضا لا نغفل المصور علي المبارك الذي يحمل شهادة في التصوير الفوتوجرافي من إحدى الجامعات الأمريكية كأحد السعوديين القلائل الذين عززوا موهبتهم بشهادة علمية في هذا الاتجاه.
لكن لا يمكن أن تنجح هذه الأسماء وتتألق أكثر إذا لم تجد عناية وتجد بيئة تتلقفها بذراعين ممدودتين وابتسامة غير مفتعلة.
يقول المصور السعودي عبدالعزيز عيّاش لصحيفة الوطن :"لا تزال النظرة لهذا الفن قاصرة إلى حد ما. فنجده مثلاً غير متقبل لوجود المصور الفوتوجرافي وهو حامل آلة التصوير الخاصة به, ونجده بعيداً عن الأنشطة والمعارض المقامة لهذا الفن, ونظرته سلبية في أغلب الأحيان".
النظرة السلبية وعدم التعاون مع المصور جعلا أغلب اللقطات التي نطالعها تنحصر في زوايا محدودة، بينما العالم ينتظر صورا ترصد نبض الشارع، وتعبر عن المجتمع المزدحم بالعباءات والأشمغة التي تتحرك بانتظام دقيق في الأماكن العامة، الكل يتابع الصور المكرورة للوجوه السعودية في الصحف المختلفة لانعدام البدائل، وفقر مراكز المعلومات ومحركات البحث.
المصورة الأمريكية ليندي زيفاريه، زارت السعودية لمدة أسبوع، أثناء رحلة عمل لدول عدة في الشرق الأوسط، عبرت عن إعجابها بما رأته لكنها لم تخف حزنها من تجريم التصوير وعدم تشجيعه: "فوجئت عندما علمت أن السعودية باتساعها لا تملك كليات متخصصة في الفنون البصرية وتحديدا التصوير الضوئي، اعتماد الصحف على أجانب في التصوير غير مجد".
حزن ليندي يذكرني بقصة رواها لي زميل تعرفت عليه في صحيفة فلوريدا هليراد، جيمي فيري، صحافي ذهب إلى إندونيسيا لتغطية تداعيات المد البحري (تسونامي) الذي عض بأسنانه البشعة شواطئ آسيا، رحلة جيمي كانت مكلفة جدا على صحيفته، تساءلت قبل نحو شهر عن جدوى الرحلة في ظل وجود وكالات أنباء تتابع وترصد المستجدات عن قرب، فيري لم يجعلني أمعن في التفكير جاء من هناك ومعه روايات وصور حصرية أذاع بعضها في ملحق منفصل حقق أرباحا قياسية، بعد أن شاهد القراء جارهم، صديقهم، وابنهم يتدفق مع الأمواج بعد أن هدأت ويحاور أسر الضحايا مرتديا قبعة مكتوبا على رأسها ميامي، ويحمل في يده اليسرى مسجلا أنيقا ترقد في حضنه صورة برتقالة تعكس رمز المدينة التي أرسلته إلى آسيا سفيرا وصحافيا، جيمي لن يكتفي بالملحق بل سيستثمر مشاهداته الميدانية في كتاب يعكف عليه حاليا بدعم من صحيفته...
ربما نخلق أعذارا لمؤسساتنا الصحافية بسبب غياب مراسليها عن تغطية حرب العراق نظرا لمشاكل الأمن فضلا عن خطورة وجود سعودي على أراضيها كونه مشتبها به منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكن لا أجد مبررا لغيابنا عن المشاركة الصحافية في نقل الألم الذي خلفه (تسونامي) على وجه إقليم آتشه وجيرانه، صور وكالات الأنباء والصحف الأجنبية غير قادرة على إشباع رغبتنا في الاطلاع على صورة الحياة اليومية لأشقائنا المسلمين والمنكوبين بعد الكارثة وردة فعلهم تجاه المساعدات الإنسانية.
ما أتمناه فعلا أن يتم الاهتمام بالصورة أكثر في وطني فهي وسيلة حضارية لنقل مشاعرنا، فعالياتنا، عفويتنا إلى العالم الجائع، الذي يبحث عن أخبارنا، عاداتنا، صورنا، يفتش عنها في الصحف، التلفزيون، أدراج وتحت أسرة الإنترنت.
علينا أن نفتتح كليات متخصصة في التصوير الضوئي تعود إيجابا على صحافتنا وإعلامنا، وينبغي أن نثقف أطفالنا بماهية الصورة ودورها، وأن نعزز قيمتها كمهنة، ويجب أن نصرف من وقتنا ومالنا لنخلد اللحظة ونوثقها، حتى يطلع عليها أحفادنا وأصدقاؤهم في العالم.
حان الوقت لنشرع الباب للمصورين الطموحين للعمل وبلورة أفكارهم في مناخ مفعم بالدعم والتشجيع.
إلى متى تصبح الكاميرا شبحا مخيفا، نرجمه ونجرمه، نقمع عينه الواسعة، فوبيا التصوير يجب أن تغادر متى ما واجهناها بثقافة عالية بعيدا عن خوف لا طائل من ورائه.