الجزء الأوّل: أربعة وأربعون صحافيًا يتحدون الوقت القلق
تتحرك الأردنية دانة صياغ بانفعال في صالة التحرير، تذهب من طاولة إلى أخرى كأنها تبحث عن قلادتها المفقودة، تطير باتقان في صالة تكتظ بأجهزة الكمبيوتر والأجساد الملونة والأوراق. كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف ظهراً قبل موجز أنباء الثالثة بتوقيت السعودية، ظلت دانة تركض ومن خلفها شعرها البني المرصع بخطوط ذهبية مخبوءة وعيوننا التي تراقبها باهتمام إلى ساعتين لاحقتين. "إنها فراشة لاتهدأ"، قال الصحافي في العربية فارس حزام، معلقاًعلى حركتها الدؤوبة وملابسها المقلمة بألوان زاهية تتحد في أمكنة وتنفصل في أخرى. ليست مديرة التحرير في قناة "العربية" الإخبارية دانة صياغ الوحيدة التي تفوح منها رائحة النشاط الوخازة. عبق القلق والانضباط يسيطرعلى المكان منذ أن هبطتُ إليه ظهر إثنين مضى وعلى وجه التحديد عندما ترجلت من سيارة مقدم برنامج "اضاءات" السعودي تركي الدخيل ذات الدفع الرباعي "كيان بورش تيربو" باتجاه صالة تحرير قناة "العربية" في الدور الرابع بمبنى تنمو في أوردته قنوات "ام بي سي" المتفرقة.
9 ساعات قضيتها وحقيبتي بين مكاتب تتألف من وجوه مألوفة ونوافذ مبتلة بالبحر سأرويها على 4 حلقات.
نظرات وخشوع
فور أن غادرت سيارة المذيع والصحافي السعودي الدخيل ،توجهت معه إلى مكتبه في الطابق الخامس مقابل مكاتب فريق موقع "العربية نت" المكون من 15 شخصًا بين محررين وفنيين، تركني الزميل تركي انطلق باتجاه نافذته الكبيرة المطلة على فندق مصمم على الطراز المغربي التقليدي، ترفرف من على سقفه أعلام دول عديدة، بينما هو انشغل بطباعة مواد سبق أن وضعها على سطح مكتب جهازه، لملم الدخيل أوراقه ثم انصرف من مكتبه بعد أن استأذن مني بلباقة كالتي يكررها كل أربعاء بين فواصل برنامجه "اضاءات" عندما يقول: "سنعود لمواصلة حوارنا بعد الفاصل، فابقوا معنا". ودعني مؤقتا معتمرًا انشغاله، غيابه لم يمنع عيني من استكشاف مكتبته المطلية باللون الخشبي الداكن عن بُعد حيث يطل من رأسها كتاب "لاتحزن" للداعية السعودي عايض القرني الذي استضافه تركي في حلقة سابقة كما تتنافس روايات وكتب جمة على لفت انتباهي، لكن حال دخول رئيس تحرير موقع العربية الإلكتروني د. عمار بكار لمكتب تركي من ملاحقتي لفضولي. صافحني بكار بحرارة بيده اليمنى في حين تزدحم اليسرى بهاتفه الجوال الذي يحتفظ به داخل غطاء جلدي أسود أنيق ومسبحة فضية كأنها نجوم تغرق بين أصابعه ووسط نظراتنا.
خرج عمار إلى فريقه ودخل الصحافي فارس حزام (28عاما) برفقة ترحيب بالغ يواكب غياب 5 سنوات لم نشاهد فيها بعضنا، سكبنا الأسئلة المتبادلة بارتجال واستعجال ثم نهبنا الصمت لبرهة، فالتهمنا ملامحنا بنظرات مركزة، قطع نجم "اضاءات" خشوعنا بعودته والقلق الذي يمضغه كونه يستعد لمقابلة ضيف حلقة مقبلة حينها وهو الدكتور سعد البازعي، دعاني فارس إلى جولة في أرجاء "العربية" بعد أن قطف الفكرة من شفتي الدخيل وانتزعها من عيني.
فراشة دبي وفراشة تورنتو
توجهنا جنوباً الى المصعد الذي نقلنا الى الدور الرابع، عطر "كوكو شانيل" من شانيل و"ويش" من شوبارد وهوت كوتيور من"جيفنشي"، و"بلو ليبلز" من ديفنشي روائح لعطور زكية مألوفة تنبعث من صالة التحرير المقبلة، وصلت إليها يتقدمني فارس إلى مكان يعج بالكاميرات والتلفزيونات، والأرواح والروائح، مليء بالحياة.
44 صحافيًا يتوزعون بدقة حول أجهزة كمبيوتر تصرخ مع أي خبر عاجل، حيث ينهمر الصوت من السماعات المنتشرة كأنه صوت صفارات انذار التي تعرفنا عليها جيداً أثناء أزمة الخليج عام1990 في السعودية، تبدو في الجهة اليمنى في الصالة المزدحمة فتاة في العقد الثالث من عمرها ترتدي سترة زرقاء فاتحة، أسفلها قطع ملونة ونشطة كجسدها الذي يدور بين المكاتب بوضوح تام، سألت فارس عن هويتها فأخبرني أنها مديرة التحرير المناوبة الأردنية دانة صباغ، انتظرتها حتى تفرغ من نشرة الثالثة عصراً لأناولها أسئلتي التي شيدتها أثناء متابعتي لحضورها الفعال في صالة تغص بالبشر، تقول دانة التي تخرجت من ثانوية آمنة بنت وهب في العاصمة القطرية الدوحة، إنها تعمل حاليا مع عدد من زملائها على وضع اللمسات الأخيرة لبرنامج صباحي يذاع يوميا على العربية يحمل تفاصيل غير تقليدية، يعتمد على التقارير الميدانية من مراسلين متفرقين يختلف تماما عن البرامج الصباحية التي تقدمها القنوات العربية بمافيها ماتقدمه قناة "الجزيرة": "لن يكون سياسيا صرفا كبرنامج الجزيرة الصباحي".
صباغ التي حصلت على اجازة في الدراسات الاسلامية من جامعة تورنتو بكندا ،بدأت علاقتها بالاعلام عام 1992عندما تعاونت في الاجازات الصيفية مع الاذاعة القطرية كمحررة ومذيعة في القسم الانكليزي، ثم انتقلت كمحررة مبتدئة في قناة "الجزيرة" بعد حصولها على البكالوريوس عام1996وتدرجت في أحشائها حتى انتقلت إلى العربية أبان تأسيسها.
وجه صياغ الذي يفيض عافية يشبه إلى حد ما تيريزا فرانسيس فيرونيكا بورك الكندية المولودة بتورنتو في 11 أيارعام 1956، ذاع صيت تيريزا عندما روت سيرة ستيفن تروسكوت الذي اتهم في جريمة قتل بشعة عام 1959 وحازت بسببها على جائزة الجمعية الكندية للصحافة عام 2000.
دانة قريبة من تيريزا ليس على صعيد هيئتها فحسب بل حتى على صعيد تجربتها حيث ترعرعت الأخيرة في كواليس الاذاعة الكندية الأولى "سي بي سي" التي كانت تتنقل في أرجائها كـ"فراشة لاتعرف النعاس" كما عبر الصحافي الكندي شاري ليشفوردعن انطباعه حولها.
أثناء الحوار القصير الذي دار بيني وبين صباغ، هطل الصحافي السعودي مساعد الثبيتي-ضمن فريق البرنامج الصباحي المرتقب- على مكتبها لمناقشة أمر ما، عبدالرحمن الراشد و الدخيل وحزام والثبيتي ليسوا السعوديين الوحيدين الذين يعملون في "العربية"، فيتوافر بين أكتافها غير سعودي من بينهم: فهد العتيبي،جمال بنون، سارة عبدالعزيز فضلا عن مالك عبيد، أبرز مخرج في القناة المتخصصة والمتواجد حاليا في الرياض لتدريب وجوه جديدة في أقسام مختلفة.
تختلط في العربية الوجوه والجنسيات، فكما هو معروف يدير القناة السعودي الراشد فيما الدكتور نبيل الخطيب (فلسطيني) مساعدا لمدير الأخبار، ويترأس التحرير كل من: اللبناني عبدالستار اللاز(رئيس تحرير التغطيات الخاصة)، المصري هشام الديب، المصرية مديحة سلطان.
في حين كانت صالة التحرير تغلي بسبب متابعة الشأن العراقي والانتخابات الايرانية انتقلت إلى "القالري" الذي يبتل بنحو 24 شاشة ترصد التفاصيل في الاستوديوهات المجاورة، تابعت بينهم مايدور في القالري بين المخرج ورفاقه السبعة، راقبت بتأن الجمل التي يغرسها المخرج في أذن مذيعة النشرة قبل أن أعود إلى الصالة التي طالما أثارت المشاهدين. (يتبع)