يزدحم مكتبه الصغير المفتوح و الواقع في منتصف صالة تحرير فضائية "العربية" بالجائعين و الصحافيين، يخرجون منه تعلوهم علائم الشبع، ومطرزين بإبتسامة طازجة. أسلوب رئيس تحرير"العربية" المصري هشام الديب(50 عاماً) يوحي بأنك أمام قطعة كعك هائلة، يتذوقها المارة دون أن تنفذ " الصحافي المأهول بالثقافة كقطعة شكولاتة مغرية، تدنو منها بشراهة كأنك لم تأكل قط"، مذيع قناة (ان بي سي) الأميركية توم بروكو كاشفاً عن عدم مقاومته للصحافي المؤهل في حوار مع يومية " لوس انجلوس تايمز". ملامح الديب الصارمة تخفي تحتها قطع حلوى طرية لا يتذوقها سوى زملائه و من تتاح له فرصة الحوار معه، مما يجعلهم يلجأون إليه في السراء و الضراء و حدانا و زرافات، يمنحهم دائماً إجابات هادئة ودسمة تساهم في تفتيت قلق يجتاح صالة تحرير العربية الملأى بأخبار الوفيات، الاصابات، والسيارات المفخخة.




مغامرة وترحال


استمد هشام خبرته في السيطرة على انفعالاته من خلال تراكمات اكتسبها من تنوع المواقع التي تحرك تحت سقفها، بدأ عمله في جريدة "العمال" المصرية التي التحق بها بعد تخرجه من الجامعة عام 1976. انتقل عام 1980 الى الاذاعة القطرية( القسم الانكليزي ) بعد أن ادى الخدمة العسكرية في مصر، ثم انضم الى طاقم فضائية" الجزيرة " أبان تأسيسها عام 1996 بعد أن عاد من كندا التي هاجر إليها مؤقتاً. حط رحاله في"العربية" في آذار(مارس)2003 حتى اللحظة بعد عرض قدمه له زميله صلاح نجم و أبدى الديب استعداده للانتقال منها إلى قناة أخبار عربية جديدة شريطة أن تبث 24 ساعة وقادرة على المنافسة : " لن أغلق بابي أمام أي عرض أجده مناسباً، يستهويني التحدي ".
الهدوء الذي يستقر على وجنتي الديب نبت بسبب تنقله بين المكاتب و المؤسسات الإعلامية التي عمل في خلاياها. يرجع المحرر الصحافي في قناة " اي بي سي" رون كليبورن الفضل في ديمومة نجاحه و ردود فعله المدروسة تجاه الأحداث و الكوارث التي يتابعها و يذيعها إلى التجربة العريضة الني نالها من ترحاله "المغامرة ساهمت في صقل تجربتي". كليبورن قبل انتقاله للتلفزيون عمل مراسلاً لصحيفة نيويورك ديلي من 1980-1982و قبلها مراسلا لوكالة الصحافة الدولية من عام 1977 الى عام 1980، بدأ حياته صحافيا مستقلا في ريتشموند بولاية كاليفورنيا(غرب أميركا).
بعد أن سرقت عدة دقائق من جيب رئيس تحرير العربية توجهت إلى طاولة خلفه يطوف حولها 3 شبان بينما آخر يطبع على الشاشة ما يقرأونه على مسامعه، تركتهم يفرغون من مهمتهم ثم سألتهم عن طبيعة عملهم فأجابني التونسي رياض عاشور برحابة صدر بأنهم يقومون بكتابة شريط الأخبار، عاشور القادم من اذاعة صوت ألمانيا يقرأ حاليا مواجيز الأنباء بدبي فضلا عن المساهمة في تصويب الأخطاء اللغوية والإملائية في الفضائية الإخبارية المتخصصة، تحداني أن أجد خطأ واحدا على الأخبار التي تمر أمام المشاهد"أجزم أننا لانسمح بمرور أي خطأ في العربية". رفض قبول تهم وجهتها له حول سلامة لغة شريط الأخبار بدون أدلة مادية، لم أتمكن من هز رأسي حينها بشدة لتقع الأخطاء التي رصدتها سلفا على الأرض ثم أضعها على طاولته.





"سيدرا" ونميمة


لاتنحصر علاقة الصحافيين في "العربية" بساعات الدوام، سمعت عن لقاءات ومواعيد بين غير زميل أثناء تجوالي في الصالة المثيرة، يجتمع "عربيون" نسبة إلى العربية عند الساعة العاشرة مساء حتى الثانية فجرا يوميا تقريبا في مطعم " سيدرا "الكائن في شارع الضيافة بدبي و منهم: مصطفى فحص، وصفي الأمين، مالك عبيد، دانة صياغ، نجوى قاسم، فارس بن حزام، علي برده. " نقضي الساعة الأولى في نميمة عن الزملاء، نفرغ الشحنات التي تخالجنا جراء العمل المتواصل، نبدأ في الساعة الثانية الحديث في شؤون و شجون أخرى"، قال فارس بن حزام الصحافي المتخصص في أخبار الخليج و القاعدة في " العربية " حول اللقاء الخارجي مع رفاقه.
فارس الذي تعرفت عليه قبل 10 سنوات في حي البادية بالدمام- شرق السعودية - و على وجه التحديد في مقر جريدة " اليوم" السعودية السابق لم يختلف كثيرا عنه حالياً، بدا فقط أكثر شجاعة و خبرة، و أصبح يسهر في دبي بعد أن كان يذهب الى الفراش مبكرا في السعودية.
يعيش فارس في احدى فلل" تلال الإمارات" بعد ان استقر في دبي منذ 6 شهور جراء انتقاله إلى العربية في كانون الأول(ديسمبر) بعد أن اعتزل الصحافة الميدانية التي برع فيها بالسعودية عندما كان يتصدى لأخبار القاعدة والمواجهات الأمنية ببسالة لمصلحة جريدة "الشرق الأوسط".
ينفي ابن حزام أنه الابن المدلل لمدير عام " العربية " عبدالرحمن الراشد" لم أعمل مع الراشد في الشرق الأوسط سوى 7 شهور و الابن حتى يولد بحاجة الى 9 شهور".
لا ينوي فارس الاتجاه الى تقديم برنامج على شاشة العربية، يبين :" لست متحمساً و لم أفكر في هذا الأمر نهائياً، لا هيئتي و لا صوتي يسمحان لي بتقديم برنامج، مقتنع بطبيعة عملي الحالية، و الظهور التلفزيوني المقنن للتعليق على احداث معينة".
تعلم الصحافي السعودي من العربية" الايجاز، و سرعة الانجاز" يستشهد فارس بالمواجهة الأمنية التي شهدتها محافظة الرس- وسط السعودية - والتي استغرقت نحو 60 ساعة، و كيف صرف 52 ساعة خلالها في القناة لمتابعة الحدث و تحديث التقارير أولاً بأول : "القناة الفضائية جريدة لكن ليست بطبعتين كالصحف التقليدية بل 24 طبعة، بحاجة إلى مواكبة آنية و اختصار مركز".
لم يتزوج فارس بن حزام( 28 عاماً )- يحمل بكالوريوس إعلام من جامعة الملك سعود بالرياض- رغم انه رسم خريطة طريق لم تكتمل ترشده إلى زوجته : "يجب أن أكون مخلصاً، لست مستقراً، و لا استطيع أن اخدع نفسي و شريكة حياتي، كدت أن اتزوج في فترة سابقة لكن أحسست اني سأظلمها".
فارس غير مستقر في العربية أيضا: "قبل أن التحق بالعربية قلت للراشد أني ربما لا أستمر أكثر من 3 شهور، راقت لي دبي و العربية فاستمريت، لكن لا أضمن البقاء، ربما اغادر في أي لحظة".
وجه الصحافي السعودي القدير محمد صادق دياب رسالة إلى فارس عبر موقع"جسد الثقافة" قال فيها: "جنونك الجميل قد يتعبك وظيفيا و لكنه يظل رأس مالك مهنياً، أكثر الله من أمثالك شجاعة و نقاء و عفرتة".




جوع ودوار


هبطت من مكتب الزميل تركي الدخيل- مقدم برنامج"اضاءات"- في الطابق الخامس الذي احتضن حواري القصير مع فارس إلى الدور الرابع، جذبتني ابتسامة رجل يطل من غرفة هندسة الصوت التي تقع في الجهة اليسرى لصالة التحرير و يتناوب عليها 8 مهندسين هم : بشير سعد، محمد دبوني، سمير محسن، محمد البنا، وائل جبال، ادرلف شرتوني، جو حبيب و عماد فخري الذي رحب بي و فارس بحرارة بالغة، بعينين واسعتين تحتمي خلف نظارات بإطارين رقيقين، و شرح سريع تتخلله ابتسامات غير منتظمة، أخبرني أنه يتخصص في هندسة صوت الحفلات التي تذاع عبر " ام بي سي" فضلا عن دوره في تنقية الصوت لبرامج ونشرات أخبارتقدمها العربية.
بعد خروجي من الغرفة الفارهة تقنيا التقيت صدفة بمقدم"استفتاء على الهواء" أحمد حسني، بدا مرهقا للغاية، صافحته على عجل، خشيت ان يقع بينما استعدت الأجساد المجاورة للتحول تلقائيا إلى أسرة ينام عليها في حالة سقوطه المتوقع على الأرض من فرط التعب الذي يرتجف في عينيه وجبينه. انتقل الألم إلى جسدي أيضا، الجوع هاجمني بعنف، خلال 6 ساعات منذ دخولي إلى العربية آنذاك لم أشاهد زميلا يستأذن للخروج للغداء أو العشاء، شاهدتهم فقط يقطفون حلوى تتوزع بعشوائية على المكاتب المتفرقة فضلا عن الأخبار.
مرت بجواري أثناء مغادرتي للمكتب الذي كان يجلس خلفه حسني الصحافية الفلسطينية ميرهان الدسوقي بحجابها الوردي الذي يلتف بأناقه حول رأسها و عنقها، لفتتني طريقة حوارها مع مديرة التحرير دانة صياغ، شغلتني ابتسامتها المتبادلة مع دانة في طريقي إلى مكتب حسن معوض"مدير اذاعة ام بي سي و مقدم برنامج نقطة نظام". (يتبع)

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية