إنَّ وُجودَ الإنْسانِ كَحَقيقَةٍ، نُسِجَتْ فيهِ الرّوحُ بِالجَسَدِ، لا يتَكامَلُ إلّا إذا مَرَّتِ النَّفْسُ البَشَريَّةُ في دَهاليزِ التَّجْرِبَةِ الإنْسانيَّةِ.

إنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يَخْلُقْ شَيئاً عَبَثاً، فَمِثْلَما يَدْفَعُكَ الجَهْلُ إلى مَدارِجِ المَعْرفَةِ، فَكَذَلِكَ يَحْيا (قَلْبُكَ) بِالآلامِ.

قَدْ تَسْألُني: كَيفَ؟ فَأقولُ: إنَّ الألَمَ يَدْعوكَ لِلتَّفَكُّرِ والتَّحَمُّلِ والصَّبْرِ، إنَّكَ بِصَبْرِكَ لَتَرْقى إلى (حِكْمَةِ المَعْرفَةِ العَظيمَةِ) الَّتي خَلَقَها اللهُ تَعالى، فَإذا لامَسَتْ هَذِهِ الحِكْمَةُ روحَكَ، فَإنَّكَ تَحْظى بِاللَّذَّةِ الحَقيقيَّةِ الكامِلَةِ لِوُجودِكَ.

لَنْ أقولَ لَكَ أنْ تَتَجَلَّدَ وَتَصْبِرَ حينَما تَتَألَّمُ؛ لِأنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ ذَلِكَ حَتّى (تَتَفَكَّرَ)، فالأُمورُ تَأْتي تِباعاً: التَّفْكيرُ - التَّحْليلُ - المَعْرِفَةُ، وَمِنْ ثَمَّ القَناعَةُ، ثُمَّ التَّجَلُّدُ والصَّبْرُ.

 

إنَّكَ بِهَذا التَّدَرُّجِ تَصِلُ إلى مَشارِفِ الحَقيقَةِ الكامِلَةِ لِلنَّسيجِ الَّذي خَلَقَهُ اللهُ تَعالى في اجْتِماعِ الرّوحِ بِالجَسَدِ، أمّا الخَيطُ الكَريمُ الَّذي يَجْمَعُهُما مَعاً فَهوَ (العَقْلُ).

قالَ تَعالى: (أفَلا تَتَفَكَّرونَ).

 

صَمَتَ الكَلَامُ

لَا لَسْتُ مَنْ ينْسَى الكَلامَ وَإِنَّما *** صَمَتَ الكَلامُ وأجْدَبَتْ أوْتَارِي

صَارَعْتُ حنجُرَتي أَلَا هَيَّا انْطِقِي *** فَأَبَتْ تعودُ حَمائِمي لِديارِي

ضَاقَ السَّبيلُ يرُدُّ عَنّيَ مِحْنَتي *** وَكَفى بهِ يمحُو دَليلَ حِوارِي

ويَكادُ يخْنِقُني الحَديثُ بحبْلِهِ *** يلتَفُّ حَبْساً في الهَواءِ الجَارِي

يا نحْرُ قُلْ لي ما جنَيْتُ لعَلَّني *** أسْرَفْتُ في بَوحي وفِي إِسْرارِي

دَمْعٌ يسيلُ اليَومَ في خَدِّ الرَّجا *** والقَلبُ يلهَجُ في دُعاءِ البَاري

لنْ أَرْتَضي بِالصَّمتِ يسْرِقُ مَنْطِقي *** فَكَسَرْتُ قَيدي وافْتَكَكْتُ إِسَارِي

 

وَرَحَلَ باقي أصْحابي

لا تُعيدي الرُّجوعَ أيَّتُها الأقْ  *** دارُ أسْرى، فلا بَكَيتُكَ أمْسا

لا تُعيدي الرُّجوعَ مِثْلَ سِهامي *** حيثُ أسْدَتْنيَ المَرارةُ يَأْسا

لِمَ أسرفْتِ في رُجوعِكِ عِنْدي *** ولِماذا حَصَدْتِ صَحْبيَ بَأْسا

عافَ هذا الزَّمانُ قَلْباً كبيراً *** رَفَّ فيه المغيبُ كالطَّيفِ هَمْسا

قَدْ حَرَمْتِ الرَّويَّ منهُ عَلى وعْ *** دٍ مَحَتْهُ الصُّروفُ رَسْماً وأُنْسا

أكْرِميني في غَفْلَتي وَذَريني *** في ضَميري لَعلّيَ الحُزْنَ أنْسى

ظَلَّ قَلْبي ما اسْتَشْرَفَتْهُ المَنايا *** سُلَّ مِنْهُ المَشيبُ، واسْتَلَّ نَفْسا

لا تُعيدي الرُّجوعَ بعْدَ عَزائي *** خُطَّ فيهِ الكِتابُ أُفْقاً ورَأْسا

 

رياضَةُ النَّفْسِ

الصَّبْرُ هوَ رياضَةُ النَّفْسِ، وَمَضْجَعُ الهَيبَةِ والوَقارِ الَّذي تَحومُ حَولَهُ الرّوحُ الظّامِئَةُ الَّتي لا تَنامُ، فَتَجِدُها بِالصَّبْرِ تَسْكُنُ مِنْ قَبْضَةِ الأيّامِ، لِتَسْتَيقِظَ النَّفْسُ عَلى ما نَكَبَ الوجْدانَ النَّبيلَ، ذَلِكَ الوجْدانُ الَّذي يَتَغَذّى عَلى ذَوَبانِ القَلْبِ، واسْتِقْطارِ الجَبينِ، وانْسِكابِ العَطاءِ مِنْ راحَتَي الكْريمِ.

الصَّبْرُ هوَ تِلْكَ الفِكْرَةُ الجَليلَةُ الَّتي تَتَحَقَّقُ بِعَراقَةِ الحَياةِ في طَبائِعِ البَشَرِ، فَهوَ إذَنْ فِكْرَةٌ حَيَّةٌ تَلْمَعُ كالبِلَّورِ، أو قُلْ كالنَّجْمِ في جَلالِ الصَّمْتِ وَمَهْدِ الجَمالِ.

 

أنَا يا قَصِيدُ مِنَ الوفَاءِ

1

أنا يا قصيدُ منَ الوفا *** ءِ معَ السكونِ على سكونِ

مَن ذا يصلّي أنْ يكُو *** نَ معَ الحبيبِ بِلا حنينِ

إنّي ألفْتُ الشِّعرَ مُنْ *** هَمِراً على السَّطْرِ الحَزينِ

حسْبي لقاؤُكَ رَوْحَةً *** ليْ للشّعورِ وللسّنينِ

الجُودُ يُهدى لا يُبا *** عُ ولا يُجرَّبُ كالفنونِ

أنشودةٌ ما تَنتهي في *** (لَنْ) و(لَمْ) تكتَبْ لِحينِ

أنا يا قصيدُ إذَا أجُو *** لُ صدىً إليكَ بلا ظُنونِ

أنا يا قصيدُ أَمَلُّ صمْ *** تَكَ إنْ تنكّرَ للسّجينِ

أنا يا قصيدُ منَ الشُّمو *** خِ أهابُ أنْ ترثي شُجوني

2

أنا يا قصيدُ منَ الوفا *** ءِ يكادُ أنْ يَفنى عبيري

وأنا أطوفُ بمسكنٍ خَا *** وٍ على العِطرِ النثيرِ

بكَ يا قصيدُ أُجدِّدُ الذِّكْ *** رَى لتَحيا في الضميرِ

مَن ذا يحرِّمُ أنْ تُضَا *** ءَ معَ الشموعِ على زهورِ

إنّي أنرْتُ الدربَ مُرْ *** تَهِناً على الصمتِ الأسيرِ

وأجوبُ أنحاءَ الغدِ البَا *** قِي على صُورِ السُّرورِ

حسْبي شِفاهُكَ رَوعةً *** لي للورودِ وللثُّغورِ

 

هِبَةٌ خارِقَةٌ

حينَما تَكْتُبُ فَلْيَكُنْ لَكَ رِسالَةٌ تَكْتُبُها بِإحْساسٍ، لِأنَّ الإحْساسَ هِبَةٌ خارِقَةٌ لِفَهْمِ أسْرارِ الدُّنْيا وَغَرائِبِها.

هَذِهِ الهِبَةُ الخارِقَةُ هيَ القوَّةُ الَّتي تَضَعُ الكاتِبَ عَلى أعْتابِ الشَّفافيَّةِ بِطَبيعَتِها الصّادِقَةِ.

 

شُروقي وغِبْطَتي..!

عُدْ يا شُروقي وانْتَشي يا أضْلُعي *** لِمَ تُنكرينَ سُدىً دَوامَ تضَرُّعي

حُلْمي وجَهْري المُستهَلُّ وخُفْيَتي *** قدْ خِلْتُها أمَلاً فزادَ توجُّعي

رَقٌّ هوَ الأملُ المُعذِّبُ غِبْطَتي *** ويبوحُ طَوراً عنْ صريحِ تولُّعي

أتُراه يعبَثُ مثلما أدراجُها *** ريحٌ، كذلكَ نثرُها وتجَمُّعي

أو يغلبُ الليلينِ يومٌ نابضٌ *** ويعودُ وُدٌّ بعدَ قيدِ تذرُّعي

أنّى عزاؤُكِ يا سكينةُ، غَرَّني *** دهْري وأيّامي وفيضُ تطوُّعي

إنْ كنْتِ لا ترضينَ رحمةَ خاضعٍ *** هلْ تنعُمينَ إذَنْ بعذبِ تصدُّعي

 

هَمْسُ الزُّهورِ

لِكُلِّ زَهْرَةٍ رَونَقٌ خاصٌّ، لَكِنَّها تَتَّحِدُ جَميعاً في العَناصِرِ الحَيَّةِ، فَعِطْرُ الزَّهْرَةِ هوَ يَقْظَةُ الذِّهْنِ بِالذِّكْرَياتِ المُشْرِقَةِ والأحْلامِ النَّضِرَةِ، هوَ يَقْظَةُ الشُّعورِ الغافي في أرْواحِنا.

أمّا شَكْلُ الزَّهْرَةِ فَإنَّما هوَ تَذْكرَةٌ وَدلالَةٌ عَلى الشَّبابِ الَّذي يوحي بِسُرْعَةِ الفِراقِ، لِذَلِكَ يَنْفُذُ شَكْلُ الزَّهْرَةِ بِلُطْفٍ هامِسٍ إلى دَقائِقِ الشُّعورِ وَخَواطِرِ الإحْساسِ الَّذي يَحُثُّكَ عَلى البَوحِ بِخَفايا القُلوبِ.

نَأْتي إلى عُنْصُرِ الزَّهْرِ المُشِعِّ، ألا وَهوَ اللَّونُ الَّذي يَبْعَثُ بِرِسالَةٍ ناطِقَةٍ عَنْ عُمرِ الطَّبيعَةِ وَعُمْقِها، حَيثُ أيَنْعَتْ بِها تِلْكَ الزَّهْرَةُ.

 

ذِكْرى وبُشْرى..

كَذاكَ رَجائي مِثلُ تَجريبيَ الرَّجا *** فَعادَ جَواباً ما تناسَيتُ مِنْ ذِكْرى

ويا أمْسُ لا أسْلو وثوبي مِنَ الرِّضا *** ويا ليلُ ما أسْرى ويا يَومُ ما أثْرى

تَخُطُّ الشُّموعُ الهمسَ عَنْها نَقاوةً *** ويُقْسِمُ فيها النَّجْمُ أنْ يفضَحَ السِّرّا

فلا خَجَلاً أنْ يُظْهِرَ القلْبُ حُبَّهُ *** صَفا مُقْبِلاً فَيضاً لِغاياتِهم نَهْرا

فَعُدْتُ لهُ عَهْداً كأنْ لمْ يكُنْ لَهُ *** وحُلْماً كأنّي خِلْتُ تأويلَهُ بُشْرى

فمَنْ جَعَلَ التَّقوى صَنيعاً تورَّقَتْ *** على كَفِّهِ حتّى جَنى قطْفَها تِبْرا

 

من ديوانَي "لمن تهدى الأزهار" و"مهلاً فذاك الأمس" للشاعرة.

شاعرة كويتية
عواطف أحمد عبد اللطيف الحوطي. حاصلة على ليسانس آداب لغة إنجليزية مع الترجمة واللغة الفرنسية عام 1983م. تتقن إلى جانب العربية، اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية.ربة بيت وزوجة سفير. عضو فاعل في عدة جمعيات تطوعية دولية ومحلية منها رابطة الأدباء الكويتيين. صدر لها مجموعة من الدواوين الشعرية آخرها كان: على ضريح الهوى، وهلا فذلك الأمس، سواقي الشوق. كما صدر لها مجموعة من الكتب باللغة الإنكليزية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية