1-طفولة:
كانت "عبلةُ" في غبشِ الصبحِ تُطاردُني
تتمنَّى لوْ تغلبُني
تحلُمُ
أن تبصرَ نخلاً يثمرُ في الأرضِ القفْرِ
…
كانت في الصَّمتِ الوادعِ
تسقيني سُهْدي
بغناءٍ حُلوٍ يتقطَّرُ فيهِ العطْرْ
كانتْ تلهثُ ..
كيْ تقرِصَ أطرافي
تتسلَّلُ كيْ تتفقَّدَ كهفي
وحوائطُها الفضِّيَّةُ تزدانُ نهاراً
بقلاعٍ وقِبابٍ
ومساءً
بالصورِ الزيتيَّةِ
للأحصنةِ المنطلقةِ
ـ بينً تلالٍ وسهولٍ ـ للنهْرْ …
في الركنِ الأقصى
من داري المنزويةِ
في أطرافِ الغابةِ
منضدةٌ تعلوها أتربةُ …
وعليها عُشبُ الصَّبرْ
2-جملة معترضة:
دوَّت في الأُفقِ طبولُ الحربِ
و"عبلةُ" تغفو
في نومتِها الرَّعناءِ
(وتكشفُ عنْ ساقيْها ..
عنْ ثَغرٍ في الظَّلماءِ يُضيءُ)
تُنادي: بعدَ ثلاثينَ أتيتُ
وهذا التوتُ الأبيضُ في كفَّيَّ
رماحُكَ في قلبي
تُشرقُ في قلبي نافورةَ عشقٍ
تملأ ليلي بنجومٍ تتلألأُ في صحراءِ سمائي السوداءِ
تطارحُني الحبَّ،
تشاطرُني الحُلمَ
وعيناها الخضراوانِ كقِنديليْنِ
يُضيئانِ دهاليزَ الدَّربِ
(أكُنتُ أُدبِّجُ في الليلِ حُداءَ القافلةِ
وأحلُمُ يا "عبلةُ"؟)
تُشرقُ شمسُكِ
يرحلُ جيشُ دفاعِ الأعداءِ ..
وتسطعُ في أُفقي أقمارُ الشعرِ / بريقُ العُشبِ / أحاديثُ الليلِ / حنينُ النسوةِ / أوراقُ الحنَّاءِ / زلازلُ قلبي / أعنابُ اليمنِ / طيورُ النَّورسِ / تمْرُ الشامِ …
تضجُّ الذاكرةُ بأقدامِ العبرانياتِ، وأحلامِ الكنعانيَّاتِ، ومِلحُ المتوسِّطِ يُغرقُ سربَ فراشاتٍ .. عاشَ يُغنِّي ـ مثلَ عصافيرِ الجنةِ ـ للحبْ!
3-حديث مستطرد عن "عبلة":
طلعتْ "عبلةُ" من ثبَجِ البحرِ، كبدْرٍ غَسَّلَهُ البَرَدُ،
أنا يا "عبلةُ" من طرْحِ النهرِ،
وقريتُنا العاشقةُ بأطرافِ الدلتا تنتظرُكِ،
عشرةُ أميالٍ أقطعُها نحوكِ، وطريقي عبَّدَهُ خطوي فوقَ الصَّوَّانْ.
يا مُثمرةَ الوعدِ، تعاليْ لنفُكَّ قيودَ صبانا، نسكُنُ في حضنِ الريحِ، فصولُكِ تثمرُ باللوزِ وبالرُّمَّانْ.
تستيقظُ أفريقيا في أشعارِ الفيتوري، أسمعُ وقعَ خُطاها في الأرضِ المُبتلَّةِ، والعُشبِ، و"عبلةُ" تخرجُ وردتُها من شرنقةِ الحرمانْ.
قالت أمي:
-تلك من الغابةِ، ليستْ من قريتِنا
غانيةٌ تعبثُ في ساحتنا
اتركها وابعد عنها!
أمسكتُ صباحاً بتلابيبِكِ يا "عبلةُ"
وجهُكِ يغمرُني بفيوضِ الماءِ
وصوتُكِ يُشجيني
وحريقٌ يصهلُ في أعماقي
يصرُخُ في أضلاعي
يُغويني
بالقولِ الفتَّانْ
عيناها الخضراوانِ بحُلمِ الفجرِ يمورانْ
ـ أمُّك تبذرُ في الجرحِ الملحَ
وتستلقي في دائرةِ الوهمِ الأسيانْ
تخشى منْ عاصفةٍ أُخرى
أُمي تصرخُ:
-هذي وردةُ نارٍ، فابعد عنها بالحذَرِ الدَّاجنِ يا ولدي
وابعد عن فتنتِها
وليحفظْكَ الرحمنْ
4-أحزان الفارس:
أصبحْتَ أخيراً ـ يا فارسَها ـ في منصف الدهشةِ
ما عادتْ "عبلةُ" تأتيكَ ظهيرةَ أشواقِ الصيف
فتغضَّ الطرفِ كسيراً في خوفْ
عندَ تضاريسِ الفقْدِ تُغنِّي للريحِ الصَّرصرْ
وتسُدُّ البابَ كأنَّكَ لا تسمعُ،
يترقرقُ في كأس الظمآنِ الصبرُ
تُحدِّقُ في وجهِ الموتِ، فأُمُّك ترحلُ
(ستجيئُكَ في الحُلمِ .. فكيفَ ستنسى نظرتَها؟)
"عبلةُ" تنظرُ شوقاُ من خلفِ زجاجٍ يتداخلُ،
وتُجالسُ قطَّتَها
الغضبُ يُزمجرُ في وجهِ أبيكُ وأنتَ تُناورُ:
ـ ماذا ـ يا فالحُ ـ قالوا
في الصحفِ السوداءِ وأبواقِ العسكرْ؟
ـ سأُدافعُ عنْ وطني .. لا وطنَ العسكرْ
(تغضبُ أمي)
.. سأُجَنَّدُ وأُدافِعُ عن "عبلةُ"،
وأُجاهِدُ، وأُقاتِلُ .. حتى أُقتَلَ دونَ الفجرِ الأخضرْ
…
"عبلةُ" ما عادت تصنعُ من جمر الشوقِ رماحاً حمراً
تغرسُها في صدرِ العاشقِ، أوْ تتبخترْ
ـ "يفرجُها ربُّك"
.. ضقتُ بتوبيخِ الأمِّ مراراً ..
لنكوصي المتكرِّرْ
…
أقفُ على قارعةِ الحلمِ ..
أُحاولُ أنْ أُنشِدَ أُغنيتي الأولى !
(صمتٌ يملؤ أقطارَ الميدانِ، ويغتالُ الأحلامْ)
ـ ولماذا تتشاءمُ إنْ لمْ أنجحْ هذا العامْ؟
لا تقلقْ، سأُحاولُ هذا العامَ .. فإنْ لمْ أنجحْ فالعامَ القادمْ
زمَّ الشفتيْن، وغمغمَ في صوتٍ حازمْ:
ـ إنْ لم تنجحْ هذا العامَ قٌتِلنا بالسيفِ الصَّارِمْ!
5-زنابق للرحيل:
كانتْ ريحٌ في الأفْقِ تهُبُّ
وكان فضاءُ العالم يتفتَّحُ لزنابقِ عشقٍ تُولَدُ،
وقصيدةِ حبٍّ بيضاءَ ستسكنُ في ديوانِ الصمتِ الفاتنِ
كنتُ أخبُّ عل ظهرِ الفرسِ، ويلسعُني البردُ وأرمحُ،
أدفقُ في غاباتِ الجوْزِ، فترشحُ بالعطْرِ وباللهفةِ
.. تُدفئُني، فأُحادِثُ نفسي:
"عبلةُ" لمْ تجرؤ يوماً أن تسقيني ملحاً،
أوْ تستأْسِدُ
أو تتركُني كيْ يصرعَني يأسي
ظلَّتْ كالتفاحةِ ـ تقطرُ عطْراً
تقطرُ ضوءاً وبهاءً ـ
إذْ تجرعُ كأْسي
…
تحرقُها أنوارُ الصَّهْرِ .. تُحاصِرُ موسيقاها، معصمَها
ترتعشُ على حافَّةِ ليلٍ …
أُمطِرُ في الفجرِ ، وأترُكُ للعشبِ مسافاتٍ بيضاءَ
تُطرِّزُها "عبلةُ" بالعشقِ مليا،
وتُغني ـ كهديلِ حمامٍ
ينقرُ ذاكرتي في أوّلِ صحراءِ الرُّعبْ ـ
(هل يخلعُني في الليلِ القادِمِ جنرالاتُ الحربْ؟)