لَا أحَدَ، لَا أَحَدَ غَيرُهُ يُجيدُ الحَديثَ بِهذَا التَّدَفُّقِ.
كَانَ لِتَعلُّقي بِهِ كَإنسَانٍ قبْلَ أَنْ يَكونَ أَباً بَالِغُ الأَثَرِ في وُجْدَانيَ العَاطِفِيِّ والأَدَبِيِّ.
كُنْتُ شَديدَةَ التَعلُّقِ بِأفْكَارهِ العَميقَةِ وجَزالَتِهِ التي تُبْحِرُ في جَنَباتِ نَفْسِي.
كَانَ وَفاؤُهُ وإخْلاصُهُ وكَذلكَ مَودَّتُهُ ما يَسْتَثيرُ قِلَّةَ الحَدِيثِ عِنْدي وَأحيَاناً الصَّمْتَ. كَانَتِ اللُّغةُ العَربيَّةُ الفُصْحى تَطْغى عَلى انفِعَالاتِهِ الكَلامِيَّةِ مِمّا أثْرى رَوعَةَ الأحَاسِيسِ بِالأُسلوبِ في مُخالَطةٍ فَريدَةٍ.
كَانَ -إِذا غَضِبَ- صَوتاً يأْمُرُ الدُّنْيا للتَّعْبيرِ عنْ بَصيرةٍ وفَهمٍ وَكَأنّهُ حِرْزٌ مَكْتومٌ انْطَلقَ مِنَ القَلْبِ دُونَ قَيدٍ أوْ شَرْطٍ. كَانَ ذَكيّاً وَمُقْنِعاً حتَّى تَداعَى الرِّجالُ لِلاسْتِماعِ لِحديثِهِ.
كَانَ لَاذِعاً ونَاقِداً في مُفردَاتِهِ وذَلكَ لِعنايَتِهِ بِاستقَامَةِ النُّبْلِ والعَطاءِ.
لَا لِفَضْلي مَكانٌ في امْتِدادِ الوَريدِ النَّابِضِ الّذي رَوَّانِي بِصِدْقِ تَعبيرِهِ وَتَدَفُّقِ حَنانِهِ.. وَإنّني أَرْجُو فِيما أَرْجُو أَنَّني قَدْ وَفَّيتُهُ بَعضاً مِنْ حقٍّ لهُ عَليَّ وأنَا أطْريهِ بذِكْرِهِ المُتَّقدِ في كيَانِي كَالياقُوتَةِ الحَمْراءِ.
إلى والِدي عَهْدي ومُهْجَتي
أُناجيكَ لا أنّي أحيدُ عَنِ القَضا *** ولا أرْتَقي سُلوانَ حاضرَ غَيْبَتي
فَكَمْ هيَ شَتّى منْ دُروبٍ وفُرْقَةٍ *** شَمَلْتَ بِها عِقْدي وأعذرْتَ غُرْبَتي
وَحَقُّكَ مَولايَ الذي منْهُ أرْتَوي *** لأنَّكَ مَهْدٌ فيهِ شاهَدْتُ قِبْلَتي
وما أنا إلّا بينَ جودٍ ونَيلِهِ *** يُصافِحُ وَجْهي مُقْبِلاً منْ أحِبَّتي
عَهِدْتُ إلى الأعْذارِ طَوق جَلادَتي *** تُجدِّدُ لي منْ سابغِ العُذْرِ حُلَّتي
فيا جُلَّ منْ صاغَ القُلوبَ بأهْلِها *** ويا جُلَّ منْ صاغَ العُهودَ بِمُهْجَتي
صَنْعَةُ الخالِقِ
عَلَّمْتَني يا والدي أنَّ الأيّامَ تُرْخي أجْفانَها تارةً وتَدْعوكَ تارةً أُخْرى.
فَنَظَرْتُ إلى السَّماءِ وقدْ أذْكَتْ حَنيني.. لَآلِئ النُّجومِ، ذَهَبُ الشَّمْسِ، لَمْعَةُ البَرْقِ، لَوْعَةُ البَدْرِ.. فإذا هيَ سُرُجٌ تَتَّقِدُ في تيْجانٍ منْ أوْتارٍ.
تُكاتِمُ الزَّمانَ حَديثَها، وَتَشْهَدُ سُجودَ المُلوكِ وَمُناجاتَهُمْ، تَسْتَلُّ صَباباتِهِمْ وَكَوامنَهُمْ، وَتَنْسُجُ بُروجَهُمْ، وَتَشْدو سَوْرَةَ كُؤوسِهِمْ..
في جُفونِها البَوْحُ، وعَلى أهْدابِها اليَواقيْتُ؛ الأنْجُمُ الزُّهْرُ وَبَناتُ السِّرِّ.
إنَّها نَفْسُ الأيّامِ الّتي تارَةً تُدْمي وَتارَةً تُبْدي.. جواهِرَ منْ نورٍ، وَعَواقِبَ منْ فُتورٍ.. نَواقيسَ صاخِبَةً وَمَصابيحَ واهيَةً.
هيَ عِقْدٌ مُتَّسِقٌ كاقْتِرانِ الدُّرِّ بالدُّرِّ صِغاراً وَكِباراً.. فاغْتَنِمْها.
هيَ صَنْعَةُ الخالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، فَرْحَتُها كَميقاتِ هِلالِ العيدِ.. فاغْتَنِمْها.
وُرَيْقاتُ العُهودِ
أحْيِ العُطورَ هَميلَ ذَيّاكَ النَّدى *** فَحَفيفُ أوْراقِ العُهودِ يُعاني
وَرَوى سَواقي الشَّوقِ ما كانَتْ سِوى *** سِرْبٍ سَما مَعْ صَحْوَةِ الأفْنانِ
يا سائِلي آَنَ الرَّحيلُ ولَمْ أزَلْ *** أبْكي رَسولَ الشَّوقِ مِلْءَ حَناني
غادٍ على حالِ اليَقينِ وما طَوى *** جَفْنَ الخُلودِ بِهَدْأةِ الرَّيْحانِ
ما أقْدَرَ الأيّامَ تورِقُ لِلْهَوى *** وَعْداً وَتَسْلُبُهُ بِفَصْلٍ ثانِ
أجْمِلْ عَلَيَّ وَوَفِّني بِوِصالِ مَنْ *** سَنَّ الحَنينَ مِنَ الرَّسولِ الحاني
هَلّا لِباقي عَهْدِنا منْ صَبْوَةٍ *** يا منْ مَلَكْتَ صَبابَتي وَكَياني؟
لَحْنُ الشِّعْرِ
إنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ وَهْماً، وَلا هوَ حَذَرُ الخَريفِ منْ تَساقُطِ الأوْراقِ، كَما أنَّهُ لَيْسَ وِقْفَةَ حِدادٍ، إنَّهُ ضَوْءُ القَلْبِ وَلَوْنُ الرّوحِ الَّذي يَسْتَرْسِلُ كَهاتِفٍ نَديٍّ بِالحَنانِ، يُبَدِّدُ عَتْمَةَ المَسافاتِ.
إنَّ منْ تَرْشُفُ روحُهُ الشِّعْرَ فَيُحَوِّلُ الواقِعَ إلى فَنٍّ مِثْلَ القابِضِ عَلى صَحيفَةٍ بيَمينِهِ، تَحْمِلُها النَّسائِمُ، وَتَحْمِلُها الفَراشاتُ الحائِماتُ فَوْقَ كُلِّ الهَزائِمِ وَمَدِّ الضَّبابِ.
ما منْ شَيْءٍ أحْوَجُ إلى اسْتِئْثارِ لَحْنِ الشِّعْرِ منْ ثَرى الأيّامِ.
وَقَدْ كانَ لَكَ يا والِدي أكْبَرُ الأثَرِ عَلى نَفْسي.
وَلَقَدْ ذَكَرْتُكَ يا والِدي
يا منْ أضأْتَ خَيالي في مناسِكِهِ *** وكُنْتَ تَسْكُنُ في وجدانِ أبْياتي
عُدْ بي إلى جَذْوَةِ السّاقي، لَعَلَّ بها ***كَأساً، تمُدُّ الصَّبا في رَيِّ أشْتاتي!
من ديوان "سواقي الشوق" للمؤلِفة.