حمامة بيضاء رقيقة أسقطها حظها تحت تمساح في مستنقع آسن، ومن فرط براءتها ظنت اتساع فمه ابتسامة فاطمأنت ومكثت ترقب السكون الذي يتقنه التمساح. مضى الوقت والسكون وتجلت الحقائق. وجد التمساح الحمامة البيضاء مصدرًا لإشباع غريزة جوعه ووسيلة لإرضاء وحشية طبائعه وجوارحه، فاستبقاها حية لكنه ألقى بثقله عليها وجعل ينتف ريشها بمخالبه ويضربها بلسانه الخشن ويقلبها بين فكيه وأنيابه متلذذًا برائحة دماء جراحها وبأنينها المتقطع، حتى أعجزها عن الطيران والقفز. كان يشبع وأقرانه من الفرائس المنجذبة نحوها فيتسلى بالحمامة الجريحة المعطلة ويتريض بجوارحه عليها، فلا يشفى لها جرح ولا ينمو جناح لداوم العنف ليل نهار، وظلت تنزف وضعف سمعها وبصرها وتعطلت أنفاسها وخواطر عقلها وركنت إلى السكون ليقل الهياج والتنكيل. اندثرت آمال حمامة السلام في النجاة وهي ترى انصراف المخلوقات إلى التمساح واهتمامهم به واستدبارهم لها فيئست منهم ولم يبق لها هم إلا العيش حتى تشتد اصلاب فراخها وتنأى عن المستنقع. بعدها فقدت الحمامة باقي قواها وحواسها وتمكنت الأمراض من كل أعضاءها وانتظرت نهايتها.

 

 وجدها التمساح يوما بلا حركة. توقف قلبها مفتقدًا السلام الذي ولدت به وعاشت تنشده وتجتهد أن تنشره. مرت مخلوقات لا تدرك ماذا ومن قتلها، ورأوا التمساح يتقلب ويتلفت وفي وجهه قطرات من مستنقعه. صدقوا أعينهم وظنوه متألما حزينا دامعًا، وهو في حقيقته يتململ قلقًا نادما لذهاب لعبة اعتادها مصدرًا لإشباع غرائزه وهدفا لتسلطه. كانت آخر ميتة للحمامة هي أسرع ميتة.

غابت حمامة السلام التي أحبتها مخلوقات الغابة لكنها لم تفلح في إنقاذها من الحقد والبطش فثمة مخلوقات قد تحب وتألف لكن لا تعرف الإنقاذ ولا الاعتبار وليس لها خيار إلا الحرص على الذات أو الفرار.

التدقيق اللغوي: لجين قطب.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية