ديكُ قتالٍ كان يتنقَّلُ به صاحِبُهُ بين القرى ، لملاقاة ديوكها ، ورِبْحِ بعض المال ، يشتري به الرجلُ طعاماً لكليهما .
كان صاحبُ الدِّيك حريصاً على شيئين أساسيين من أجل انتصار ديكه ، الأمرُ الأول هو الغِذاءُ الجيدُ للدِّيك ، و يتألَّفُ بشكلٍ أساسي من اللحومِ و الحلويات ، بهدف المحافظة على قوة العضلات و الطاقة البديلة لتلك التي يصرفها الديك من نطٍّ وفطٍّ ، ونقرِ عيون أعدائه ، أو بقر حويصلات غذائهم .
أما الأمر الآخر فهو التَّشجيع أثناء المعركةِ ، من صياح و تصفيق و رقص وحركات تأخذ منه جهداً يضاهي الجهد الذي يبذله الديك نفسه . بعد إحدى المعارك الناجحة ، و في الطريق الجبلي إلى قرية مجاورة ، استلقى صاحبُ الدِّيك تحت شجرة مشمشٍ ، زاهيةٍ بثمار برتقالية اللون ، كنجمات بديعات في سماءٍ خضراءَ يانعةٍ .. وهناك نام الرجل نوماً عميقاً كالعادة لا يوقظه رعدُ سماءٍ ، ولا براكين أرض! ..
و أرخى الدِّيك جناحيه المتعبين، ومـدَّ عنقه الطويل الأحمر القرمزي اللامع ، واضعاً رأسه على قدم الرجل ، فغطاها عرفه المحتقن بسواد دماء ، بقي أثرها على شكل كتل فحمية هنا وهناك .. وأغمض عينيه الحادتين فخرج منهما قيح أبيض ، بدا كدمع متجمد يُخرج الألم و الجنون من رأس الطائر القوي الذي مدد ساقيه الصفراوين، الغليظين، المكسوين بحراشف عريضة و قاسية ،تخرج من بينها من جهة الخلف، ريشات ناعمة، عابسة اللون، على شكل أقواس ، تنـتهي عند القدم المنبسطة، و قد انفرد منها ثلاثة أصابع طويلة معقدة ،كذيل عقرب أصفر مائل للحمرة ، تنـتهي بمخالب مخروطية حادة الرأس و قوية .
و هناك إصبع رابع من الخلف يظهر من فوق مسطح القدم ينزل للأسفل كمهماز راعي بقر يلاعبه الديك بمنقاره أحياناً معتبراً إياه ثُريَّا نافرة من سماء تحته تكاد تلمس الأرض ولا تفعل .
غير بعيد ظهرت عينان حادتان ماكرتان ، تراقبان الديك المسترخي قرب رجل صاحبه ، و قد استمتعا برطوبة الظلّ الوارف حولهما . وبإحساس غريزي انتفض الديك واقفاً و قد انتصب ريش رقبته و ارتفعت ذؤابات ذيله ، كقوس قزح يداعب رِجلَ النائم , يدغدغها علّ عينيه تنـتفخان ، فتتخذا القرار الحاسم ،تجاه الثعلب الواقف على بعد خطوات ، يراقب الوجبة الشهية قرب كابوس ذي شخير مزعج، لكنه مطمئن ، فالغفلة هذه قلما يجدها ، خاصة قبيل غروب الشمس ، و الجوع قد أنفر الثعلب باكراً للبحث عن طعام قبل نوم الناس و غفلتهم ..
الفرصة الآن مواتية تماماً .. ديك يبدو عليه التعب ، و قد امتلأ عضلات منفوخة باللحم الأحمر اللذيذ ، تحت ريش نافر يضخم الحجم ، و يغري بكمية غذاء كافية ليوم آخر ، بعد جوع ليلتين قضاهما على فأر مسكين صغير .
لم تحرك الرجلَ دغدغاتُ باطن قدميه ، فقد كانتا سميكتين ، مَثَلُهما بذلك مثل باطن قدمي الديك نفسه. ذلك لأن رقصه حافي القدمين ، وهو يشجع الديك ، على تراب حار ، قتل البشرة الحية فيهما و شققها فأضحت بيضاء اللون لا تجري فيها عروق دماء تغذيها فماتت نهاياتها العصبية .
قفز الديك طائراً في الهواء بحركة بهلوانية ، و كأنه يهاجم ديكاً خصماً أضخم منه ،يدفعه برجليه، و هبط خلف قدمي الإنسان النائم دون تقدير لخطورة الموقف ، و الثعلب ما يزال قابعاً على عجزه و طرفيه الخلفيين ، يراقب الديكَ ، علّ الرعب يجعله يستسلم ،أو يهرب بعيداً عن حارسه النائم ، الشاخر كقطار لم يقلع بعد .
في حين بدأ الديك ينقر القدم الصخرية بلطف أحياناً وبقوة مشوبة بالفزع أحياناً أخرى ..لكن الرجل لم يستيقظ..
فأخذ ينهش منها دونما فائدة فقد كانت الحفر بيضاء مكسية .. لا دم سال أو نفر .. بل تحركت القدم قليلاً .. وحكت أختها وعادت إلى سكون القبر ..
أخذ الديك يبتعد للخلف ثم يطير وينقض على تلك القدم دونما إصابة في البداية .. و العينين تتجهان طبعاً نحو العدو اللابث بسخرية الأقوى و المتأكد من الإستسلام في نهاية المطاف التمثيلي هذا .
لكن الديك تابع وبشكل أكثر بهلوانية و كأنه يؤدي دوراً مسرحياً في حلبة سيرك وانقض من عل نحو بطة ساق صاحبه النائم، وأخذ منها قطعة لحم كبيرة، تدلت من بين منقرين كمنقري حدأة شرسة، والدماء الحمراء القانية تسيل على طرفيها كساقيتين . هنا انتفض الرجل واضعاً يده على الجرح المؤلم ، لكنه عاد وارتمى على خاصرته مغمياً عليه نتيجة الألم المبرح الذي أصابه .. والدماء التي تسيل من وريده المفتوح ..
خاف الثعلب فقفز بعيداً ، خلف أغصان فتية خضراء ، بلون حشائش الأرض ، نبتت من جذور شجرة كينا قطعت قبل بضعة أيام .. وهكذا بدا رأس الثعلب من بينها يراقب تطور الأحداث تحت شجرة المشمش ، بعد أن التهم الديك قطعة اللحم الآدمي ، على دفعتين ، و غرغر قليلاً ، وهو يرفع رأسه للأعلى بالدم السائل الحار .
لاحت ثمرات مشمش طرية على غصن منخفض ، كابتسامات أمل تعطي الحياة مدداً جديداً . خاصة بعد الجولة الأولى الناجحة في إرهاب الثعلب ، وهربه بضع خطوات للخلف . فكرر اللعبة مرة بعد أخرى .. وفي كل مرة ينتفض الرجل ويعود للإغماء ، إلى أن رفض الرجل الحركة، وتوقف عن الشخير وقد توسعت بقعة الدماء فصارت بركة لم تتشربها الأرض .
بلَّل الديك ريشه بدم البركة الحمراء ، و قد انتشى بوحشية الغابة التي يجاور، و انتفخ صدره وبطنه من لحم ودم صاحبه وهو يحاول إيقاظه ..
وكان الثعلب قد أسدل جفنيه وظهرت عليه علامات نعاس أو إحساس آخر لم يفهمه الديك الذي أحس بعطش شديد وحاجة ماسة لحلوى يتناولها بعد اللحم الساخن الذي تناوله للتو .. فبدأ يقفز نحو ثمار المشمش الحلوة المذاق فالفاكهة ضرورة عوَّده إياها صاحبه بعد كل وجبة دسمة ،فكيف و قد تخللها رعب ورياضة قاسية ..
قبل أن يستسلم الديك للكرى و التعب، كان الثعلب قد طوى ذيله ، وابتعد على مهل وهو لا يصّدق عينيه باحثاً عن غذائه في مكان آخر .