في زمان ومكان بعيدين، عاش الأمير الشاب اليافع هيكارو في قصر جده الملك، ذي الأسوار العظيمة والأبراج الضخمة الكبيرة، مثله كمثل أمراء ذلك الزمان.
وكان الملك يحجب حفيده الوحيد عن عامة الناس، ويخاف عليه من كل شيء، فقد توفي والداه وهو طفل صغير، ونشأ يتيماً وحيداً، ولم يكن لجده الملك ابن أو حفيد غيره، فقد كان له ولد واحد هو والد هيكارو، الذي توفي هو وزوجه أم هيكارو أثناء رحلة جبلية، حين وقعت مركبتهما التي كانت تجرها خيول من فوق أعالي الجبال..

فاهتم به جده ورعاه منذ الصغر، وعامله بما يليق بوريث عرش، وراح يعده ويؤهله لاستلام المُلك من بعده، ويحضر له مدرسين كباراً يعلمونه كل ما يجب أن يتعلمه الملك من علوم ولغات، وأحضر له فرساناً أشداء يدربونه على الحرب والنزال. وكان جده يخاف عليه من أن يتعرض لسوء، فأمر بألا يخرج من القصر دون إذنه وألا يتحرك دون حراسة مشددة.
لم يكن للأمير هيكارو أصدقاء، كان يقضي يومه في القصر، والحرس لا يتركونه لحظة واحدة، وحتى مدرسيه ومدربيه لا يتحدثون معه كلمة واحدة خارج حدود ما هم مكلفون به.

سئم الأمير الصغير من هذه الحياة.. فقد أصبح شاباً يافعاً، يحب الحرية ويريد الخروج الى الناس والتعرف إلى كثير من الأصدقاء..
طلب هيكارو من جده الملك تكراراً ومراراً السماح له بالخروج والتنزه في أمكنة قريبة من القصر ترتادها الرعية، لم يوافق الملك، ولم يقبل الأمر بسهولة، لكن حفيده كان مصرّاً، وصار يتوسلّ الى جدّه كي يسمح له، فرق قلب جده ونهاه عن التوسّل لأن أبناء الملوك يجب أن تكون نفوسهم مليئة بالعزة والكبرياء.. ووافق على خروجه بصحبة الحرس شرط العودة مسرعاً.. وطلب من أمير الحرس أن يعتني بحفيده ويحرسه كملك..

*****

خرج الأمير الصغير لأول مرة بعيداً عن القلعة، وكان كبار الحرس يحيطون به بهيبة وجلال.. وسار الأمير الشاب على قدميه حتى وصل إلى ساحة قريبة من القصر مليئة بالباعة والمحال والتجار والزبائن.. عندما رأى الناس الأمير وحرسه ابتعدوا عن طريقهم، وفضّل كثير منهم ترك المكان.. فوجد الأمير نفسه وحيداً مع الحرس وبعض الباعة والتجار الذي جلسوا داخل محلاتهم...
فكر الأمير الشاب بالأمر، فهو لا يستطيع التكلم مع الناس الذين بقوا في المكان مضطرين حرصاً على بضائهم وأموالهم.. شعر أنهم يخشون التحدث إليه، كما أنَّ الحرس يبعدون الناس عن طريقه، وحتى الحرس أنفسهم ممنوعون من الكلام معه لغير سبب ضروري.. فقرر العودة إلى القصر فوراً..
حكى الأمير لجده الملك ما حدث، وسأله عن سبب ابتعاد الناس عنه.. قال الملك بهدوء وثقه: لا سبيل لغير ذلك يابني فأنت من سيرثني ويقود البلاد من بعدي، هم يهابونك لأنك السيد المطاع، وأنا أخشى عليك من أن يصيبك سوء.
الأمير هيكارو لم يسره هذا الجواب.. فهو يريد الاقتراب من الناس أكثر...

*****

بعد أيام، طلب من جده السماح له بالخروج للتنزه مرة جديدة.. وفكر بخدعة تقربه من الناس..
فكر أن يلبس ثياباً بسيطة لا توحي أبداً بأنه أمير من أمراء ذلك الزمان، بل هي ثياب تجعله يبدو وكأنه من فقراء الرعية.. لكن من أين سيحصل على مثل هذه الثياب؟
فكر بالأمر ولمعت في رأسه فكرة.. الأمر بسيط.. يمكن الحصول على هذه الثياب من داخل القصر نفسه، وهي لصبي يافع في مثل سنّه، يعمل مزارعاً في الحديقة، وعندما حضر الصبي في موعده.. تحدث إليه الأمير خلسة دون أن يراه أحد، وأغراه ببعض النقود ليشتري بها ثياباً جديدة مقابل أن يعطيه ثيابه الرثة التي لا يملك غيرها.. فتنازل الصبي عن ثيابه هذه التي يأتي بها يومياً، وارتدى كعادته ثياب العمل التي توجد في حديقة القصر، على أن يعود الى بيته بثياب العمل متحججا بأن ثيابه مبتلة، ويضعها في كيس، فأخذ الأمير هيكارو ثياب الصبي إلى غرفته، وغسلها جيداً، وبدأ يعد للمرحلة الثانية من الخطة..

*****

في اليوم التالي، وبعد أن ارتدى هذه الثياب البسيطة ووضع فوقها عباءته الملكية الفاخرة، غطى رأسه بعمامته المزركشة المرصعة بالأحجار الكريمة، ثم خرج بصحبة الحرس مثل المرة الماضية..
سار الأمير بهدوء يتأمل واجهات المحلات.. تصرّف الناس مثل المرة الماضية دون أن يبدي الأمير أي استغراب.. ثمّ وقف أمام واجهة متجر لبيع الملابسـ وأمر الحرس بانتظاره لأنه يريد أن يشتري من هذا المتجر بعض الأشياء.. فأسرع الحرس وسبقوه إلى داخل المحل للتأكد من عدم وجود أي خطر..
وعندما دخل كان صاحب المحل مرتبكاً وخائفاً.. طلب الأمير من الحرس الخروج حتى ينتهي من الشراء، لكنهم لم يوافقوا على الأمر إلا بعد إصرار منه.. وراح يدور في المحل متفحصاً البضائع المعروضة، وانتهز فرصة وقوفه في زاوية لا يراه منها صاحب المحل، وأسرع بخلع العباءة والعمامة، فظهر بشكل مختلف تماماً، وعندما رآه صاحب المحل، فوجئ به... وطلب منه بصوت هامس الخروج فوراً.
سأله عن السبب.. فقال بصوت يرتجف: إن الأمير هيكارو حفيد الملك موجود في المحل.. فقال له: وما في ذلك؟ قال: سيقتلونني أنا وأنت، ألا تفهم؟ ألستَ من هذه البلاد.. هيا اخرج من هنا فوراً.. كان الأمير يفكر بأن يخرج من المحل بثياب العامل ليتخلص من الحرس، ويحتك بالناس مباشرة.. لكنه بعد أن سمع هذا الكلام غير خطته، وأسرع ...ولبس العباءة... ووضع العمامة، فأصيب الرجل بالدهشة، وانعقد لسانه... وأصابه رعب شديد، لكن الأمير هيكارو هدّأ من روعه، وطلب منه عدم الخوف، وأنَّ الأمر لا يستدعي ذلك.. وطلب الأمير هيكارو من الرجل أن يشرح له سبب هروب الناس وخوفهم منه..
رفض الرجل أن يتكلم، فقد كان خائفاً، لكن الأمير الشاب حدّثه بتواضع واحترام حتى اطمأن إليه الرجل، وأدرك بفطنته وخبرته وكبر سنه أن الأمير هيكارو شاب طيب لطيف، وليس قاسي القلب نثل جدّه.. لكنه لم يحدثه عن جرائم جده، وقال له إن الناس يخشون جدّه لشدته وحزمه، وإنه لم يكن كذلك قبل أن يموت أبوه وأمه، فمن ذلك الحين أصبح لا يسمح للرعية بالاقتراب منه، وصار منعزلاً عن الناس ،وحرسه يعاملون الناس بقسوة شديدة..
لكن هيكارو لم يقتنع بهذا الكلام، ولم يرد إطالة الحديث كي لا يشعر الحرس بالريبة، فاشترى بعض الثياب، وأعطى للرجل صرة مليئة بالنقود، وقال له قبل أن يغادر إنه سيعود إليه مرة ثانية، ويرجو عندها أن يحدثه دون خوف..

*****

وبعد أيام... قرر الأمير هيكارو الخروج وحده.. لكن كيف السبيل إلى ذلك والحرس يحيطون به طوال الوقت؟؟
فاهتدى الأمير الصغير إلى خدعة عجيبة..
انتظر حتى أنهى عامل الحديقة الصبي اليافع عمله، وناداه باشارة من يده، فاقترب الصبي وهو يرتجف من الخوف... قال له الأمير إنه يريد منه أمراً لو فعله سيكافئه عليه مكافأة كبيرة..
كانت خطة الأمير أن يرتدي الصبي العامل ثيابه، وأن يرتدي الأمير ثياب العامل، ويدخل العامل غرفة الأمير لينام، بينما يخرج الأمير لابساً ثياب الصبي، فلا يشك به أحد..
خاف الصبي.. تساءل فيما إذا لو اكتشف أحدهم ذلك؟
فطمأنه بأنه لا أحد يدخل غرفته دون إذنه.. وأنه سيعود صباح غد في موعد بدء عمله، فيستعيد كل منهما شخصيته..
ونجحت الخطة ببساطة.. دون أن يلحظ الحرس، فقد كان الصبيان اليافعان في سن واحدة وبنية واحدة.. ومن يعتقد أن الأمير سيتنكر في زي صبي فلاح؟؟؟

****

توجه الأمير فور خروجه إلى ذلك المحل الذي التقى فيه الرجل من قبل.. وما أن رآه حتى كاد يغمى عليه من الخوف.. وبعد أن هدأ الرجل قليلاً، شعر بمدى اهتمام الصبي به وحرصه على صحته، ولم يكن في محله وقتئذ أحد من الزبائن..
وطلب لأمير من الرجل بعد أن استعاد عافيته أن يخبره عن سر خوف الناس منه.. لكن الرجل رفض باصرار..
أدرك الشاب أن هناك حاجزاً كبيراً، يفصل بين الشعب والملك.. وأن عليه أن يكتشف السبب... فقال للرجل: ستخبرني حقيقة الأمر وإلا سوف أخبر جدي الملك أنك أسأت معاملتي.. فصار الرجل يرجوه ألا يفعل ذلك..
فقال: لن أخبره إذا أخبرتني ما سبب خوف الناس من الملك؟
عندها قال الرجل: إن الملك رجل ظالم.. يأخذ أموال الناس بالباطل دون حق، ومن يمتنع عن دفع نصف أرباحه من التجارة لحرس الملك يُضرب ويُسجن على الفور.. والحرس يقومون بإهانتنا وضربنا، ولذلك فنحن ندفع على الفور...
ذهل الأمير الشاب من ذلك.. فجدّه طيّب القلب ولا يمكن أن يفعل ذلك أبداً، وطلب من الرجل دليلاً على كلامه وإلا سوف يعاقبه بنفسه..
قال له: انتظرقليلاً.. اليوم موعد دفع النقود.. سوف يأتي رجال الملك هذا اليوم، وهم يتنقلون الآن بين التجار..

*****

انتظر الأمير حتى سمع حركة وجلبة على مدخل المحل، فاسرع للاختباء خلف بعض البضائع، عندها دخلت مجموعة من حرس الملك.. وطلبوا المال المعتاد فاسرع الرجل بدفعه فوراً دون أن يتكلم..
استشاط الأمير غضباً ولم يستطع تمالك نفسه، فخرج من مخبئه زاجراً الحرس الذين فوجئوا بالشاب دون أن يعلموا من هو؟
وصار الأمير يصيح بهم: ارجعوا النقود لصاحبها وإلا عاقبتكم.. فأنا الأمير يا لصوص...
انقض الحرس على الأمير بعد أن نظروا إلى هيئته وثيابه الرثة، وقبضوا عليه ظناً منهم أنه مجرد شاب متهور.. وعندما شاهد صاحب المحل ما حدث.. وقع على الأرض من الخوف فاقداً وعيه... وأخذ الحرس الأمير معهم، وألقوه في السجن..
وفي المساء اكتشف الملك غياب حفيده.. فاكتشف المزارع الصغير في غرفته، فأقر المزارع بفعلته، واعترف للملك بكل ما حدث..
أمر الملك حرسه بالبحث عن الأمير..
فقالوا له: إن هناك شابا يدعي أنه الأمير وهو في السجن.. وقد ظننا أنه مجنون، فقد وجدناه في السوق يرتدي ثياباً رثة بالية.. ولا يوحي منظره أبدا بأنه الأمير..
فامر الملك باحضاره إليه فوراً.

*****

استغرب الملك أشد الاستغراب من منظر الأمير.. وطلب منه أن يذهب، وينظف نفسه.. ثم يعود ليشرح له ما حدث.. لكن الأمير أصر على أن يخبر الملك عن الأمر قبل أي شيء آخر، وشرح له سبب هذه الحال..
وقال الأمير هيكارو للملك أنه صُدم مما رآه بنفسه، وأخبره أنه لا يقبل أن يكون ولياً لعهده، وأنه سيترك القصر ليعيش كعامة الناس..
فسأله الملك عن السبب؟
فقال له بتعجب: أنت تعرف السبب؟
الملك أصيب بحيرة، وأدرك أن الأمر خطير جداً.. فأمره أن يخبره عما حدث فوراً.. وبعد أن أخبره بما رآه وسمعه بنفسه، أقسم الملك أنه لا يعلم عن هذا الأمر شيئاً، وأنه سيعاقب الفاعلين...
واستدعى الملك بعض حرسه... وسألهم عن الأمر، وعلم أن الأمر صحيح، وأنهم يخشون الكلام ظناً منهم أنه هو الذي يأمر قائد حرسه بذلك..
حزن الملك حزناً شديداً، واستدعى قائد حرسه فوراً، ودعا كبير القضاة، وأمر بتحقيق ومحاكمة علنية عادلة لمعاقبة المذنبين..

****

منذ ذلك اليوم قرر الملك أن يزيل كل أسوار القصر.. وأن يفتح أبوابه للرعية.. يدخلون إليه... ويتحدثون معه كلما أرادوا، وسمح للأمير الشاب أن يخرج ويلتقي بالناس في أيّ وقت وأيّ مكان..
وأعاد الملك المال الى أصحابه بعد أن عاقب قائد الحرس بما يستحقه وأمر بحجز كل أمواله..
وأصبح الأمير بعد ذلك صديقاً لصاحب المحل..
وذات يوم، وفيما كان الأمير يتجول في السوق، شاهد فتاة جميلة جداً، ما أن رآها حتى أعجب بها، فسأل عن والدها، فعرف أنه صاحب المحل نفسه..
ذهب الأمير إليه في محله، وطلب منه أن يزوجه ابنته، فوافق الرجل شرط أن يوافق الملك لأنه من عامة الناس.
وبعد أن عرض الأمير على الملك الأمرـ وافق على الفور رغم أنه كان من عادة الملوك ألا يزوجوا أولادهم إلا من بنات ملوك وأمراء.. فنقض الملك هذه القاعدة القديمة وأصدر موافقته عل زواج حفيده بابنة صاحب المحل..
وكان الملك يريد أن يقيم عرساً ملكياً عظيماً، غير أن الأمير هيكارو كان مصراً على أن يكون عرساً شعبياً... يُقام في إحدى الساحات الكبيرة، وأن يحضره الملك شخصياً لتلقي التهاني من الشعب مباشرة، فوافق الملك على ذلك.. وكان عرساً لم تعرف الممالك القديمة عرساً مثله..

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية