يحكى أن ملكا قال لوزيره يوما: كيف يجب أن أعرف طاعة الشعب لي؟ قال له الوزير: أصدر أمرا يا ملك الزمان بأن لا يشعل أحد النور مدة ثلاثة أيام.  
 
فأصدر الملك هذا الأمر. وفي المساء قال الملك لوزيره: تعال يا وزيري لنذهب ونتجول في البلد حتى نشاهد استجابة الشعب للأمر. فمشيا طويلا فلم يجدا نورا أبدا، ففرح الملك بذلك وعرف أن شعبه يحبه. وفي طريق عودته لمح بصيصا من نور يخرج من شقوق كوخ خشبي من بعيد، فذهبا إلى هذا الكوخ وهما بلباس الدراويش وقرعا الباب، فخرج لهم رجل رث الثياب عليه علامات الفقر فسألهما عن حاجتهما فقالا له: نحن غرباء وجئنا المدينة متأخرين فوجدنا الظلام منتشرا ولم نعرف أين سنذهب فقلنا هنا في هذا البيت يوجد أحد ننزل عنده.   
فرحب بهما الرجل وأدخلهما إلى كوخه حيث لا يوجد فيها شيء يجلسان عليه، ووجدا في الكوخ امرأة عجوزا تجلس في إحدى زواياه، فسلما عليها فردت العجوز عليهما السلام ودعتهما إلى الجلوس وقدمت لهما قطعة من حصير عتيق لونه أسود من الوسخ، فجلسا عليه وأخذا يسألان الرجل عن سبب إطفاء الأنوار في البلدة، ولماذا لم يطفئ هو النور؟ فقال لهما الرجل: إن ملك البلدة أمر بإطفاء النور ثلاثة أيام دون سبب، وإني رجل فقير مسكين، أعيش في هذا الكوخ فرفضت أن أطفئ النور حتى يسمع بي الملك فأشكو له حالي.  
 
فسألاه عن عمله، فقال لهما إنه يعمل أجير حداد بأجر قليل لا يكفيه له ولجدته، وابتدأ يوقد النار لكي يغلي الماء عليها ليصنع لهما الشاي، وكانت أدوات الأكل والشاي كلها من الفخار، وأثناء ذلك أخذ يحدثهما عن حاله ويقص عليهما قصصا مضحكة حتى صار الشاي، فقدمه لهما بفناجين مكسوة الأطراف وليس لها ممسك فشربا وشكراه على ضيافته وقاما لينصرفا، فقال لهما: يا دراويش الخير، أنا كنت أسمع في صغري أن الدراويش تحسن فتح الفال، فأريد منكما أن تفتحا لي فالا أطمئن فيه على مستقبلي. فأجاباه بأن الفال لا يكشف الغيب (الذي لا يعلمه إلا الله) ولكنهما سينظران في كتاب معهما لعلهما يتوقعان له شيئا. ثم أخرجا الكتاب ونظرا فيه ثم قالا له: إن الملك سيصدر غدا أمرا بإغلاق محلات الحدادين وسيطردك الحداد من عنده. فغضب الرجل مما قالاه له وأسمعهما كلمات قبيحة وشتمهما وطردهما من كوخه.  
 
وخرج الملك والوزير من عنده وهما يضحكان، وعندما وصلا إلى القصر أصدر الملك قرارا بأن يغلق الحدادون محلاتهم ثلاثة أيام. فلما أصبح الصباح ذهب باسم (وهذا اسم الرجل صاحب الكوخ) إلى محل عمله فوجده مغلقا، ووجد معلمه واقفا أما المحل. ومن اللحظة التي لمحه فيها معلمه صرخ في وجهه قائلا: اذهب من هنا يا مشؤوم ولا تعد إلى محلي أبدا، فمن اليوم الذي عملت فيه عندي لم أجد خيرا.  
 
وهكذا انصرف باسم وهو حزين النفس حتى وصل كوخه، فسألته جدته عن سبب عودته مبكرا فأخبرها بأنه وجد المحل مغلقا وأن معلمه طرده من العمل. فقالت له: ألم يقل لك الدراويش ذلك ولكنك أسأت إليهما وطردتهما من بيتك؟ فقال لها باسم: إذا جاءا في المساء فسوف اعتذر منهما يا جدتي.

ولما جاء المساء واقبل الليل قال الملك لوزيره: قم يا وزيري لنتجول في البلدة ونمر على صاحب الكوخ لنسمع منه ما جرى معه.  
 
وبعد انتهاء جولتهما في البلدة لم يشاهدا أحدا مشعلا للنور، فاتجها ناحية دار باسم حيث شاهدا من بعيد بصيص النور يخرج من شقوق الكوخ. فلما وصلا إلى الكوخ طرقا الباب ففتح لهما باسم ورحب بهما كثيرا واعتذر لهما عما قاله البارحة. فقبلا منه عذره وسألاه عما حصل معه فأخبرهما عن صدور قرار من الملك بأمر جميع الحدادين أن يغلقوا محلاتهم، وعن طرد معلمه له، وقص عليهما ما حصل عليه من عمل جديد، وأنه بعد أن عاد إلى كوخه قالت له جدته: اذهب يا باسم وفتش لك عن عمل واشتر لنا شيئا نأكله.  
 
فذهب باسم إلى البلدة وأخذ يفتش عن عمل له ويسأل أصحاب المحلات عن حاجتهم لأجير يعمل عندهم بأجر قليل، فلم يجد أحدا يريده إلى أن شاهد حماما فدخل فيه وسأل صاحب الحمّام أن يسمح له بالعمل عنده على ما يدفعه الناس له. فقبل الحمّامي ذلك وسمح لباسم أن يعمل في الحمام دون أجر إلا ما يتكرم به عليه الزبائن. وكان باسم سريع الحركة نشيطا يلبي طلبات الزبائن بسرعة، لذلك كانوا يعطونه بعض القروش أثناء مغادرتهم الحمام. وهكذا كانت حصيلة يومه حسنة مما جعله لا يحزن على طرد معلم الحدادة له. وقال للدرويشين: إن الله لا يغلق بابا إلا ويفتح غيره. وإنني وجدت هذا العمل أنظف وأيسر من عمل الحداد، وأكثر أجرة.  
 
وبقي الملك والوزير عند باسم وهم يتحدثون ويستمعون إلى حكايات باسم ويشربون الشاي حتى وقت متأخر من الليل. وعندما أراد الملك والوزير أن يقوما قال لهما باسم: أقسم عليكما أن تفتحا لي فألا جديدا. فرفضا وقالا له: إنك شتمتنا البارحة وطردتنا من بيتك لأن الفأل لم يعجبك وقد رأيت كيف كان صحيحا. فاعتذر منهما مرة ثانية وألح عليهما أن يفتحا له فألا جديدا. فأخرجا الكتاب، ونظرا فيه ثم تظاهرا بأنهما لم يجدا شيئا. فلم يقبل باسم منهما هذا القول وأصر عليهما أن يقولا له ما شاهداه مهما كان. فقالا له إن الملك غدا سيصدر قرارا بإغلاق الحمامات جميعها وسيطردك صاحب الحمام من حمّامه. فلم يتمالك باسم نفسه عندما سمع منهما هذا القول إلا أن صاحب بهما قائلا: أغربا عن وجهي يا دراويش النحس. وطردهما وهو يسبهما ويشتمهما، فخرجا من عنده وهما يضحكان في سرهما حتى وصلا إلى القصر.  
 
فأصدر الملك أمرا بإغلاق جميع الحمامات لمدة ثلاثة أيام. وفي الصباح الباكر نهض باسم إلى عمله وهو لا يدري ما أصدر الملك من قرارات، فلما وصل باسم إلى الحمام وجدها مغلقة ووجد صاحبها واقفا على الباب وعلى وجهه علامات الأسى والألم. فلما شاهد الحمّامي باسما هجم عليه وصفعه وقال له: انقلع من هنا يا وجه الشؤم. فمن وقت ما وضعت رجلك في الحمام جلبت علينا النحس.  
 
هرب باسم من وجه صاحب الحمام الغاضب وعاد وهو يلعن في نفسه حظه السيئ ويقول إن هذين الدرويشين لا يكذبان وكل ما يقولاه صحيح وقد أسأت إليهما كثيرا وسوف أعتذر لهما مساء إذا حضرا. وبينما هو في طريقه إلى الكوخ كسير النفس شاهد عددا من الكنّاسين يحملون مكانسهم على أكتافهم ويسيرون صفا صفا كأنهم جنود نظاميون يحملون بنادقهم باستعراض عسكري. فسأل أحدهم عن سبب تجمعهم على هذا الشكل فأجابه: إننا بعد أن انتهينا من أعمالنا نتجمع لنذهب سوية إلى حيث نقبض أجورنا، فانضم باسم إليهم ووجد في طريقه مكنسة وضعها على كتفه وسار معهم إلى أن وصلوا إلى دار البلدية فوقفوا جميعهم أمام الصندوق ليقبضوا أجورهم. وحسب أمين الصندوق أن باسما منهم فدفع له الأجر وكأنه واحد منهم.  
 
وانصرف باسم وهو لا يكاد يصدق نفسه أنه حصل على هذه الأجرة دون أن يعمل شيئا وقال: إن الله عوضه خيرا عن الحمام وعن خدمة الناس فيها. وعاد إلى كوخه يقص على جدته ما حصل له من توفيق. فقالت له جدته: يا باسم، إن ما يقوله لك الدراويش صحيح كله فإياك والتعرض لهم بسوء. قال لها باسم: نعم يا جدتي، إن كلامهما يقع وكأنهما يعلمان الغيب. فهل صحيح أن الفأل يكشف لهما عن علم الغيب؟ أجابته جدته قائلة: والله يا باسم إنني أعرف أن الغيب لا يعلمه إلا الله، ولكن هذه القصة حيرتني لأن الدراويش يخبرونك عن كل ما وقع معك قبل وقوعه، وأظن أنهما من الصالحين، فأوصيك أن لا تتعرض لهما بسوء. قال لها باسم: نعم يا جدتي، سوف أكرمهما زيادة عن السابق إذا جاءا في هذه المرة.

وعندما أقبل الليل جاء الملك والوزير بلباس الدراويش يقرعان باب الكوخ على باسم. فتح باسم لهما الكوخ وهو يرحب بهما كثيرا ويعتذر لهما عما بدر منه بحقهما في الليلتين السابقتين. وهما يضحكان في سرهما خفية لئلا يشعر بأنهما يهزآن به ويمازحانه فقبلا اعتذاره وجلسوا جميعهم يتسامرون ويضحكون حتى قارب الليل على الانتهاء. وكان باسم قص عليهما ما حدث معه وقال لهم: ليصدر الملك كل يوم أمرا وإنني سوف لا أبالي بأوامره وها إنني أشعل النور وهو لا يعلم من أمري شيئا. وعندما قاما يودعانه قال لهما: لا بد أن تفتحا لي فألا لأعلم ما سيحدث معي غدا. فرفضا ظاهرا وهما يرغبان أن يفتحا له الفأل. ولكنه أصر عليهما فقبلا شريطة أن لا يتعرض لهما بأذى مهما كانت النتيجة. فقبل منهما هذا الشرط وأخرجا الكتاب ونظرا فيه وقطبا حواجبهما وقالا له: يا ويلك، غدا سينالك أذى كبير، وستضرب بشدة. وما كادا ينتهيان من كلامهما حتى نسي الشرط ونسي وصية جدته فهجم عليهما قائلا: أخرجا يا خبثاء، أنتما كذّابان دجّالان، أنتما سبب الشر الذي أصابني. وأخذ يشتمهما ويسبهما بأقبح الكلام.  
 
فخرج الملك والوزير وهو يدفع بهما إلى خارج الباب ويغلق الباب وراءهما بشدة وبقي صوته مرتفعا يسمعانه ولا يفهمان شيئا. والملك يضحك بصوت عال ويقول لوزيره: لنأت غدا ونسمع منه تفاصيل ما سوف يلقاه. ولما وصل الاثنان إلى قصر الملك أرسل الملك خلف رئيس البلدية وقال له: إن أموال البلدية تذهب هدرا وإنكم تعطون الأجور لمن لا يعمل في البلدية، وإن هناك من جماعة المكنسين من يقبض أجرة دون أن يعمل. وهدد الملك رئيس البلدية بأنه سيضاعف لهم العقوبة فيما إذا تكرر منهم ذلك.  
 
عاد رئيس البلدية إلى بلديته غضبان مما قاله له الملك وطلب من المفتشين عنده أن يدققوا حسابات أمين الصندوق وحسابات المكنسين بشكل خاص، فتبين لهم أن أمين الصندوق دفع أجرة زائدة عن العدد المسجل لديه فكتبوا بحقه للرئيس واقترحوا مجازاة أمين الصندوق. وعندما جاء المكنسون ليقبضوا أجورهم أمرهم أمين الصندوق أن يدخلوا غرفة جانبية وهناك أحضر جدولا بأسمائهم وأخذ ينادي عليهم واحدا واحدا إلى أن بقي باسم وحده الذي جاء معهم هذه المرة كما فعل في المرة السابقة. فلما علم أمين الصندوق أن هذا هو الذي سبب له العقوبة، وأنه هو الذي قبض الأجرة دون أن يكون مسجلا عنده، أمر شرطة البلدية فاستلمت باسما وأدخلته السجن وضربته ضربا أليما حتى وقع مغميا عليه، فأخذوا به وألقوه خارجا إلى أن صحا باسم وهو يتألم جدا. فانسحب إلى كوخه وهو يجر بعضه بعضا حتى جاء الليل.

وعندما جاء الليل قال الملك لوزيره: قم يا وزيري لنذهب إلى كوخ باسم ونسأله عما حدث له في هذا اليوم. فلبسا لبس الدراويش وذهبا إلى حيث يسكن باسم المسكين، ولما وصلا إلى باب الكوخ وجدا النور يشع كما سبق، وهو النور الوحيد الذي رأياه في البلدة. قرعا باب الكوخ فخرج إليهما باسم وهو يترنح من شدة الألم ولا يستطيع أن يتكلم أو أن يرفع صوته.  
 
رحب بهما باسم على قدر ما يستطيع وأجلسهما على الحصير كالسابق وصنع لهما الشاي وقص عليهما ما حصل له وكيف عذبته الشرطة وأنه لم يعد يتعرض لهما بسوء ولم يعد يسألهما أن يفتحا له فألا. وبقي الثلاثة يتسامرون حتى صار موعد الانصراف فقالا لباسم: أنت في كل ليلة كنت تسألنا أن نفتح لك فألا، ونحن هذه المرة سنفتح لك الفأل دون قول منك. فأخرجا الكتاب ونظرا فيه وصاحا مبتهجين: أنت غدا ستصبح ملكا.  
 
صاح باسم مندهشا: ملك !! أنا سأصبح غدا ملكا ! مستحيل. قالا له: ألم توقن بأن كل ما قلناه لك حصل معك؟ قال: بلى. قالا: إنك غدا ستصبح ملكا. وودعاه وانصرفا وهما متألمان مما أصاب باسم على يد الشرطة من التعذيب.  
 
وفي اليوم التالي جاءه أحد رجال الشرطة يطلبه على ملأ من الناس لمخالفته أوامر الملك وإشعاله النور في الليلات الثلاث الماضيات، وأخذوه مقيد اليدين إلى مخفر الشرطة أمام أهل البلدة، وهم يقولون له: هذا جزاء من يخالف أمر الملك. وعندما وصل إلى المخفر سأله رئيس المخفر عن اسمه وعن عمره وعن عمله وكتب كل ذلك في الدفتر. وسأله عن سبب إشعاله النور ليلا رغم أمر الملك فقال باسم: إنني لم أشعل النور إلا لأنني أقيم في كوخ صغير كل أغراضي فيه فإذا لم أشعل النور لا أستطيع فيه حراكا، وإنني لا أخالف أمر الملك أبدا وإنني أطلب منه العفو.  
 
وأخذ باسم يبكي خوفا من التعذيب لأنه لم ينس تعذيب الشرطة له ليلة البارحة، وهنا قدم له أحد الشرطة فنجانا من القهوة فشربه باسم وتبنّج ولم يعد يشعر بشيء، وجاء جماعة من أتباع الملك فحملوه إلى القصر وهناك غسلوه وألبسوه ألبسة الملوك وأجلسوه على عرش الملك وجلست إلى جانبه الجواري والخدم، ثم سقوه شرابا ضد البنج فاستيقظ باسم وفتح عينيه ونظر أمامه فرأي الفتيات الجميلات والفرش الفخم والخدم واقفين على الجانبين. فنظر إلى ثيابه فرآها ثيابا ملكية ووضع يده على رأسه فوجد عليه تاج الملك، فلم يصدق نفسه أنه ملك، ففرك عينيه وأعاد النظر ثانية فوجد كل شيء كما رآه في المرة الأولى. عند ذلك تذكر ما قاله له الدرويشان فعلم أنهما لم يكذبا عليه.  
 
فنادى لأحد الخدم وقال له: أين أنا؟ قال له الخادم: أنت في قصرك يا مولاي، أترغب أن أنادي لك الوزير؟ قال له (الملك) باسم: ناد لي الوزير يا غلام. خرج الخادم وعاد ومعه الوزير عليه لباس الوزراء فسلم عليه سلام الملوك وقال: أمرك مولاي. قال له الملك باسم: أريد أن توزعوا على الفقراء مائة كيس من الطحين، وأريد أن توزعوا على كل واحد منهم عشرة دنانير، وأريد أن توزعوا عليهم مائة تنكة من السمن ومائة تنكة من الزيت. وأن توزعوا عليهم ألف ثوب قماش وعشرة أحمال صابون.  
 
وكان كل الذي يأمر به الملك باسم يتم تنفيذه فورا حتى خشي الملك الحقيقي أن لا يُبقي باسم في الخزينة شيئا فأشار على وزيره أن يسقوه كأسا من البنج، فتقدم الوزير إلى الملك باسم وأعطاه الكأس قائلا: إنك يا مولاي قد تعبت ولا بد لك من هذا الشراب المقوي. أخذ باسم الكأس وشربه وغاب عن الوجود.

فحمله الخدم إلى حيث كان في مخفر الشرطة، وهناك سقوه شرابا ضد البنج فاستيقظ ليجد نفسه جالسا أمام رئيس المخفر، ففرك عينيه ونظر ثانية أمامه فوجد نفسه في المخفر ونظر إلى ثيابه فوجدها ثيابه القديمة ووضع يده على رأسه فلم يجد عليها التاج. فتعجب باسم من حاله وسأل رئيس المخفر إذا كان أحد أخذه من مكانه أم لا؟ فقل له رئيس المخفر: إنك أمامي أكتب بحقك تقريرا وسأرسلك مع التقرير إلى جلالة الملك ليطبق عليك العقوبة التي تستحقها لأنك خالفت أوامر جلالته بإشعالك النور مدة ثلاثة أيام.  
 
ارتجف باسم من شدة خوفه وقال لرئيس المخفر: إنني لم أخالف أوامر الملك وإنني رجل فقير مسكين فلا ترسلني إلى الملك وسوف لا أشعل النور مرة ثانية عندما يأمر الملك بإطفائه. أجابه رئيس المخفر بأنه لا بد من إرساله إلى عند الملك لأن الأمر صدر له بذلك. وهكذا أرسل رئيس المخفر باسما مع شرطي إلى قصر الملك. فلما وصل إليه أدخله الشرطي إلى قاعة الحكم، ولما جاء دوره سمع صوتا يناديه باسمه وجاء رجل وأمسكه بيده وأدخله إلى حيث يوجد الملك. ولما شاهد باسم الملك وعليه ثياب الملك ارتجف من شدة الخوف، ووجد إلى جانب الملك الوزراء والعساكر وكل واحد منهم ينظر إليه. سأله الملك: هل صحيح أنك أشعلت النور يا باسم وخالفت أوامري؟  
 
فكر باسم قليلا ثم رفع رأسه ونظر إلى الملك وهو مصمم على أن يحكي الحقيقة. قال باسم للملك: نعم يا مولاي إنني أشعلت النور ولكنني لم أكن أقصد مخالفة أوامرك يا مولاي، وإنما أنا رجل أسكن في كوخ صغير ومعي جدتي ولا استطيع أن أتحرك فيه ليلا إذا لم أشعل النور، وقد زارني في هذه الليالي الثلاثة اثنان من الدراويش فأبقيت النور مشتعلا لأنهما غرباء عن البلدة ولم يجدا أحدا غيري مشعلا للنور، فأنزلتهما عندي حتى آخر الليل. قال له الملك: إن الدرويشين جاءا وزاراني وحدثاني عن زيارتهما لك في هذه الليالي الثلاث وقصا علي كل شيء وأنهما فتحا لك الفأل وأنك كنت تسبهما وتشتمهما بعد أن تستمع إلى ما يقولانه لك. لذلك فإنني سوف أشدد عليك العقاب، ولكنك صدقتني، وعندما صرت ملكا أمرت بمساعدة الفقراء فلن أعذبك وسأكافئك على صدقك وعلى حبك للخير بأن أسمح لك بدخول غرف الجواهر لتأخذ منها ما تريد.  
 
صفق الملك بيديه فجاءه خادم أسود كبير الجسم يحمل بين يديه صينية عليها عدد من المفاتيح وقدمها للملك. أخذ الملك المفاتيح وسلمها لباسم وقال له: أذهب مع منير (وهو اسم الخادم الأسود) لتفتح الغرف بنفسك وتأخذ منها ما تريد جزاء على صدقك وحبك للفقراء. ذهب باسم مع منير إلى دار الخزانة وهناك وجد غرفا عديدة وكل أبوابها من الحديد وعليها أقفال كبيرة. وكلما فتح غرفة وجد فيها من الجواهر ما يبهر البصر. ولكن باسما لم يأخذ منها شيئا لأنه لم يرد أن يأخذ على صدقه مكافأة ما دام الصدق وحب الفقراء وعمل الخير أنقذه من العذاب الشديد ولكنه وجد غرفة يظهر عليها أنها مهجورة ووجد فيها حزاما عتيقا فأخذه وقال هذا ينفعني لأنه لا يوجد عندي حزام. ووجد أيضا فأسا فأخذه وقال إنني من غير عمل وهذا الفأس ينفعني في تكسير الحطب لكي أبيعه واشتري بثمنه ما نأكل أنا وجدتي. ووجد أيضا مزمارا فأخذه حتى يتسلى به في الغابة، وجمع هذه الأشياء وخرج بها وقال لمنير: اذهب بي لعند الملك لأشكره على عفوه عني ولأقول له: إنني لا أريد مكافأة على صدقي وقد أخذت هذه الأشياء العتيقة.  
 
سار منير مع باسم في حدائق القصر الملكي وبينما هما في طريقهما إلى قاعة الحكم شاهد باسم فتاة جميلة جدا في نافذة إحدى الغرف وهي ساهمة في النظر إلى عصفور صغير واقف على حافة الشرفة قريبا منها دون أن يخاف. سأل منيرا عن هذه الفتاة الجميلة فقال له منير: هذا ابنة الملك.  
 
ولما وصلا إلى عند الملك وعلم الملك أن باسما لم يأخذ شيئا من الجواهر تعجب منه ولم يفرض عليه الأخذ فرضا وتركه وشأنه، وأمر به أن يوصلوه إلى بيته. ولما شاهدته جدته صاحت به: انظر يا باسم ماذا أرسل لنا الملك! نظر باسم إلى زاوية الكوخ فوجد فيها تنكة سمن وكيسا من الطحين وتنكة من الزيت وقطعا من القماش وعددا من ألواح الصابون ووجد صرة مفتوحة فيها عدد من الدنانير. صاح باسم في جدته: هذا أنا الذي أمرت بإرسالها إلى الفقراء لما صرت ملكا. قالت له جدته: أنت صرت ملكا يا مجنون!! قال: نعم يا جدتي، والله صرت ملكا وأمرت للفقراء بكل هذه الأشياء، وهل نسيت يا جدتي ماذا قال لي الدرويشان. ولكن كيف صرتُ ملكا وكيف رجعتُ إلى حالي لا أعرف. ولكنني أعرف أنني صرت ملكا وجلست على العرش ولبست التاج وجاءني الوزراء، والخدم من حوالي، ينفذون أوامري لهم بالحال. وقد عفا عني الملك لأنني صدقته وأمر لي بأن آخذ من جواهره ما أريد، فلم آخذ منها شيئا وأخذت هذه الأشياء العتيقة لأنها لا تساوي شيئا.  
 
فلما رأت جدته هذه الأشياء العتيقة يلقي بها باسم أمامها لم تصدق حفيدها ولكنها تعرفه لا يكذب، لذلك عادت وسألته فيما إذا كان شاهد نفسه ملكا في المنام. فأكد لها باسم انه صار ملكا، وأنه لم يصدق هو نفسه لذلك فرك عينيه أكثر من مرة فوجد نفسه ملكا في قصر الملك ولديه الخدم وجاءه الوزراء وأمرهم أن يوزعوا على الفقراء السمن والزيت والصابون والطحين والقماش والدنانير، وأنه كان في المخفر قبل أن يصير ملكا وجد نفسه في المخفر بعد أن صار ملكا، لكن كيف صار ومن أخذه ومن أعاده فهو لا يعرف ولم يقل له رئيس المخفر شيئا وإنما أجابه عندما سأله باسم هل أخذه أحد من الخفر وأعاده إليه، قال له رئيس المخفر: إنك هنا مخالف لأوامر الملك وأنا أكتب بحقك تقريرا وسأبعث بك إلى الملك. وإنني يا جدتي ذهبت إلى الملك وقلت له الحقيقة فعفا عني وأمرني بأن آخذ من الجواهر ما أشاء فلم أقبل أن آخذ أجرا على صدقي ووجدت هذه الأشياء العتيقة فأخذتها وجئت لعندك يا جدتي.

قالت له جدته: أمرك غريب يا باسم! أنت تصير ملكا ولا تعرف كيف صرت، ويأمرك الملك أن تأخذ من الجواهر ما تريد ونحن فقراء فلا تأخذ شيئا وتأتيني بهذه الأشياء العتيقة! ولولا أن الملك بعث لنا بهذا الرزق لبقينا دون أكل. قال باسم: والله يا جدتي أنا الذي أمرت بها للفقراء. قالت له جدته: الملك هو الذي أمر لنا بها كما قال لنا الحمال الذي جاء بها. فإن كنت أنت الملك أو غيرك كان الملك، فالملك هو الذي أمر لنا بها.  
 
أخذ باسم الحزام وأخرج من جيبه القروش التي معه ووضعها في الحزام ثم أراد أن يعدها لأنه لم يعدها عندما وضعها فيه، فأخرجها من الحزام ولما سقطت على الأرض وجدها دنانيرا ولم يجد معها قروشا، فهز الحزام ثانية فلم ينزل منه شيء. فلم يصدق باسم عينيه فنظر في الدنانير ثانية فوجدها من ذهب، فصاح في جدته: يا جدتي يا جدتي، انظري انظري، وضعت القروش في الحزام فانقلبت ذهبا. فلم تصدقه ونظرت إلى الذهب فوجدته ذهبا صحيحا فقالت له: هذه الدنانير التي أرسلها الملك يا باسم، أخذتها أنت من على كيس الطحين. قال لها باسم: هي أمامك في مكانها. فنظرت الجدة إلى كيس الطحين فوجدت الدنانير على حالها. فتعجبت من ذلك وقالت لباسم: اخرج واقترض بعض القروش من عند الجيران وتعال أمامي وضعها في الحزام وأخرجها ثانية لنرى كيف تخرج.  
 
ذهب باسم إلى عند جيرانه وطلب منهم عشرة قروش فأعطاه الجيران ما يريد. ولما عاد إلى الكوخ وضع القروش في الحزام أمام جدته ثم هزه فتساقطت الدنانير تلمع من جدتها. اشترى باسم قروشا كثيرة وقلبها كلها ذهبا. واشترى له ولجدته ما يلزمهما. ولمّا أيقن باسم أنه بإمكانه أن يحصل على الذهب في كل وقت يريده تذكر ابنة الملك التي رآها في الشباك، وقال لجدته: إنني أريد أن أتزوج بنت الملك يا جدتي. صاحت به جدته: هل أنت مجنون يا باسم؟! كيف يمكنني أن أخطب لك بنت الملك ونحن جماعة فقراء، وغير معروفين بين الناس؟ قال لها باسم: إنني غني وأستطيع أن أقدم لهم جميع ما يطلبونه، وما عليك إلا أن تذهبي إليهم وتطلبي لي ابنة الملك.  
 
وفي اليوم التالي لبست جدة باسم أحسن ما عندها من الثياب وقصدت قصر الملك، ولما وصلته طلبت الإذن لها لتدخل على زوجة الملك، وكان الملك قد حدث زوجته عن باسم وعما حصل له ولوزيره معه، فلما استأذنت جادة باسم بالدخول على زوجة الملك أذنت لها الملكة وأدخلتها إلى القصر ورحبت بها ولم تعرف لماذا جاءت. وبعد أن استراحت الجدة وشربت القهوة وأخذت الضيافة قالت:

إنني جئتك راغبة ولابنتك خاطبة. دهشت الملكة من هذا الطلب الذي لم تكن تتوقعه من جدة باسم وسألتها: لمن تخطبين أيتها السيدة؟ قالت جدة باسم: إنني أخطب لحفيدي باسم. ضحكت الملكة حتى استلقت على قفاها، لأنها سمعت بفقر باسم وبما حصل له في الحمّام وعند الشرطة، ولما هدأت قال لجدة باسم: كيف يطلب باسم ابنتي وهو لا يملك قوت يومه؟ أجابتها جدة باسم بأنه غني وأنه يستطيع أن يقدم لهم جميع ما يطلبونه. عندها قالت الملكة: إننا نريد عشرة أحمال من ذهب، فهل يستطيع باسم أن يقدمها؟ قالت الجدة: إنني سأبلغه هذا الطلب وأخبركم غدا بالجواب.  
 
وعندما عادت الجدة إلى بيتها وأخبرت باسما بجواب الملكة قال باسم: هذا أمر بسيط. عودي إليهم غدا وأخبريهم أنني قبلت الشرط وأن الذهب سيكون عندهم بعد أسبوع. عادت جدة باسم إلى قصر الملك، وكانت زوجة الملك قد أخبرت زوجها بأن باسما أرسل جدته ليخطب ابنته وأنها طلبت منها عشرة أحمال من الذهب. فضحك الملك من هذا الخبر وظن أن باسما قد أصبح مجنونا، فتأثر له. ولما عادت جدة باسم لتؤكد موافقة باسم على شرط الملكة كان الملك حاضرا فاستغرب منها هذا القول وسألها: كيف يقدم باسم هذا المهر ومن أين يأتي بالذهب؟ قالت له جدة باسم: إن باسما لديه ذهب كثير وسوف ترون بعد أسبوع كيف سيأتيكم محمّلا على عشرة جمال كبيرة. لم يصدق الملك قولها وحسبها قد أضاعت عقلها هي وباسم، لذلك تأثر لها وودّعها مظهرا أنه صدّقها وأنه سينتظرهم ليأتوا بالذهب في الأسبوع المقبل.  
 
خرجت جدة باسم من قصر الملك وهي فرحة من موافقة الملك على تزويج ابنته لباسم. وما أن وصلت الجدة إلى بيت باسم حتى زفت له البشرى بموافقة الملك على تزويجه. ذهب باسم إلى السوق واشترى جميع ما فيه من قروش وعاد إلى البيت وبدأ يضعها في الحزام ويهزها فتخرج ذهبا. واستمر في عمله ليل نهار حتى تجمع لديه كميات كبيرة من الذهب. واشتري عشرة أحمال وعشرة جمال، ووضع الذهب في الأحمال ووضعها على ظهر الجمال وأسرع إلى قصر الملك ليتزوج ابنة الملك.  
 
وصل باسم إلى قصر الملك ووراءه الجمال فاستأذن له الحراس ولما دخل لعند الملك لم يصدق الملك عينيه من كثرة ما شاهده من الذهب، لدرجة أنه لم يصدق أنه ذهب حقيقي فاستدعى الصائغ ليفحص الذهب. وبنتيجة الفحص ظهر أن الذهب حقيقي، فسأل الملك باسما عن مصدر هذا الذهب فقال له باسم: إن الحزام الذي أخذته من عندك صنع كل هذا الذهب. قال له الملك: وكيف يصنع الحزام الذهب؟ قال له باسم: أعطني قليلا من القروش وانظر كيف أضع الذهب في الحزام وأهزه فيخرج منه الذهب بدلا من القروش. جاءه الملك بقليل من القروش فوضعها باسم في الحزام والملك ينظر إليه ثم هز باسم الحزام فنزل الذهب من الحزام يلمع من جِدّته. دهش الملك من هذا الحزام ولم يتمالك نفسه حتى خطفه من يد باسم ونادى الخدم ليقذفوا بباسم خارج القصر.

وهكذا خرج باسم من القصر مطرودا وحيدا دون حزام ودون عروس. ولم يبق عنده من الذهب شيء، لذلك عاد إلى بيته وهو حزين باك. ولما وصل إلى بيته قص على جدته ما حصل له مع الملك فقالت له جدته: لا تحزن يا باسم. إن الذي يسر لك الحزام ييسر لك خيرا منه.  
 
نام باسم تلك الليلة دون عشاء وهو محزون كئيب. وفي الصباح استيقظ باسم وهو يفكر في الطريقة التي يستطيع بها أن يحصل على ما يأكله هو وجدته. وإذا به يلمح الفأس الذي كان أخذه من قصر الملك، فقال في نفسه: آخذ هذا الفأس وأخرج إلى الغابة واحتطب وأبيع الحطب وأشتري بثمنه ما نأكل. أخذ باسم الفأس وخرج مسرعا إلى الغابة. وهناك وجد باسم شجرة كبيرة فضربها بفأسه وبدلا من أن تنكسر الشجرة ظهر عليها عدد كبير من التفاح الأحمر الجميل. فضرب باسم الشجرة مرة ثانية فخرج منها في الطرف الثاني تفاح أصفر جميل. ولما كان باسم جائعا أكل تفاحة حمراء، ولكنه نظر إلى نفسه فوجد نفسه قد تغيرت خلقته وانقلب إلى حمار. فصاح باسم من الدهشة والخوف ولكن صوته خرج كصوت الحمار، فمشى قليلا ليرى كيف يتحرك فوجد أنه يمشي على أربعة أرجل مثل أرجل الحمير، فرفع رأسه إلى الشجرة لينظر إليها فوجد فوق رأسه التفاح الأصفر وكان لا يزال جائعا فمد فمه وقضم تفاحة صفراء وإذا به يعود إنسانا كما كان.  
 
فرح باسم لأنه لم يبق حمارا وتذكر ما صنع به الملك فقال سأجمع كمية من هذا التفاح وأقدمه هدية للملك، وأخذ من التفاح الأحمر والأصفر. وعندما وصل إلى قصر الملك استأذن عليه فأذن له.ولما دخل عليه قدم له التفاح الأحمر الجميل فسرّ به الملك لأنه لم ير مثل هذا التفاح. وأمسك واحدة بيده وقضمها وإذا به ينقلب إلى حمار فصاح من خوفه على حاله فخرج صوته مثل صوت الحمار. ولما أصبح الملك على هذه الحالة وعلم أن باسما قد انتقم منه، تقدم إلى باسم وبدأ يمسح رأسه به، فتأثر باسم من حالة الملك وقال له: إذا أعدتك إلى صورتك الأصلية تزوجني ابنتك؟ هز الملك برأسه فأخرج باسم تفاحة صفراء وقدمها إلى فم الملك، ولما قضمها الملك عاد في الحال إلى ما كان عليه.  
 
سأل الملك باسما عن سر هذه التفاحات، فقال له باسم: هذا من عمل الفأس الذي أخذته من عندك، وإنني عندما أخذتَ مني الحزام لم يبق عندي شيء آكل منه ووجدت هذا الفأس فأخذته وذهبت إلى الغابة لأقطع الحطب. ولما ضربت الشجرة ظهر هذا التفاح الأحمر عليها. فضربتها ثانية فظهر التفاح الأصفر. فأكلت من التفاح الأحمر فانقلبت إلى حمار، فأكلت من الأصفر فعدت إنسانا.  
 
وما أن انتهى باسم من كلامه حتى خطف الملك الفأس من يد باسم وأمر الخدم فأخرجوه من القصر وأغلقوا الباب وراءه.

عاد باسم إلى بيته وقص على جدته ما حصل معه، فقالت له: يا باسم، لا تحزن. سوف يعوضك ربك خيرا مما ذهب منك.  
 
نام باسم حزينا دون غداء ودون عشاء حتى الصباح. ولما استيقظ نظر حواليه فلم يجد شيئا ولكنه وجد المزمار الذي كان أخذه مع الحزام والفأس من قصر الملك، فقال في نفسه: ماذا أصنع بهذا المزمار العتيق؟ ومد يده وتناول المزار ومسح من عليه التراب، وقربه إلى فمه ونفخ فيه. وما أن انتهى من النفخة الأولى حتى وجد أمامه حشدا كبيرا من الجنود، وأمامه القائد يضرب له التحية ويقول له: أمرك يا مولاي! سأله باسم: من أنت؟ قال له القائد: أنا خادم كل من ينفخ في هذا المزمار، وهذا جندي معي. وأنا مستعد لأن أعمل كل ما تأمر به.  
 
قال له باسم: جئني بالملك إلى هنا حالا. ولم ينه باسم كلامه حتى رأى الملك مقيدا بالحديد وواقفا أمامه. نظر الملك أمامه فوجد باسما واقفا، ونظر خلفه فوجد عددا كبيرا من الجنود مع أسلحتهم الكاملة، فارتعش الملك وسأل باسما: ماذا تريد مني؟ قال له باسم: أريد أن تزوجني ابنتك. قال له الملك: أطلق سراحي ولك ما تريد.  
 
فرح باسم بكلام الملك وأمر بإطلاق سراحه، وجلسا يتحدثان حتى عرف الملك من باسم كيف حصل على هذا الجيش الكبير. طلب الملك من باسم أن يريه المزمار، ولما استلم الملك المزمار نفخ فيه وإذا بالقائد والجيش يخرج إليه ويتقدم القائد من الملك ويقول له: أمرك مولاي. فأمر الملك القائد بأن يعيده إلى قصره، وأن يقذف بباسم في البرية ليرعى الجمال وأن لا يعود إلى البيت إلا ليلا. أعاد القائد الملك إلى قصره وقذف بباسم في البرية ليرعى الجمال، ثم غاب القائد مع جيشه.  
 
بقي باسم عدة أيام وهو يرعى الجمال وكلما قرب المساء كان يجمع الجمال ليعود بها ولا تجتمع معه بسهولة، إلى أن جاء يوم من الأيام - وكان ذلك اليوم شديد الحرّ - وهو جالس إلى صخرة والشمس من فوقه ترسل عليه حرارتها الشديدة، وهو يتصبب عرقا. وبينما هو كذلك، إذا هو بحيّة صغيرة تأتي إليه مسرعة وتصيح: يا باسم خبئني عندك. تعجب باسم من كلام الحيّة وقال لها: كيف أخبّئك عندي وأنت أفعى سامة؟! قالت له: لا تخف. إن ابن عمي يلحق بي ويريد قتلي، أسرع يا باسم.  
 
ولم يكد باسم يضع الحيّة في صدره وتختفي حتى ظهر عن بعد ثعبان أسود كبير، يتّجه مسرعا نحو باسم. ولما وصل الثعبان أمام باسم سأله إذا كان شاهد حية تمر من أمامه، وإلى أين ذهبت؟ قال له باسم: إنها في صدري. لم يصدقه الثعبان وحسبه يمزح فذهب يفتش عنها ويرفع رأسه ينظر في كل اتجاه. ولما يئس الثعبان من العثور عليها اغتم غما شديدا، فلم ينتبه إلى صخرة قريبة من رأسه حين كان يبعث في التراب يبحث عن الحية، فتحركت الصخرة وسقطت على رأسه فمات.  
 
بعد قليل مدّت الحية رأسها وسألت باسما عن الثعبان فقال لها باسم إنه قد مات. فلم تصدق الحية قوله حتى نظرت إلى حيث أشار، فوجدت الثعبان جثة هامدة، فخرجت من صدر باسم وقالت له: لماذا قلت للثعبان أنني في صدرك؟ قال لها باسم: لأنه لم يكن ليصدقني. فقالت له وهي مسرورة من نباهته: تمنَّ عليَّ يا باسم. قال لها باسم: إنني لا أريد منك شيئا، وإنما هذه الجمال تعذبني عند الانصراف ولا تتجمع بسرعة، فأريد منكِ أنت تساعديني على جمعها. قالت له الحية: افتح فمك يا باسم لكي أتفل فيه، وسوف تقدر على جمعها بسهولة.  
 
خاف باسم من فتح فمه فتسمه الحية فلم يفتحه. فقالت له الحية: لا تخف يا باسم وافتح فمك، ولما فتحه تفلت فيه الحية وقالت له: قل للجمل الصق، يلتصق بالجمل الذي بجانبه ولا يقدر على الفكاك حتى تأمره بذلك. فرح باسم بما قالته الحية، وشكرها، ثم أسرع نحو الجمال وقال لأول جمل الصق، فلصق بجاره ... وهكذا حتى لصق الجمال بعضهم ببعض، فساقهم باسم إلى أماكنهم عند قصر الملك. ولما وصل باسم مع الجمال استغرب الحراس مجيئه مبكرا فأخبروا الملك بذلك.

فناداه الملك لعنده فلما وصل باسم إلى عند الملك قال له باسم الصق، فلصق الملك في الأرض ولم يعد يستطيع حراكا. وهكذا قال باسم الصق لجميع من في القصر فلم يبق فيه أحد إلى والتصق برفيقه ولم يعد يتحرك. وعندما انتهى باسم من جمع جميع من في القصر قال للملك: الآن إما أن تزوجني ابنتك وإما أن تبقى هكذا طول عمرك. قال له الملك: كيف تفعل بي هكذا وتريدني أن أزوجك ابنتي؟ قال له باسم: إنك وعدتني أن تزوجني إياها على مهر قدره عشرة أحمال من ذهب، فجئت لك بالذهب، ولما علمت كيف أصنع الذهب خطفت مني الحزام وطردتني من قصرك، وبعدها خطفت الفأس وطردتني من قصرك أيضا، ثم أخذت المزمار لتجربه فأمرت القائد بأن يقذف بي في البرية لكي أرعى الجمال. وفي هذه المرة هل تستطيع أن تأخذ السر من فمي؟! لذلك ستبقى هكذا حتى تزوجني ابنتك.  
 
قال له الملك: فكّني حتى أطلب القاضي ليحضر إلى هنا. قال له باسم: اكتب له ورقة بالحضور وأنا آتي به إليك. ولما لم يجد الملك له مخرجا في هذه المرة قال لباسم: أعطني قلما وورقة. فلما جاءه باسم بهما كتب الملك كلمة للقاضي لكي يحضر إلى القصر ويعقد لابنته على باسم. ذهب باسم إلى المحكمة وجاء بالقاضي إلى القصر وهناك أمر الملك القاضي بأن يعقد لابنته على باسم. فكتب القاضي العقد كما أمره الملك ووقع عليه الشهود.  
 
عند ذلك فك باسم الملك وحاشيته، فتقدم الملك من باسم وقبله وقال له: إنني أردت من كل ذلك أن أعرف مدى حبك لابنتي. فلما وجدت أنك لا تريد شيئا إلا زواجها وأنك لا تريد مالا ولا جاها وكل شيء طلبته منك قدمته لي. وعندما طلبت منك أن تأخذ الجواهر من قصري كما تريد لم تأخذ منها شيئا وإنما اكتفيت بأشياء عتيقة لا تغني شيئا فكانت سبب سعادتك وإنني أقدمها إليك لأنك صاحبها. ولما كنت محبا للفقراء وقد صرفت عليهم الأموال الكثيرة يوم صرت ملكا، لذلك فإنني سأجعلك خليفة من بعدي فاذهب وائت بجدتك واسكن أنت وزوجك وجدتك معي في هذا القصر حتى أموت وتصبح أنت الملك.  
 
وهكذا أعلنت الأفراح مدة سبعة أيام ووزعت الهدايا والأموال على الفقراء والمساكين، ولم يبق أحد في المملكة إلا وشهد عرس باسم على بنت الملك.  
 
وبعد أن مات الملك، تسلم باسم السلطة بعده وعاش هو وزوجته وجدته حتى جاءهم هادم اللذات ومفرق الجماعات، فهنيئا لمن يفعل الخير في حياته. والصلاة والسلام على معلم الناس الخير وعلى آله وصحبه وسلم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية