حكاية الزهرة
The flower tale
كتبتها: لويزا ماري ألكوت
ماريون فتاة لطيفة صغيرة السن كانت قد عانت من المرض لمدة طويلة، كما أنها لاتزال ضعيفة البنية؛ لذا كان عليها أن تُلازم الفراش لمدة طويلة.كانت ماريون بعد ظهيرة أحد الأيام العاصفة الشديدة البرودة من فصل الشتاء التي تتساقط فيها الثلوج بغزارة؛ في الخارج مُمدّدة في فراشها تحاول بصعوبة الاسترخاء والنوم؛ لكن دون جدوى.كانت تشعر بالكثير من السَأم لأن كل ما حولها كان هادئاً مُملّا. كانت ممرضتها قد غَفت على كرسيها، وكانت قطتها الصغيرة تُخرخر على البساط، ولم يكن حولها أي شيء بإمكانه أن يُثير الاهتمام ما عدا تلك المزهرية التي تحتوي على باقة يانعة من زهور البنفسج.حدثت ماريون نفسها وهي تتنهد: "لو كان لدي على الأقل من أروي له قصة حياتي لكنت سأشعر بأن هذا اليوم الطويل يمرّ دون ضجر وملل، لكن والدتي ليست في المنزل، كما أنني سبق أن قرأت كل ما لدي من كتب وحفظت ما فيها عن ظهر قلب، فما الذي سأفعله ما دمت لا أرغب حالياً في اللعب بالدمى؟؟".لكن لم يكن هناك من قد يُجيبها على ذلك التساؤل؛ لذا تنهدت من جديد ثم نظرت إلى الطرف الآخر من الغرفة وهي تأمل العثور في ذلك الركن على أي وسيلة قد تجلب لها بعض التسلية.
كانت السيدة التي تبدو في المروحة اليابانية تشرب الشاي من إبريق أحمر وأصفر تنظر إليها بعينيها الصغيرتين دون أن يبدو عليها الاهتمام بهذه الفتاة الصغيرة الشاحبة المُمدّدة على سريرها، وكانت الدمى المُكدّسة إلى جانبها تبدو حزينة لأن ماريون أهملتها، وكانت الكتب المُكدّسة على الرفوف قد قُرئت عدة مرات بحيث لم يعد فيها ما هو جديد قد يُثير اهتمام ماريون.
حدّثت ماريون نفسها من جديد:"يا إلهي! كم أتمنى لو كان بإمكان الطيور التي تبدو في هذه اللوحة أن تُغرد أو أن تتحدث إليّ. كنت دوماً طيبة جداً تجاهها، وأعتقد أن على أحدها أن يشعر بالإشفاق على هذه الصغيرة المريضة وأن يفعل شيئاً لإرضائها، وكانت قد تنهدت من جديد بقوّة؛ وهو ما جعل إحدى تلك الزهور الجميلة الصغيرة تطير من الإناء.
تناولتها ماريون برفق لكي تلعب معها، فقد بدا لها كأن تلك الزهرة تبتسم لها بين تُويجها البرّاق، وهو ما جعلها تشعر بالحنان تجاهها وتقبّلها برقّة كما لو أنها قد عثرت على صديقة.
ثم كانت دهشة ماريون كبيرة لأن تلك الزهرة كانت ـ وهي لا تزال إلى جانب وجهها ـ قد أومأت إليها بالتحيّة ثم قالت بصوت خافت رقيق:
"بإمكاني أن أتحدث إليك، وسوف يسعدني جداً لو كان بإمكاني أن أسلّيك، فأنا ورفيقاتي نُشفق عليك كثيراً لأننا نحن أيضاً نشعر بالوحدة كما نشعر بالحنين لأناسنا الذين أبعدونا عنهم".
هتفت ماريون بكثير من الاستغراب والبهجة:"حقاً أيتها الصغيرة العزيزة!... كم أشعر بالبهجة وأنا أشاهدك تبتسمين وتتحدثين إليّ فأنا أحب الزهور كثيراً. كانت إحدى زميلاتي في المدرسة قد أرسلت إليّ هذه الباقة الجميلة من زهور البنفسج، فجعلني هذا أشعر بالكثير من السعادة".
قالت الزهرة:
"ليس لدي الكثير مما أرويه لك سوى أنني كنت قد ولدت في إحدى الحدائق وعشت فيها طوال حياتي مع العديد من شقيقاتي إلى أن تفتحنا، وكان قد تم حينئذ اقتطافنا وحملنا إلى أحد المتاجر، لكننا لم نكن قد مكثنا هناك سوى بضع ساعات، فقد تم جمعنا في تلك الباقة الصغيرة التي حملها ذلك الفتى البغيض ووضعها أمام باب منزلك... كنا في البداية قد أسفنا جداً لكننا بعد ذلك شعرنا بالكثير من السرور عندما تم وضعنا في هذه المزهرية الجميلة مع ماء مُنعش وفي هذه الغرفة الهادئة الدافئة ومع فتاة طيبة مثلك تنظر إلينا بكل محبة. لو رغبت في أن تسمعي قصة حياتنا نحن الزهور فسوف أروي لك قصتنا التي يعرفها الجميع منذ القدم والتي يُحبونها جداً".
هتفت ماريون بحماس:
"نعم نعم، أرجو أن تفعلي ذلك".
وكانت قد تمدّدت وإلى جانبها قطتها الصغيرة وبدأت تُصغي بكل اهتمام إلى تلك القصة:
الأميران وزهور البنفسج
قالت الزهرة الصغيرة:
كان هناك في سالف الأزمان ملك لديه ولدان يُدعى أحدهما أرجوان ويُدعى الثاني قطيفة، لأن الأميرين كانا يرتديان دوماً لباس الحداد الرسمي على والدتهما التي توفيت أثناء ولادتهما. أما والدهما الملك فلم يكن يرتدي اللون الأرجواني الذي هو لون الحداد الملكي الرسمي؛ وإنما كان بعد وفاة زوجته الملكة الجميلة التي أحبها كثيراً قد استسلم للحزن. كان ينام لوقت طويل كما كان قد اعتاد على الإفراط في الشراب لكي ينسى حزنه عليها. ولم يعد يهتم على الإطلاق بولديه الصغيرين اللذين تركهما تحت رعاية الأوصياء والمربيات.
كان الأميران مع مرور السنوات قد نشآ تحت رعاية الأوصياء، كانا جميلي الطلعة حَسني التصرف، وكانا لا يفترقان على الإطلاق لكنهما كانا يشعران أيضاً بكثير من الأسى والحزن لأن والدهما لم يكن يُحبهما، ولم يكن كل ما لقياه من محبة ومن اهتمام الآخرين قد عوضهما عن خسارة والدتهما وعن محبة والدهما.كان رعايا الملك يرغبون في أن يتزوج الملك من جديد لكي يعود البلاط إلى ما كان فيه من بهجة بحيث تُقام فيه الاحتفالات والحفلات الراقصة الرائعة، لكن ذلك الملك كان متقاعسا ولم يكن يُبالي بما حوله، كما لم يكن يرغب في تغيير الحياة التي اعتاد عليها.لكن حدث ذات يوم أن جاءت لمقابلته سيدة جميلة جداً، وهي أميرة أرملة لديها ابنتان صغيرتان تُدعى إحداهما زهرة الربيع وتُدعى الأخرى زهرة النرجس لأنهما كانتا ترتديان دوماً الملابس الصفراء اللون.
كانت تلك الأميرة الأرملة تتطلع إلى الزواج من الملك وإلى أن تحلّ محل الملكة المتوفاة؛ لذا كانت قد فعلت كل ما بوسعها لكي تجعل الملك يتزوجها.كانت تُمضي الوقت معه بلعب الشطرنج بينما كان الأطفال يلعبون معاً ويحاولون أن يصبحوا أصدقاء. لكن زهرة النرجس وزهرة الربيع كانتا مُتكبرتين وعنيدتين ولم تكونا تتقبلان أي نقد لتصرفاتهما، وهو ما جعل الأميرين يكتشفان ذلك بعد وقت قصير، لكن ما جعل الأميرين يصبحان أكثر تعاسة من أي وقت مضى هو عندما أدركا بعد ذلك أن والدهما قد قرّر أن يتزوج تلك الأميرة، وأن الفتاتين البغيضتين سوف تصبحان بمثابة شقيقتيهما...كان حفل الزفاف رائعاً.. قُرعت الأجراس وعَلت أصوات الأبواق وأقيمت الموائد الحافلة بالمأكولات، وبذلك كانت الفرصة قد أتيحت لكل من الفقراء والأغنياء للابتهاج...كانت الملكة الجديدة ترغب قبل كل شيء في إرضاء الرعايا وكسب محبتهم؛ لذا كانت تقوم بكل ما من شأنه أن يُرضيهم ويُسعدهم، وهو ما جعل الجميع يحبونها ويمتدحونها. أما الملك فكان قد ترك لها المجال لإدارة البلاد، وكانت الأميرة من ناحية أخرى قد تركته يعيش بهدوء على هواه مع كتبه. أما الفتاتان فكانتا قد أصبحتا أكثر تكبراً مما مضى...كان الجميع مع مرور الوقت قد اكتشفوا أن الشخص الذي سوف يمتلك السلطة هو تلك الملكة الجديدة، وكانوا بذلك قد حاولوا التقرّب منها وكذلك التقرّب من ابنتيها بغية إرضاء والدتهما الأميرة الشابة الجميلة.
كانت تلك الأميرة قد أثبتت للجميع في البداية أنها تُعير الكثير من الاهتمام لأمور المملكة، في الوقت الذي كان فيه الملك مُنشغلاً عن كل ما حوله، وبذلك كانت قد جلست على كرسي العرش بملابسها الذهبية، كما أجلست ابنتيها إلى جانبها، لكنها أمرت الأميرين البائسين بالجلوس على مَسند قدمي كرسي العرش؛ وهو ما جعل بعض الرعايا المخلصين للملك يشعرون بالكثير من الاستياء، لكنهم عندما أعلموا الملك بالأسلوب الذي تم التعامل به مع ولديه الأميرين كان كل ما قاله هو:
"لاداعي لإزعاجي بمثل هذه الأمور التافهة. فعلت الملكة ما رأته مناسباً وعلى ولديّ الامتثال لأوامرها كما لو أنها والدتهما".
وبذلك لم يعد هناك ما يمكن فعله، وأصبح مكان الأميرين على مسند القدمين، بينما جلست الفتاتان على المقاعد المرتفعة التي لا تعود إليهما.وكانت تلك هي بداية الأوقات المحزنة بالنسبة إلى الأميرين، ولم تكن والدتهما الجديدة قد اكتفت بذلك وإنما كانت قد رغبت في إبعادهما نهائياً عن طريقها لكي تحكم المملكة على هواها عندما يتوفى الملك. وبما أنها لم تكن تجرؤ على طردهما فقد اكتفت في البداية بأن أمرتهما بالعيش بهدوء مع أوصيائهما ومع الخدم في قسم مُنعزل من القصر. لم تكن تسمح لهما بالمشاركة في أي من المناسبات الرسمية التي تُقام في القصر ولا في الاحتفالات البهيجة التي كانت تستمتع بها بمفردها مع ابنتيها. وبما أن والدهما الملك لم يكن قد اعترض على ذلك فقد امتثل الولدان لأوامرها وأصبحا يُمضيان أوقاتهما في العمل في الحديقة مع الحدائقي العجوز آدم الذي كان قد علمّهما الكثير من الأمور الجميلة المفيدة والغريبة حول النباتات والأشجار والزهور، كما كان قد علّمهما الإنشاد والعزف على القيثارة.
كان الأميران يُمضيان ليالي الصيف في العزف على القيثارة وكان عزفهما أرق وأجمل حتى من تغريد الطيور والعنادل فوق شجيرات الورود، وأجمل من عزف أشهر المُنشدين في الحفلات الموسيقية التي كانت تقام في القصور، والتي كانت الملكة المُتعالية وابنتاها تستمتعن بأوقاتهن فيها.ومع مرور الوقت كان الأميران قد أصبحا شابين وسيمين، كانا قد تابعا دراستهما وأصبحا أكثر ثقافة وحكمة، وكان مدرساهما يحبانهما جداً، وهو ما جعل زوجة أبيهما الملكة تشعر بالقلق والخطر أكثر من أي وقت مضى و تقرّر التخلص منهما وإبعادهما نهائياً عن والدهما...وبذلك أرسلت الأميرة ذات ليلة من يقبض عليهما ويحتجزهما في غرفة مُنعزلة في برج قلعة القصر.
كان عليهما العيش في تلك الغرفة على قَدر قليل فقط من الماء والخبز، وكانت الملكة قد منعتهما أيضاً من مطالعة الكتب، كما منعتهما من الاختلاط بأي شخص؛ بحيث لم يعد أي شخص يعلم أي شيء عنهما ولا عن مكان وجودهما...أما الملك فكان في البداية قد أرسل من يبحث عنهما، لكنه بعد فترة من الزمن لم يعد يُزعج نفسه حتى بالتفكير في مصيرهما.
******
عاش الشقيقان لمدة عام بمفردهما في تلك الغرفة المُنعزلة في برج القلعة، لكنهما مع ذلك لم يشعرا بالكثير من التعاسة، ذلك لأن الشمس كانت تبتسم لهما، وكانت الطيور تبني أعشاشها وتغرد فوق شجرة اللبلاب التي تُغطي الجدران القاتمة للبرج، كما كانت الريح تغَني لهما وتُهدهدهما وتهمس لهما...أحب كل منهما الآخر وسَعِد كل منهما بالآخر، وبذلك حافظا على شجاعتهما إلى أن جاء اليوم الذي أمرت فيه الملكة أيضاً بمنع الماء والخبز عنهما...استمر ذلك الأمر لمدة ثلاثة أيام إلى أن أدرك الأميران أن الملكة الشريرة تنوي تجويعهما إلى درجة الموت.
وفي ذلك الوقت كان رعايا الملك قد فقدوا الأمل في عودة الأميرين، واعتقدوا أنهما قد فُقدا إلى الأبد، وبذلك نَسوا كل شيء عنهما وخضعوا لأوامر الملكة التي كانت تحكم المملكة أشبه بطاغية. كما كانت ابنتاها قد أصبحتا يوماً بعد يوم أكثر تكبراً وأنانية، أما الملك فكان ينام أكثر الوقت ولم يكن يهتم سوى براحته ومتعته. واستمر الأمر على هذا المنوال إلى أن قال أحد الأميرين لشقيقه ذات يوم إن عليهما ألا يدعا نفسيهما يموتان من الجوع لكي تشعر زوجة أبيهما الشريرة بالراحة، وإن عليهما أن يهربا لأن من الواضح تماماً أنه ليس هناك حولهما من بإمكانه مساعدتهما، لذا عليهما بالتالي مساعدة نفسيهما.كان شقيقه قد سأله:
"لكن كيف سيكون بإمكاننا أن نفعل ذلك؟ وكيف بإمكاننا أن نخرج من مثل هذا البرج المرتفع في القلعة دون حبال أو سُلم؟".
وكان شقيقه قد أجابه:
"سوف نصنع سُلماً بأنفسنا، كنت قد خططت لذلك سابقاً لكنني اعتقدت في البداية أن علينا أن ننتظر لبعض الوقت، لكنني أرى الآن أن من واجبنا أيضاً أن نهتم بأنفسنا وأن نحاول التوصل إلى مقابلة والدنا، هذا لو تمكنا من ذلك. دعنا نُحِك الحبال من قش فراشنا ومن الملاءات والأغطية وحتى من كل ما بإمكاننا الاستغناء عنه من ملابسنا. ربما لن تكفينا كل هذه الأشياء لصنع السُلم الذي نحتاجه للهرب من هذا البرج المرتفع وللوصول إلى الأرض؛ لكنه قد يكفينا للوصول إلى أغصان شجرة اللبلاب حيث بإمكاننا من هناك أن نتسلق أغصانها للوصول بأمان إلى الأسفل. سوف نخرج ليلاً ونبحث عن الحدائقي الطيب آدم الذي لابدّ أن يقدم لنا الطعام والمأوى، كما أنه سوف يساعدنا ويرشدنا إلى ما علينا أن نفعله".
وكان شقيقه الذي كان قد أصبح شاحباً ضعيف البنية لشدة الجوع والعطش قد أجابه:
"هذه خطة رائعة! فلنبدأ العمل منذ اللحظة ما دام لدينا بعض المقدرة البدنية وقبل أن نهلك من الجوع والعطش".
ثم بدأت الأصابع تعمل بجدّ ونشاط . كان الأميران البائسان يمضغان أوراق الشجر ويشربان ماء المطر لكي يبقيا على قيد الحياة؛ إلى أن تمكنا في نهاية الأمر من صنع الحبال التي سيمتطيانها للوصول إلى أسفل الطريق.كان أرجوان عندما حلّ الليل قد جعل شقيقه التوأم ينزل أولاً لأنه كان أصغر منه سناً بساعة وأقل وزناً، ولأنه كان يرغب في الاطمئنان على سلامته. تسلّق أرجوان الحبال بينما كان شقيقه مُمسكاً بقوة بتلك الحبال غير المتينة وهو يكتم أنفاسه إلى أن اختفى شقيقه عن نظره في العتمة، ثم سمع منه صفيراً أعلمه بموجبه بوصوله سالماً، حينئذ كان شقيقه قد تبعه. كانت العصافير قد قبعت بصمت في أعشاشها بين العرائش، ولم يكن قد كُسر أي من الأغصان تحت ضغط الأيادي والأقدام، ذلك لأن كلا من الطيور والنباتات كانت تحب الأميرين وترغب في حمايتهما...كان الأميران قد وجدا طريقهما إلى بيت آدم الكائن في الحديقة الواسعة؛ حيث تم استقبالهما بكل ترحيب وبهجة؛ ذلك لأن الرجل العجوز كان قد اعتقد بأنهما فارقا الحياة، لكنه عندما علم بما تعرضا له من مكائد زوجة أبيهما أعلمهما بأنه لن يكون بإمكانهما بكل أسف أن يجتمعا بوالدهما على الإطلاق، وبأن حياتهما سوف تتعرض للخطر لو حاولا ذلك؛ لأن تلك الملكة قد أصبحت أكثر قسوة وأكثر سيطرة ووحشية، وبأنها لن تتركهما على قيد الحياة لو تمكنت من ذلك.
ثم قال:"من الأفضل لكما يا سيديّ الصغيرين العزيزين أن تبتعدا عن هذا المكان إلى أن تصبحا أكبر سناً؛ حيث سيكون بإمكانكما حينئذ العودة لاستلام العرش الذي هو من حقكما".
سأله الأميران بعد أن تناولا وجبة عشاء جيدة وبعد أن أخذا قسطاً من الراحة:
"لكن كيف سيكون بإمكاننا أن نفعل ذلك ونحن لانمتلك المال، كما أن ليس لدينا أي معارف وأصدقاء لكي نستمد منهم العون؟"
أجاب الحدائقي آدم:
"ها هي قيثارة لكل منكما. ألم أكن قد علمّتكما كيفية العناية بالحدائق وكيفية العزف على القيثارة؟ بإمكانكما الآن كسب العيش بواسطتها. سوف أمنحكما أيضاً بعض البذور السحرية التي تركها لي والدي. كان والدي قد قال لي إن هذه البذور لن تنمو ما لم تكن من ستزرعها أيد ملكية، وإنها عندما ستتفتح سوف تجلب الحظ لمن يمتلكها. كل ما عليكما عندما تُصبحان في أمان خارج المملكة أن تنثرا هذه البذور في منطقة غير مأهولة، وسوف تُدركان حينئذ أن ما قلته صحيح. من المؤسف ألا يكون لدي أي شيء آخر أمنحه لكما. ليحرسكما ويحفظكما الله تعالى وليعدكما سالمين من جديد إلى مملكتكما لكي تتوليا الحكم فيها بكل سعادة". كان الأميران قد شكرا ذلك الحدائقي الطيب ثم انسلا بحذر من المملكة مع الفجر وهما لا يحملان معهما سوى قيثارتيهما وسلّة من الطعام. لكن شعور الحرية والهواء النقيّ كان قد جعلاهما يستعيدان من جديد مقدرتهما وشجاعتهما.
*******
وكان الأميران عندما أصبحا بأمان على مسافة بعيدة من مملكة والدهما قد بدآ بالعزف على القيثارة لكسب عيشهما وبالتنقل من قرية لأخرى. كان الأثرياء الذين يستمتعون بالإصغاء إلى الموسيقى الرقيقة يرمون النقود الذهبية والفضية لذينك الشاعرين المُتجولين بوجهيهما الجميلين البريئين وبأسلوب تصرفهما اللطيف. أما الفقراء الذين لم يكن لديهم المال فكانوا يمنحونهما لقاء ذلك القوت والإقامة. واستمر ذلك الوضع طوال فصل الشتاء فلم تكن الثلوج قد سقطت في تلك المنطقة خلال ذلك الفصل، وكان الأميران قد أصبحا شيئاً فشيئاً أكثر نضجاً وشجاعة؛ فقد كان بإمكانهما أن يتجولا عبر الهضبة والوديان دون أن يكونا مُحاطين بالأعداء ودون أن يَخشيا الرياح والأمطار. أحبا حياة الحرية على الرغم من قسوتها، وحصلا في كل مكان على الكثير من الأصدقاء، لكنهما لم يكونا قد نسيا يوماً أنهما أميران بالمولد وبالنسب على الرغم من أن ملابسهما كانت رثّة بالية، وعلى الرغم من أنها لم تكن من القطيفة الأرجوانية...لم يكن في طباع الأميرين ما هو قاس أو غير مُنصف، كما لم يكن هناك ما يمكن أن يُعكر نقاء قلبيهما الطاهرين وضميريهما الحيّين، وهو ما جعلهما يصبحان مع مرور الزمن ملكين وثريين جداً، وكان ذلك أيضاً بفضل وبمساعدة من قدموا لهما المساعدة والعزاء...كان الأميران خلال تلك المدة قد ابتعدا كثيراً عن قصر والدهما، لذا شعرا بأن الوقت قد حان لمحاولة زراعة تلك الزهور السحرية. نثرا تلك البذور في أرض بور منعزلة، لكن تربتها كانت غنية ورطبة بفضل جدول كان إلى جانبها. توليا العناية بها جيداً، كما كانا بانتظار تفتحها قد بنيا كوخاً من الأغصان الخضراء عاشا فيه على ثمار الكرز البري وعلى الأرانب التي كانا يُوقِعانها في الأشراك التي يصنعانها، وعلى الأسماك التي كانا يصطادانها، وعلى الخبز الأسود الذي كانا يشتريانه من امرأة عجوز كانت تأتي للبحث عن الأعشاب الطبية. كان أحدهما يعزف على قيثارته بينما كان الآخر يُكرّس وقته للعناية بالنباتات التي كانت قد نمت بسرعة. كانا يتساءلان دوماً عما ستكون عليه تلك الزهور السحرية، لكنهما كانا أيضاً في كثير من الأحيان يخشيان ألا تتفتح تلك البذور على الإطلاق؛ لأنه كان قد مرّ وقت طويل دون أن تكون براعمها قد نمت وظهرت.
كان أرجوان قد قال لشقيقه ذات يوم وهو يروي النباتات:
"إن لم تتفتح تلك الزهور فسوف نُدرك بأننا لسنا أهلاً لأن نكون من الحدائقيين الجيدين على الرغم من أننا من سُلالة ملكية".
وكان شقيقه قد أجابه:
"إن لم نفلح في ذلك فسوف نستمر بالإنشاد وبالتجول حول العالم إلى أن نصبح أقوياء وإلى أن يصبح بإمكاننا الكفاح لاستعادة مملكة والدنا".
وقال أرجوان:
"تريد جارتنا العجوز التي تبيع الأعشاب معرفة ما سوف يتفتح في هذه القطعة من الأرض، لأنها على ما يبدو تولي الكثير من الاهتمام بهذا الأمر، وقد أعلمتها بأننا لا نعلم حتى الآن ما هي تلك النباتات، وبأننا في انتظار تفتحها حيث سيكون بإمكانها أن تأتي لمشاهدتها، فهي سيدة حكيمة جداً، فربما كانت تلك النباتات عشبة طبّية جديدة قد يكون بالإمكان استخدامها لشفاء المرضى. سوف يكون ذلك جيّداً حتى لو لم نحصل لقاء ذلك على الكثير من المال".
وكان شقيقه قد أجابه:
"سوف يكون هذا الأمر جيّداً بالفعل! وأنا أفضّل أن أجعل الناس سعداء على أن أصبح ملكاً، وأعتقد أنك أنت أيضاً تُفضّل ذلك".
وبينما كان الشقيقان يتبادلان الحديث كانت رائحة ذكيّة قد انتشرت في الجو حولهما، ثم سُمع صوت حفيف لطيف للأوراق كما لو أن ريحاً هبت من الجنوب. كان كل شيء حولهما هادئاً وكانت الطيور تُغرّد فوق رأسيهما كما لو أنها تزفّ أنباء جيّدة إلى العالم اللازواردي الذي يُحيط بهما فوق الغيوم.كانت تلك البذور قد تفتحت بالكامل في صباح اليوم التالي وأصبحت أشبه ببساط بلون ذهبي وأرجواني يليق بالملوك. كانت تلك الزهور الجميلة هي زهور البنفسج لكنها كانت أجمل من كل ما رأته عين سابقاً.كانت كبيرة الحجم وكانت جميعها مُتشابهة تبدو أشبه بوجوه صغيرة نصف مبتهجة ونصف حزينة، وكانت الأوراق التي تُحيط بها ناعمة جداً. كانت تتمايل مع النسمات وكأن كلا منها تهمس للأخرى بأمر هام، وهو ما جعل الأميرين يتلهفان لمعرفة القصّة الجميلة التي تتهامس بها فيما بينها.سأل الشقيق الأكبر شقيقه وهو ينظر إلى تلك الأشياء الجميلة بجدّية:
"ما الذي بإمكاننا أن نفعله بهذه الزهور الجميلة؟ وكيف سوف تجلب لنا الحظ السعيد كما قال الحدائقي آدم؟".
أجابه شقيقه وكان قد بدأ يجمع تلك الزهور:
"سوف نستمتع بها في البداية ثم سنجمعها لكي نبيعها في باقات صغيرة جميلة كي نحصل على المال، وأعتقد أن كل من سيشتريها سوف يشعر بالبهجة".
قال له شقيقه وكان قد ركع على ركبتيه وبدأ يقتطف تلك الزهور الجميلة:
"هذا ما سوف نفعله، سوف نستمر في ببيعها إلى أن نصبح أثرياء، قد يكون هذا عملاً بطيئاً لكننا كنا قد تعلّمنا خلال فترة احتجازنا في برج القلعة كيف أن علينا التحلّي بالصبر . سوف نصبر إلى أن نرى إلى أين سيقودنا حظنا".وإذا بصوت أجش يصل إليهما من الخلف .كان ذلك صوت السيدة العجوز التي تبيع الأعشاب الطبية. كانت تحمل في مئزرها بعض الطحالب والأوراق والفسائل ذات الرائحة الذكية قالت:"ما هذه الزهور الرائعة التي لديكما هنا؟ لابد أنكما من أفضل الحدائقيين في هذا المكان". أجاب الأمير أرجوان وهو ينظر إليها ويبتسم بلطف:
" إنها زهور البنفسج".
ثم قدم إليها بكل كياسة باقة من تلك الزهور كما لو أنه كان يتعامل مع ملكة وليس مع سيدة عجوز، وقال:
"أترين كم هي جميلة! سوف نمنحك أول قطفة منها لأنك كنت دوماً طيبة تجاهنا".
قالت السيدة العجوز وهي تُقلّب زهور البنفسج بين يديها:
"أنا أعلم الكثير من الأمور الهامة والغريبة عن النباتات. أنتما من الأشخاص الطيبين جداً، وسوف أكون أكثر طيبة منكما بأن أروي لكما الحكاية التي تعبّر عنها هذه الزهور الجميلة. هي قصة حزينة لكنها قصة حقيقية، لأن الزهور لا يُمكن أن تكذب".
اقترب الأميران وأخذا يرقبان العجوز بفضول. كانت وهي تتحدث تُشير بأصابعها المُرتعشة إلى الأقسام المختلفة من تلك الزهور الرائعة، كما كانت من حين لآخر تنظر إلى وجهيهما. قالت:
"هناك في كل زهرة من هذه الزهور خمس أوراق. ها هي الورقة الذهبية تجلس بمفردها في الأعلى بينما تجلس كل من الورقتين الأصغر حجماً في الطرف الآخر، لكن الورقتين الأرجوانيتين الجميلتين ليس لديهما مكان بينهن على الرغم من أنهما الأجمل بين الجميع. انظروا الآن إلى الوسط، أترون تلك الصورة الصغيرة التي تشبه شكل رجل بملابس خضراء اللون ورداء أحمر؟ إنه يختفي في مكان دافئ آمن ويحمل بيده كيساً من البذور التي سوف تنضج عما قريب لو جعل الشمس تصل إليها.
ثم سألتهما العجوز وهي تنظر إليهما بإمعان بينما كانت الحُمرة قد علت وجهيهما:
"هل فهمتما مغزى هذه القصة المحزنة يا أبنائي؟".
كان الأميران قد ابتسما وتنهدا دون أن يتمكنا من الكلام؛ لأنهما أدركا أن القصة المحزنة التي روتها العجوز عن تلك الزهرة السحرية كانت قصة حياتهما المحزنة...
وكانت العجوز الحكيمة قد هزّت رأسها بعد ذلك ووضعت باقة الزهور على صدرها وقالت:
"على الرغم من أن العالم بكامله يسعى إلى الراحة النفسية ويرغب فيها؛ لكن ليس من السهل أن يحصل عليها كل شخص دون أن يدفع ثمن ذلك... عليكما الآن بيع زهور البنفسج وجمع المال. سوف أكون في السوق عندما ستأتيان إلى هناك، وسوف أوصي بكما على الرغم من أنكما لا تحتاجان إلى ذلك بهذين الوجهين الطيبين البريئين وبهذا الأسلوب اللطيف في التعامل".
ثم غادرت السيدة العجوز بينما سارع الأميران إلى اقتطاف جميع تلك الزهور المتفتحة ذات الرائحة الذكية، ووضع كل مجموعة منها في باقات، ثم قاما بوضع تلك الباقات في سلال صنعاها بنفسيهما. كان شكلها جميلاً، كانت أشبه بوجوه صغيرة مُبتسمة، وكان الندى يلمع على أوراقها أشبه بجواهر على ثياب أميرة، كما أن رائحتها كانت كأنها تقول لمن ينظر إليها:
"تعالوا إلي ... تعالوا اشتروني..".
كان الأميران لدى وصولهما إلى سوق المدينة قد وقفا جانباً وبدآ بعرض بضاعتهما أسوة بالآخرين الذين كانوا يبيعون الخضر والفاكهة، ولكن على الرغم من ملابسهما الرثّة فإن ما كان في وجهيهما من نبل وما في صوتيهما من صفاء وما كان في تلك الزهور من جمال؛ كان كل من سمعهما يصيحان:
" زهور طمأنينة النفس... زهور طمأنينة النفس..."،
وكل من مرّ بهما قد أعجب بتلك الزهور الرائعة التي لم يكن أحد قد شاهد مثلها من قبل في تلك البلدة، وكانت السلال قد بيعت بسرعة، وبذلك امتلأت جيوبهما بالقطع النقدية الفضية والذهبية لأن الفقراء والأغنياء على حد سواء اشتروا تلك الزهور. و عاد الأميران إلى كوخهما يملأ قلبيهما السرور.
كان الأميران بعد ذلك قد باعا تلك الزهور الجميلة السحرية طوال فترة الصيف وإلى أن حلّ فصل الشتاء، وكان كل من اشترى تلك الزهور قد اكتشف أنها بالفعل تجلب العزاء وتُبعد الأفكار السيئة، فتلهف الجميع على الحصول على المزيد منها، كما طلب الأطباء مقابلتهما واشتروا منهما تلك الزهور بغية استخدامها في العقاقير العلاجية. أما الأشخاص الذين كانوا يعانون من البؤس ومن اليأس فكانوا قد طلبوا الحصول عليها لكي تجلب لهم السعادة، حتى إن الأشخاص السيئين كانوا قد أحبوا تلك الزهور لأنها تبدو رائعة الجمال ولأنها كانت قد أيقظت في نفوسهم الشريرة المشاعر الطيبة.
انتشرت شهرة تلك الزهور في جميع أرجاء البلدة، وكان الملوك والملكات قد طلبوا الحصول عليها فهم كانوا أكثر من أي شخص بحاجة إلى الراحة النفسية.
كانت شهرة تلك الزهور قد وصلت حتى إلى ذلك الملك غير المُبالي، الذي كان لا يزال يعيش في شبه غيبوبة، كل ما يفعله هو أن يقرأ وينام ويشرب الخمر، لكن مشاهدته لتلك الزهور الرائعة الجمال كانت قد أيقظت في نفسه ذكرى زوجته الجميلة التي توفيت، والتي كان اسمها زهرة الثالوث، وهو ما جعله يتذكر ولديه ويحدث نفسه:
"علي الآن أن أبحث عنهما؟ لكن أين يمكن أن يكونا؟؟
وكان قد بدأ يبحث عنهما من جديد..
كما بدأت الملكة أيضاً تسأل عن تلك النبتة السحرية لأنها كانت في ذلك الوقت قد بدأت تقلق من المشكلات ومن الفوضى التي بدأت تنتشر في المملكة. لم يكن رعاياها يحبونها وكانوا قد تعبوا من كثرة الضرائب التي فرضتها عليهم لكي تعيش حياة البذخ والرفاهية. كانت الطبقة الفقيرة قد بدأت تثور لأن الملكة لم تكن تُوليها أي اهتمام، ولأنها تركت الفقراء يُعانون ويتضوّرون جوعاً في الوقت الذي كانت تعيش فيه في بذخ ورفاهية. أما الأغنياء والنبلاء الذين كانوا يرغبون في الحفاظ على ثرواتهم فكانوا قد انتفضوا وبدؤوا يتحدثون فيما بينهم عن أن الملكة كانت قد أبعدت الأميرين اللذين لهما الحق في إدارة البلاد، واللذين كان بإمكانهما إدارة المملكة بشكل أفضل.
وكانت الأميرتان عندما سمعتا بتلك الزهور السحرية الجميلة قد طلبتا الحصول عليها بأي ثمن. وضعتاها في إناء جميل ومنعتا أي شخص من الحصول عليها وقالتا:
"لتلك الزهور ألواننا ذاتها؛ لذا يجب أن تكون شعار مملكتنا، ولن يحق لأي شخص أن يحصل عليها تحت طائلة عقوبة الموت".
وجعلتا الجميع يرتدون ثياباً جديدة رائعة من القطيفة ذات اللون الأرجواني والذهبي تُزينها زهور البنفسج، كما أمرتا بتزيين العربات والأثاث والرايات بها وهما في غاية الفخر...
ولكن بعد وقت قصير كانت الملكة وابنتاها قد وجدن أن اسم تلك الزهور ذلك لابدّ أن يعني شيئاً أكثر من جمال تلك الزهور لأن كلمة "بانسيه" باللغة الفرنسية تعني "تذكر"؛ وبذلك عادت إلى أذهانهن الطائشة غير المُبالية ذكريات كل ما تسببن به من أذى للأميرين، كما لو أن عطر زهور البنفسج كان يلومهن ويذكّرهن بالوجهين البريئين للصبيين المَنفيين اللذين كانت مكانتهما قد اغتصبت دون حق، واللذين تعرضا للظلم، وقد شعرن بعدم الارتياح كما لو أن لرائحة تلك الزهرة تأثيرها في المنزل كما في خارجه، وهو ما جعل الأمور تصبح شيئاً فشيئاً جاهزة لعودة الأميرين المُشردين.
كان الأميران في ذلك الوقت يتجولان حول العالم وقد أصبحا شيئاً فشيئاً أكثر حكمة وأكثر طيبة وشجاعة ووسامة. كانا طوال فصل الشتاء يُنشدان ويعزفان على القيثارة؛ بحيث لم يكن يُقام أي احتفال بعيد ميلاد أو بحفل زفاف إلا أن يكونا من يُحييانه بالعزف على قيثارتهما.
كانا يحصلان على الكثير من المال لقاء العزف في الحفلات التي يقيمها اللوردات وأصحاب الطبقة الراقية؛لكن ما كانا يجدان فيه أكبر متعة كان الإنشاد في مستشفيات السجون أو في المناطق الفقيرة. لم يكونا يطلبان المال لقاء ذلك وحتى أنهما لم يكونا ينتظران أن يتم شكرهما على المتعة التي يجلبانها لأولئك الفقراء والبؤساء وللمرضى والمعاقين... أما في فصل الصيف فكان الأميران يُمضيان الوقت في زراعة تلك الزهور السحرية الجميلة لكي يبيعانها.
وبذلك كانت حياة الأميرين قد مرّت بانشغال ـ وبسعادة ـ بتلك الموسيقى وبزراعة تلك الزهور التي كانت تنشر السعادة في كل مكان حولهما بحيث تمت تسميتهما بالولدين الموهوبين، وبحيث أصبح كل من في شرق وغرب وشمال وجنوب المملكة يرحب بوجودهما ويكنّ لهما كل محبة...
وكانت قد مرّت فصول صيف وفصول شتاء عديدة قبل أن يعود الأميران من جولاتهما حول العالم إلى مملكة والدهما، وقد أصبحا شابين حكيمين على استعداد كامل لإدارة مملكة والدهما، وعلى يقين من أنه سوف يتم استقبالهما بكل سرور حتى من قبل خصومهما...
لم يعد يشعر أي منهما بالمرارة والغضب حتى تجاه من كانوا قد تسببوا لهما في الأذى؛ لأن مرور الوقت كان قد علّمهما الغفران والنسيان، ولأن حياتهما الآمنة السعيدة كانت قد جعلتهما ينفران من فكرة الشجار والانتقام.
أحبا الحرية بحيث لم يكونا يرغبان في إجبار الآخرين على إطاعتهما. وكان أرجوان قد قال لشقيقه ذات يوم وهو ينظر إلى المملكة من أعلى الهضبة:
"نحن نحكم مملكة أوسع وأجمل من تلك المملكة، كما أن رعايانا يحبوننا جداً فلسنا مقيدين بالعرش، ونحن أحرار مثل الهواء؛ لذا علينا أن نرضى بهذا وألا نتطلع إلى ما هو أكثر".
قال شقيقه:
"وأنا أيضاً لا أتطلع إلى أن أكون مُحتجزاً في قصر ولا أن أكون مُجبراً على العيش وفق نظام وقواعد تحكم جميع تصرفاتي، لكن لو كان ما بلغنا صحيحاً فإن هناك الكثير من الأمور التي علينا معالجتها لأجل الفقراء هناك. أصبح لدينا الآن الكثير من المُدخرات بحيث بإمكاننا أن نبدأ بمساعدة من هم يعانون أكثر من غيرهم. لا حاجة لأن يتعرّف علينا أحد، وبإمكاننا أن نعمل بانتظار أن يتذكرنا والدنا وأن يقوم بالبحث عنا.
وبذلك كانا قد ارتديا ملابس تنكرية أشبه بملابس الرهبان والأشخاص الذين يعملون مع جمعيات الإحسان، ثم انطلقا إلى المدينة للبحث عن مكان للإقامة.
كان آدم العجوز لا يزال حياً لكنه كان قد ترك القصر لأن الملكة كانت قد طردته عندما هرب الأميران من برج القلعة، كما كان الملك قد نسيه. لكن الأميرين كانا قد عثرا عليه وأقاما معه في كوخه، وهو ما جعله يعيش براحة وبسعادة وفخر. كانا يذهبان يومياً لمساعدة الفقراء بالعديد من الأساليب وبكل ما حصلا عليه من مال، ولم يكن ما حصلا عليه من مال ينفد مهما أنفقا منه لمساعدة الفقراء والمُعوزين.
كانت البذور السحرية لزهور طمأنينة النفس تنمو في أي مكان يقصدانه. أصبحت وجوه الجميع في جميع أنحاء المملكة تشعّ بالسعادة، وكانت أصص تلك الزهور تُزين جميع النوافذ، كما كانت نفوس الكثيرين من المرضى والحزانى قد لقيت العزاء والسعادة بما كانا يقدمانه لهم.
ولم يكن قد مرّ وقت طويل إلا وكانت أخبار الشابين الرائعين قد وصلت إلى القصر حيث كان الملك العجوز يعيش في خوف؛ لأن الرعايا كانوا يكرهون الملكة؛ وبذلك كان قد بدأ يخشى من أن يثوروا عليه في أي وقت...
وذات يوم كانت الملكة قد أرسلت بطلب الشابين، وكانا قد لبيا الدعوة على الفور على أمل الاجتماع بوالدهما، ولم يكن والدهما ولم يكن أي شخص آخر قد تعرّف عليهما بقوامهما الممشوق المُختفّي تحت تلك العباءات البالية التي كانا يرتديانها، وكان العزاء كان قد حلّ بوجودهما في القصر..
كان الملك المريض عندما قدما إليه العون قد بدأ يصبح أكثر قوة، وكانت الملكة قد اعترفت لهما بما ارتكبته من أخطاء ومن ذنوب ورجتهما إعلامها بما عليها أن تفعله للتكفير عن ذلك.
وكان أحد الأميرين قد أجابها حينئذ بجرأة:
"عليك التوبة وإصلاح ما ارتكبته من أخطاء".
أجابت الملكة وهي تتنهد:
"لكن الأميرين قد فُقدا أو ربما كانا بكل أسف قد توفيا، كأن جميع الرعايا في المملكة يشعرون بالكراهية الآن تجاهي".
وكان شقيقه قد قال بلطف:
"لكن ربما كان الله تعالى قد عوّض الأميرين يتيمي الأم برعاية أفضل من رعايتك لهما... لابدّ أنهما سوف يعودان عندما سيحين الوقت".
ثم أضاف "أعلميني سيدتي! هل بدأت الآن تشعرين بالشفقة على رعاياك؟ وهل أنت الآن على استعداد لتقديم العون إليهم؟ وهل ستجعلينهم يحبونك ويحترمونك ويثقون بك؟... لو فعلت ذلك فسوف تلقَين السعادة وسوف تكونين في أمان في مملكتك المجيدة".
قالت الملكة وقد بدأت دموع الندم تسيل على خديها:
"نعم، سوف أفعل ذلك...سوف أفعل ذلك...".
وكانت قد عملت بنصيحة الأميرين الشقيقين. كان الأمير أرجوان في ذلك الوقت قد تولّى مساعدة والده، أما شقيقه فكان يُساعد زوجة أبيه على استعادة ثقة الشعب بها؛ وذلك بتوزيع الخبز والمال بسخاء على الأسر الفقيرة، وببناء المنازل، وبسنّ القوانين الأكثر عدالة وحكمة، وبإدارة المملكة بعدالة ورحمة؛ إلى أن حلّ السلام فيها من جديد؛ وبذلك لم يعد هناك أي خطر للتمرد أو للثورة على الملك والملكة.
كانت الفتاتان قد اعترضتا في البداية على تلك التغييرات وشعرتا بالغضب والغيرة من القادمين الجديدين لأنهما كانا يُروّجان ويدعوان إلى إنكار الذات وإلى التواضع والبساطة، لكن الشقيقين المتنكرين بزي الرهبان كانا مع الوقت قد جعلاهما بأسلوبهما الرقيق تُصبحان أكثر تواضعاً وتشعران بمدى ما ارتكبتا من إساءات للأميرين، وبما كانتا فيه في الأيام السالفة من أنانية وطيش؛ وبذلك تعلّمتا التخلي عن الملابس الفاخرة وعن العادات المُترفة وبدأتا تستمتعان بقراءة الكتب وبمخالطة الصديقات اللاتي يتميزن بالحكمة، وبادرتا إلى الإحسان للآخرين وبالقيام بجميع الأمور البسيطة وبأداء الواجبات وبكل ما يجعل الحياة سعيدة آمنة هنيئة بالنسبة لكل من الفقراء والملوك.
وفي الوقت الذي استمر فيه ذلك العمل الجيّد على ذلك المنوال كان الوالد العجوز قد بدأ يعود لإدراكه، وبدأ يتساءل لِم كان قد أضاع سنوات حياته في اللهو فبدأ يفقد سلطته الملكية؟ كما كان قد بدأ يشعر بالشوق لولديه، لكن الأمر كان قد تأخر جداً لكي يتولى الحكم من جديد؛ فلم تعد لديه المقدرة الكافية؛ لذا كانت الملكة بعد أن غفر لها الشعب قد تولت الحكم بمفردها من جديد... ولكن ربما كان بإمكان تلك الملكة أن تشعر بالسعادة لو لم تكن ذكرى الأميرين الضائعين تُلاحقها إلى أن أضناها الندم والحزن، وجعلها تُقرر الاعتكاف في الدير لكي تعاقب نفسها على ما ارتكبته من آثام وأخطاء.
لكن السؤال الذي كان قد طرح نفسه حينذاك كان:
"من الذي سيتولى الحكم بدلاً عنها وقد توفي الأميران الوريثان أو ربما كانا قد فقدا؟".
وبذلك قال أرجوان ذات يوم لشقيقه:
"أعتقد أن الوقت قد حان الآن لدخولنا المملكة بصفتنا الملكية، لقد أصبحت المملكة بحاجة إلينا ويجب أن نفعل ذلك قبل أن يغتصب أحدهم الحكم".
وأجابه شقيقه:
"أنا على أهبة الاستعداد يا أخي فقد أصبحنا الآن أهلاً بالفعل لإدارة المملكة كالأمراء؛ لأننا تعلمنا الكثير بعد أن صبرنا على العيش كمُتكففين وبعد أن انتظرنا لمدة طويلة...
كانت قوانين المملكة تتطلب أن يتم عقد اجتماع للحكماء ولكبار اللوردات لاتخاذ القرار حول تنصيب الملك الجديد ما دامت الملكة قد قررت التخلي عن الحكم لأنها تعبت من حياة الترف والرفاهية؛ لذا كان قد تم انعقاد ذلك الاجتماع الذي شارك فيه الجميع: اللوردات ورجال الحاشية وكبار الوزراء والفرسان...
كما كان الجميع قد رحبوا بأن يشارك الأميران الأخوان المُتنكران بزّي الرهبان في ذلك الاجتماع.
وكانت الملكة قد قالت حينئذ وهي تُغادر كرسي العرش الذهبي:
"دعونا نترك اتخاذ القرار حول تولي الحكم لصديقينا الطيبين اللذين قدما لنا الكثير من المساعدة، واللذين علّمانا الكثير مما كانت تحتاجه هذه المملكة. أيها الشابان!... تعالا... تقدما ... اقتربا وأعلمانا من الذي عليه أن يستلم الحكم ومن الذي تريانه أهلاً للجلوس على هذا العرش لأنني لا أستحقه؟".
كان الأميران المتنكران بزي الرهبان قد تقدما دون أن ينبسا ببنت شفة. صعدا إلى العرش ووقفا إلى جانب مكانهما الشرعي ثم خلعا ملابسهما التنكرية وبذلك ظهرت ملابسهما المصنوعة من القطيفة الأرجوانية، وظهر الرأسان الأشقران الجميلان والوجهان الملكيان اللذان كانا قد أصبحا أكبر سناً، واللذان كانا لا يزالان مع ذلك يحتفظان بما كانت عليه من جمال ومن براءة ووسامة، وظهر الأميران اللذان كانا قد وصلا أخيراً.
وقف الجميع وساد صمت مُطبق. كان الجميع قد أجفلوا وصُعقوا وأصيبوا بالدهشة فعجزوا عن الكلام وحتى عن الحركة لبعض الوقت. ثم قال أرجوان وهو يبتسم وبإيماءة أسرّت قلوب الجميع:
"إن كنتم في حاجة إلينا فنحن الآن على استعداد لتولي مكاننا الشرعي... سوف يسعدنا أن ننسى الماضي وأن نغفر لجميع من ظلمنا، وسوف نحاول أن نجعل مستقبل هذه المملكة أكثر سعادة للجميع... كنا قد تشردنا وتعرضنا للسجن وللتكفف، وعملنا عمل الحدائقيين والشعراء المُتجولين والرهبان؛ لكننا عدنا الآن من جديد الأميرين. نحن الآن مؤهلان لتولي الحكم لأننا كنا في الوقت الذي كنا فيه فقيرين وبائسين قد تعلمنا قيمة الصبر والشجاعة والعدالة والإنصاف...".
ثم اختتم حديثه بأن رفع ذراعه وألقى عليهم التحية الملكية.
أما الملكة فكانت قد ركعت على الأرض وأخذت تطلب منهما الغفران وهي تستعيد في ذهنها ذكرى الأمور القاسية التي قالتها والتي فعلتها. وبذلك لم يعد هناك أدنى شك في أنه سيتم الترحيب بعودة الأميرين إلى منزلهما.
انتشرت تلك الأنباء السارة في أرجاء المدينة. قُرعت الأجراس وأطلقت العيارات النارية ورقص الجميع وأنشدوا الأناشيد البهيجة على شرف الأميرين، كما كان الملك العجوز قد استفاق من غفلته وغادر سريره وهو يشعر بالكثير من السرور وكأنه قد شُفي من الأمراض التي أصابته ما عدا أمراض كِبر السن، كما كانت الابتسامة قد عادت من جديد إلى الملكة لأنها شعرت بأنها لقيت منهما الغفران.
كان الأميران قد أغرما بعد ذلك بالأميرتين، وبذلك كانت المملكة قد احتفلت بعد وقت قصير بالزواج الملكي بينهم. أما تلك المملكة فكانت قد أصبحت بعد وقت قصير أشبه بحديقة كبيرة من زهور البنفسج...كان الملك قد تخلى على الفور عن العرش لولديه، أما الملكة التي تعبت من تولي الحكم فقد كرّست نفسها لزوجها، وبذلك عاش الجميع في سعادة، كما تم إطلاق اسم مملكة البنفسج على تلك المملكة اعترافاً بفضل تلك الزهرة التي جلبت الحظ والسعادة والطمأنينة للجميع.
************
قالت ماريون وهي تبتسم:
"هذه بالفعل قصة مُمتعة جداً وسوف أتذكرها دوماً".
وكانت الزهرة بعد أن أنهت روايتها لتلك القصة الطويلة قد عادت إلى إنائها لكي تشعر بالانتعاش، وقالت بصوتها الرقيق:
"عليك أن تتعلّمي من هذه القصة أن تسيطري دوماً على نفسك، وأن تجعلي من نفسك مملكة صغيرة، وعليك أن تتذكري أبضاً مغزى هذه القصة وهو التالي:
على المرء لكي يشعر بالسعادة ولكي يعيش بسلام أن يستفيد من أي أمور تُتاح إليه حتى لو كانت من الأمور المتواضعة، وأن يدرك أن بإمكانه دوماً أن يتعلم منها أفضل الدروس في الحياة.
التدقيق اللغوي: أبو هاشم حميد نجاحي