ووجهي على جانبيَّ الطريق المزدحم بالأصوات العالية ، اشتقت إلي السكون فبدا لي من خلف واجهة زجاجية فاندفعت تجاهها ، قبضت على المقبض الحديدي البارد فاستشعرت الرطوبة وهى تتسلل إلي روحي ، تخطت قدماي الباب ، جلست على مقعد وراء الزجاج مباشرة ، تركت التعب يتدلى من أطرافي ، ينـز في قطرات العرق التي تنسحب بهدوء إلي أسفل ، تطلعت حولي . المكان خالٍ من الرواد ، تشغله موسيقى فلكلورية ، تنساب في نغم هادئ متكرر الدقات ، ويتصاعد في نهاية الجمل الراقصة ، يتسلق الجدران وينساب في أذنيَّ . تأججت الأوتار ، صَعَدت لحنها في الفراغ ، فاصطدم بالمقاعد الصغيرة المجردة من الزخارف والمساند ، وأصوات المغنين تنخفض كلما أبطأ العازف بالآلة الوترية . أطلقت بؤرتيَّ لتحسس ما يحيط بي فتلاقتا مع ضوء أبيض يفترش ثلاث ترابيزات ، متراصة بشكل متواز ، في علاقة تبادلية مع المقاعد ، ومقعد وحيد يجلس عليه رجل منكس الرأس ، تغوص رقبته بين منكبيه .
تسمر رأسي وأطلق ذبذبات طولية انهمرت على الرجل ، والتفت بمعطفه المنتفخ الصدر ، شدتني حدقتاي إلي التواء كمي معطفه ، وانسدالهما على جانبيه ، وعيناه على ركبتيه المهتزتين مع الموسيقى .
رنات حذاءه تطرق الأرض ، تطليها بأكوام من العملات الفضية ، التي تختفي وهى تترنن ، تدور في صوان الأذن . برزت عيناه من تحت حاجبيه المتهدلين ، رشقنى في ذراعيَّ طويلاً ، مَلَّ من رصدي الدقيق له . ونظراته مبعثرة على جانبيه انتفض خارجـًا ، تركني أبتلع هواء أكمامه الفارغة وهى تتأرجح خلفه .
*****
تطلعت لصوت خفيف يركل الباب الداخلي ويترك بندوله خلفه ، وابتسامة على وجهه المنحنى تنتشلني من وجومي ، ويدي اليمنى تتحسس عنقي المتضخم بالهواء الرطب ، تحبس نَفَسـًا عميقـًا في رئتي ، وتخرجه في نفخة مباغتة ، تحرك تضاريس وجهي وتسحب منى ابتسامة .
- أمرك . ماذا تطلب ؟
- شاي من فضلك .
إيماءته وهو ينصرف عن مجال الرؤية تركت فراغـًا أمامي ، فالتصقت ضحكتي بالحائط المواجه لمقعدي ، تاهت عبر إطار يتكسر في مربع مشتعل ، يحوى رسومـًا كاريكاتيرية ضمن دهاليز لونية ، تسقط كلمة " بيروت " مفردة الحروف بلون أخضر في منتصف اللوحة ، وفى الأطراف حواف داكنة متآكلة الحدود .
هاجمني النادل بصوت الماكينة وهى تُقنبل الماء الساخن في الفنجان ، وضعه أمامي وانصرف .
*****
دخل رجل وتبتعه فتاة ، تشبع المدخل خلفها بعطر مرشوش بالأنوثة ، رفعني من الدّوي المشتعل أمامي ، احتكاك جاكتها الجلدي بذراعيها يموء متكثفـًا في خرفشات ناعمة ، أرتشفها مذابة في الشاي ، فتنـزلق إلي جوفي محركة الساكن في صدري ، فأدقق بين رموشها الكثيفة وهى تتجاذب على مقلتيها وتتنافر لتحدق فيَّ أكثر .
ألقى الرجل إليَّ بالتحية ، هززت رأسي ، جلسا في ركن منـزو خلف ظهري ، صوته خفيضـًا يعكس لهجة شامية ، يتحدث وهى تومئ بالصمت ، تحرك إلي الداخل ، تبادل بعض التمتمات والحركات مع النادل ، عاد وجلس أمام بروفيلها المرسوم بعناية فائقة .
*****
استشعرت سكونـًا حاداً ، أدرت رأسي إليهما ، وضع يده على يدها بمرح ، سحبت يدها وعيناها تستقيم في عينيَّ ، خرجت منها ومنى ابتسامة تراجعت عن الظهور على وجهينا حين اصطدمت عيوننا مع عينيه .
رقص الباب البندولى ، نادى النادل عليه بصوت جهوري ، وأشار بقبضته إلي أذنه .
نظر إليَّ الرجل ووجهه معبأ بالقلق ، خرج متردداً ، سريعاً تبادلت معها حواراً صامتـًا . هرب وجهها منى بمجرد ظهور ظل الرجل في الممر الذي دخل فيه، ووقف بعيداً .
تشابكت زفراتي بالعلاقة بينهما ، رغم ملامحهما المتقاربة ، والتفاوت العمرى البادي في شعره المتجه للأبيض .
*****
من بعيد أشار لها ، رَنَت إليه مقتضبة الوجه ، أشار لها مرة أخرى وذراعه ترتد إلى صدره ، سحبت ياقة جاكتها إلي الأمام وعلقت حقيبتها ، ذهبت إليه وهى ترشق عينيها في عينيَّ طويلاً ، في نظرة ثبتتني في مقعدي .