استيقظ السندباد من نومه بعد سبات طويل وشعر بتثاقل في أعضائه وارتخاء في مفاصله ودعا اليه حاشيته وقال: لا بد من رحلة ثامنة نستعيد فيها نشاطنا، ونجدد أعمالنا وتجارتنا. وأضاف: لقد اشتاقت نفسي لركوب الأهوال وامتطاء المخاطر ورؤية غرائب البلدان وعجائب الأمم . وبعد عدة أيام عاد اليه الحاجب وأخبره بأنه استأجر سفينة وهيأ البضائع وحمّل النفيس منها، مما غلى ثمنه، وخفّ حمله ودعاه إلى النزول إلى حجرته في السفينة ليبدأوا رحلتهم الثامنة. ولكن ما أعظم دهشة السندباد حينما رأى أمامه سفينة ضخمة بلا صاري ولا شراع، فدعا إليه ربّان السفينة واستوضح منه هذا الأمر، فقال الربان: لقد انقرضت السفن الشراعية منذ زمن بعيد، لأنها لم تعُد تصلُح لمتطلبات العصر وحلّت محلّها هذه السفن الثقيلة التي تسير على ما يسمى "بالوقود النووي"، ولأن رحلتنا طويلة وشاقّة فهي بحاجة إلى سفينة من هذا الطراز تقطع بنا حاجز الزمن.

لم يفهم السندباد كثيراً من هذه العبارات، وأومأ برأسه إيماءة الموافقة ؛ وبعد رحلة دامت بضعة أيام لم يشعر السندباد خلالها بتلك المشقة التي كان يشعر بها في رحلاته السابقة من مصارعة الرياح والعواصف ، ومجابهة الأمواج العاتية ، وانكسار الصاري وتمزّق الشراع وغيرها.

رست السفينة على شاطئ أنيق، هادئ الأمواج تمخره الزوارق الصغيرة زاهية الألوان؛ فنزل السندباد مع حاشيته وأنزل بضاعته وسأل عن مكان الجمال والعربات التي تجرها الخيول كي يحمّل بضاعته إلى أقرب بلد عربي.

غيّر أن المترجم أخبره أن هذه الأشياء لم تعد موجودة لأن هناك أجهزة تسير بمحركات تلقائية حلّت محلّها. استغرب السندباد هذه المشاهد، وما تغيّر من أحوال الدنيا من الناس، وقال بينه وبين نفسه: "يبدو أنني نمت نوماً طويلاً، أو ربما انني في حُلمٍ غريب".

وبعد ساعات قليلة توقفت الشاحنات ونزل السندباد وخدمه وحاشيته في مكان فسيح وعرضوا بضائعهم: من أقمشة حريرية وعباءات مذهبّة الحواشي وسيوف هندية مزركشة الأغمدة وبضائع أخرى عديدة.

انتشر الخبر في أنحاء القرية وفي القرى المجاورة لها عن هذا التاجر الكبير، فتوافد الناس من كل حدبٍ وصوب، رجالا ونساءً وأطفالاً. دُهش السندباد من شكل الناس وأزيائهم وسأل رفيقه: "أين نحن الآن ؟ أم ترانا في حُلم مزعج غريب ؟" قال رفيقه: "لا بل أنت في غاية اليقظة ومنتهى الصحو".

- إذاً ما هذه المشاهد وما هذه الأزياء؟

- أي مشاهد تقصد؟

- أترى هذه المرأة، وأشار بإصبعه نحوها، إنها تلبس قميصاً لا يغطي نصف بطنها.

- وماذا بعد؟

- وهذه المرأة التي تلبس ثوباً مشقوقاً من جانبه من الخصر إلى الأرض، إن ساقها تبدو عارية تماماً.

وضرب السندباد كفاً بكف وقال: "يا إلهي كيف يمكن لي أن أبيع بضاعتي وليست معي ملابس كالتي على تلك المرأة، والتي تكشف النّصف الأعلى من صدرها، ولا كتلك التي تكشف عن الظهر بأكمله بما فيها عظام الكتفين، والتي تبدو ناتئة كعظام حصان هزيل؟ من أين لي مثل هذه الشبّاحات وهذه السروايل القصيرة التي على الرجال، والتي تجعل الرجل نصف عارٍ وكأنه انسان من العصر الحجري يأتي لتوّه؟

أين السراويل المزمكة الفضفاضة، والثياب المحتشمة الطويلة، أين الأقنعة والخمارات؟ تساؤلات كثيرة كانت تدور في ذهن السندباد، جعلته يسهو لبعض حين، لكنها سرعان ما تبخرت عندما رأى الناس يتغامزون ويضحكون، ويهمسون فيما بينهم: "إنه بائع آثار وليس بائع ملابس!!!" ولكن حدث ما لم يكن متوقعاً، فقد نجح أحد عمّال السندباد في بيع كل ما معه من سيوف مزركشة وخناجر معقوفة، فقد كان عليها إقبال كبير، حتى أن المشترين تنافسوا على السيف الأخير، وكاد يقع بينهم الشر. كذلك نفدت كل العباءات الصفراء ذات الحواشي المذهّبة، وباع العمّال عباءاتهم الحريرية من شدّة الطلب، استاء السندباد من هذه البلدة الغريبة، وهؤلاء النّاس الأكثر غرابة، ومن كساد تجارته، فقال لمرافقه: "يبدو أننا ضللنا الطريق، فعُد بنا إلى جزيرة الرّخ وأرض الغيلان ووادي الحيّات".

وفي اليوم التالي كان السندباد يمخر عباب البحر يتّجه نحو بلاد أخرى.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية