قلنا : نلعب فرقة لفرقة . وكنا ستة صبيان ، قسمنا أنفسنا إلى فريقين : إسماعيل وإبراهيم وأنا في فريق وعلي وحسين وسيد في فريق ، اعترضت في البدء على هذه التقسيمة ، أنا لا أحب إسماعيل ولا أحب اللعب معه ، وإبراهيم يكبرني بثلاث سنوات ، كان يضربني في المقاومة اليدوية ويقول للخولى الواقف أمامنا أنني ورائي علامة فيضربني هو الآخر والشمس حارقة وعلامة واحدة تترك الأرض دوداً ، لم أعد اذهب الآن ، كان فريقنا هو الأقوى ولذلك تراجعت ووافقت على اللعب كنت أفضل أن أكون مع سيد . رمى إسماعيل بالقرش في الهواء ، صاح سيد : كتابة ، وقلنا نحن : ملك أخذ إسماعيل القرش من الهواء بين كفيه وجرى به نحو بقعة الضوء الهاربة من أحد النوافذ ونحن وراؤه ثم صاح : ملك . علينا إذاً أن نذهب ونختفى بعيداً في الحقول أو في إحدى الخرابات المنتشرة في القرية ، وعلى فريق سيد أن يبقى في "الأمة" حتى نختبئ تماماً ولا يلحق بنا إلا عندما نصفر له ، أحمل في يدي صفارة صغيرة لكنها قوية ، يريد إبراهيم أن يأخذها ويصفر هو ولكنى رفضت بشدة . قال إسماعيل بعد أن تركنا فريق سيد في الأمة وهو يغمز بعينه :
- نختبئ في منزل سيد .. أمه ليست هناك .
وكنت أعرف أن أم سيد ليست هناك . إنها مع أمي في بيتنا ، وافقت من حيث المبدأ وأنا أشعر بانقباض في داخلي ولما مال إسماعيل على إبراهيم يهمس في أذنه وإبراهيم يضحك ضحكات متقطعة بدأت بوادر الاعتراض تدق في رأسي ، كنا نسير في حارة مظلمة وليست ثمة أضواء خارجة من النوافذ نصف المغلقة والأبواب المواربة قلت مثنياً عزمهماً :
- النور مقطوع والباب مغلق .
ضحك إسماعيل هذه المرة وجاوبه إبراهيم في الضحك ، ولما لم يلفظا بحرف صحت محتجاً :
- لن أذهب معكما .
خيم فوقنا صمت بليد ، وسرت في داخلي لذة انتصار ، يمكنني أن أفسد اللعبة وهل أستطيع ؟ إسماعيل أصغر منى سناً ولكنه أطول قامة منى . لا أعرف كيف أصبح طويلاً هكذا ، لقد كان اقصر مني ... وإبراهيم أيضاً أطول منى يضربني لو أفسدت الدور ، ستقول أمي لأبيه .وسيقول سوف أضربه ولكنه لا يفعل ، أما إسماعيل فأنا أغلبه وقد ضربته أول أمس وقال لي وكنا وحدنا أنه معزة ، ولكنه يغيظني ويقول : - يا فشل .
أنا فشل ؟
- تقدر تسبقني في الجري ؟
نظرت إلى الأرض وقلت :
- لا .
– تقدر تطلع شجرة التوت السوداء الكبيرة ؟
قلت في خجل ممتزج بالغيظ :
- لا
فقال وهو يجرى ناحية بيتهم :
- يبقى أنت فشل .
ضحك الأولاد ، انفجروا في الضحك ولم يجروا مثله ، وكان من بينهم إبراهيم ، قطع إسماعيل الصمت الذي طال ، وقال في رقة لم أعهدها منه :
- نحن سنختبئ فقط ... وقف أنت تحت – إذا أردت - وصفر .
- لا تصفر إلا عندما نقول لك .
- موافق .
_ لن يعرفوا مكاننا .
- سنكسب هذا الدور.
- مثل كل مرة .
ثم واصلنا السير بجوار الحوائط المظلمة ، القمر على مقربة منا كشمس حمراء باردة ، والنور لا يزال مقطوعاً ، ولن يأتي الليلة أيضاً ، اختبأنا ليلة أمس في حقل برسيم ، وكان سيد معي في نفس الفريق ، أكلنا سريساً وخلة ، وجمعت لأمي حزم كبيرة من السريس ،ساعتها ضحك الأولاد منى إلا سيد .. لكننا لم نفز في هذا الدور فقد أمسك بي إبراهيم وكاد يوقعني على الأرض .
وصلنا بيت سيد غرفتين صغيرتين من الطين ، غرفة تربى فيها أم سيد البط والدجاج , وأخرى ينام فيها سيد وأم سيد وأبو سيد قبل أن يذهب إلى السجن , أسفل المنزل جراج كان في الأصل مضيفة ، مغلق دائما لم أره مفتوحاً أبداً يقال أنه مسكون بالجن والعفاريت ، يقول سيد أنه ليس فيه شئ من ذلك وأنه كان ينام فيه مع أبيه ، وهو ليس به غير عربة قديمة للبيه الكبير لا يستعملها ، وقال سيد أنه سيجعلنا ندخله عندما يأتى البيه إلى للقرية .
قلت لهما :
- أصفر .
قالا معاً في نفس واحد :
- انتظر لما نخبئ .
ثم تسلقا الحائط المتهدم خلف الجراج وجلست أرقبهما وهما يصعدان إلى السطح بعد أن اختفيا بقليل سمعت دقات ارتجفا لها قلبي خوفاً يا ليتني صعدت معهما لكن سيد لا يكذب .. لا يوجد بالجراج شيء تلفت حولي ليس إلا الصمت ناديت بأعلى صوتي عليهما لم يرد أحد . تسلقت الحائط المهدم بصعوبة - كدت أسقط على الأرض - وعندما صعدت إلى السطح , كنت ألهث , وكنت أخشى أن يراني إسماعيل وأنا أتعثر في الصعود، فإذا بي أجدهما يقفان بجوار حلة نحاسية حمراء يتصاعد منها بخار خفيف ورائحة أعرفها جيداً تفوح في الغرف الصغيرة والهواء المنتشر على السطح , يأكل إسماعيل بسرعة مذهلة وقد امتلئ فمه ويديه الاثنتين يسيل منهما السمن وقد اختلط بالعرق، بينما إبراهيم قد انحنى نصفه الأعلى فوق الحلة يواصل ملئ طاقيته الصوف بأصابع المحشى .
للمحشى – وخاصة الكرنب – رائحة نفاذة ولذيذة ! وأم سيد صديقة أمي – قطعاً - كانت ستحضر لنا منه، ابتسم لي الولدان في خبث يدعواني إلى المشاركة، صحت وأنا أستعد للهرب :
- حرامية .
جريت إلى "الأمة".. فريق سيد قاعد كما هو غير أن سيد ليس بينهم ،استقبلني حسين وعلى في برود مشترك .
- الدور باظ .. أنتم لم تصفروا .
- لكن أين سيد ؟
- ذهب وحده يبحث عنكم .
ثم تركاني وحيداً انتظر سيد،لم يمر وقت طويل حتى رأيت سيد آتيا يجر وراءه ظلاً منكسراً تحت ضوء القمر المختنق ،جريت نحوه ، ثم ارتميت في حضنه وبكيت، وعندما نظرت إليه لأخبره بما حدث كان يبكى هو الآخر .