قفزتْ أمامي معلقةُ شاي صغيرة، إثر صوت ارتطام صاروخ سكود بمبنى الأحوال المدنية بشارع الوشم. كنت وقتها مع أسرتى في الحجرة التي أعددناها للاختباء من الغازات الكيماوية التي من المحتمل أن تحملها رأس الصاروخ. قامت زوجتي ببلل بعض الملاءات ونشرناها على الشباك الوحيد المغلق والمطل على المنور الجانبي بعمارة المعجل بشارع البطحاء. وقمت بتجهيز الكمامات الواقية التي استلمتها من الشركة التي أعمل بها.
عند ارتطام الصاروخ بالمبنى البعيد، أحسسنا أن عمارة المعجل ترقص وتهتز بشدة، ونحن بداخلها، نتفجر رعبا. ومذيع التلفزيون يقرأ الفاتحة ويترحم، ويطلب من الله تخفيف القضاء. كنا نتابع أحوال الدنيا وأحوال أم المعارك من التلفزيون الذي ظل يبث إرساله رغم أن صاروخ سكود كان يقصد مبناه، ولم يكن يقصد مبنى الأحوال المدنية. لم أدرِ من أي مكان قفزت الملعقة الاستنلستيل أمامي، فأمسكتها، لأقلِّبَ هواء حجرة المخبأ الرطبة.
بعد انتهاء الغارة وإطلاق صفارة الأمان، وانتشار رجال الإسعاف والمطافئ والشرطة في المكان. فتحتُ باب الغرفة وذهبتُ إلى المطبخ، مُمسكا بالملعقة. قمتُ بعدِّ ملاعق الشاي الأخرى، فوجدتها ستا. سألت زوجتي عن عدد الملاعق التي لدينا. نظرتْ إليَّ في غضب وحيرة قائلة: احنا في إيه ولا إيه ..
وجدتُه بالفعل سؤالا بائخا في مثل هذه الظروف التي تمر بها الأمة العربية.
ظللتُ أتابع التلفزيون، وردود الأفعال العربية والعالمية على هذا الصاروخ، بينما يشغلني أمر الملعقة، وكيف قفزت أمامي بعد اصطدام الصاروخ بمبنى الأحوال المدنية بثوان.
سألتُ نفسي: هل هي ملعقة سكود؟
أدرتُ محطات التلفزيون متعللا أمام زوجتي أنني أبحث عن أخبار جديدة لم تقل بعدعن الصاروخ، بينما في حقيقة الأمر أبحث عن خبر قد تبثه إحدى المحطات عن الملعقة. وعندما لم أجد شيئا، ذهبت إلى حجرة النوم باحثا عن جهاز الراديو الذي ضبطته ـ من قبل ـ على محطة إذاعة لندن التي لم تفوِّتْ خبرا من أخبار المنطقة إلا وتذيعه. وأغضبني أن إذاعة لندن لم تذع شيئا عن الملعقة التي قفزت فجأة أمامي.
لم يكن هناك بُدٌّ في الأيام التالية من عودة أفراد أسرتي المكونة من زوجتي وابني الرضيع إلى مصر، بعد حادثة سكود.
عن طريق ميناء جدة، كانت عودتهما إلى ميناء سفاجا، ثم القاهرة، مع جموع غفيرة من الأسر المصرية والسعودية والكويتية. وكانت عودتي بمفردي من جدة إلى الرياض.
فور دخولي الشقة توجهت إلى المطبخ لأطمئن على الملعقة، فوجدتها واقفة على رخامة المطبخ الموجودة بجوار الحوض، بينما أخواتها في وضع أفقي. أثارني أمر الملعقة، واختلافها عن بقية عائلتها من الملاعق الصغيرة والكبيرة.
أخذتُ أبحث في الذاكرة من أين جاءت هذه الملعقة إلى شقتي؟ هل اشتريتها بمفردها أم مع طاقم ملاعق؟ أم أهداني أحد من الأصدقاء إياها؟ أم ....؟ ثم أخذت أتأملها، وأقيس طولها (12.5سم)، وأمرِّرُها على لساني، وأتشممها، وأتحسس زخارفها، واقرأ بلد صنعها، علَّني أجد فرقا بينها وبين بقية ملاعق الشاي الموجودة في المطبخ؟
بعد يومين اتصلت بزوجتي لأطمئن على وصولها.
تأكدت من سلامة الوصول، وأنها تحس بالأمان وهي مع عائلتها. ثم سألتها عن طاقم الملاعق الذي في المطبخ من أين أتينا به. أبدتْ دهشتها في التليفون، ورأيتها ترفع حاجبها الأيسر حتى وصل إلى منبت شعرها الأسود الفاحم الذي شاب قليلا بعد سماع صوت الصاروخ. قلت لها: لا تنزعجي ولا تندهشي وأخفضي حاجبك قليلا. وأنهيتُ المكالمة دون أن أطمئنها على أحوالي وأحوال الشركة التي أعمل بها.
صارت الملعقة صديقتي، ففي صباح كل يوم ـ وقبل ذهابي إلى العمل ـ أقلب بها الشاي بالحليب، وأغسلها جيدا بالماء والصابون وأعيدها إلى مكانها. وفي المساء أقلب بها الشاي السادة، وأغسلها جيدا بالماء والصابون وأعيدها إلى مكانها. وفي صباح يوم الجمعة أقلب بها السكر والبن وأغلسها جيدا بالماء والصابون وأعيدها إلى مكانها. صارت أكثر بريقا ولمعانا من شقيقاتها. وصرت أفرح بها، كلما رأيتها واقفة على الرخامة، كدت أسألها عن سر وقوفها: هل هو احترام لي؟ هل هو تعود منها على ذلك؟ هل هو مرض أصابها من كثرة الجلوس أو الرقاد؟ هل هناك شكوى من عمودها الفقري؟
قررت اختبار الملعقة في مواعيد مختلفة، كأن أدخل المطبخ في ساعات غير التي تعودت الدخول فيها. كانت الملعقة تعرف أنني أصحو في السادسة صباحا، وبعد أخذ حمام الصباح أتجه إلى المطبخ لإعداد كوب شاي مع بعض اللبن والقراقيش. فقررتُ أن أُفاجئها في الرابعة صباحا.
حينما اقتحمتُ المطبخ في هذا الوقت وجدتُها نائمة، مع بقية شقيقاتها، ابتسمتُ لنومتها، وربت عليها. فلم تشعر بي وإن كنت قد لاحظتُ على وجهها المعدني ابتسامة ملائكية.
عدتُ إلى حجرتي، ووجدت أنها فرصة لأصلي الفجر حاضرا. توضأت وأثناء الصلاة وجدتها أمامي على السجادة تشع نورا مبهرا.
بعد انتهائي من الصلاة مددت يدي لأمسكها، فلم تمانع، واستجابت ليدي، بل أخذت تتمرغ فيها، وتتمسح بها، وتلعق أصابعي. قمت من مكاني قبَّلتها ووضعتها في مكانها على رخامة المطبخ. فلم تتذمر ولم تعترض.
قبل ذهابي إلى العمل قمت لأصنع كوبا من الشاي كالمعتاد، فوجدتها قد أعدت لي كوب الشاي بالحليب. شكرتها، وأردت أن أتحدث معها، فتملصت ـ في خفة ـ مني وقامت بغسل نفسها من آثار الشاي والحليب العالقة ببعض أجزائها.
لأيام طوال ظلت الملاعق شغلي الشاغل. أخذت أقرأ عن صناعتها، وتاريخها، وأول وأشهر من استخدم الملاعق، علني أجد وصفا مشابها لما تقوم به ملعقتي. فلم أجد شيئا من هذا. ولكن قرأت أن أحد الأمراء أهدى ملعقة من الذهب الخالص وجدها أمامه، لشاعر مدحه. فرفض الشاعر قبول الهدية مستصغرًا حجمها. تحولت الملعقة على الفور إلى شوكة كبيرة قفزت إلى لسان الشاعر، وانغرست فيه.
انتهت الحرب، وتحررت الكويت، واستقر الأمريكان في المنطقة، وفُرض الحصار الأبدي على الشعب العراقي.
وحان شهر إجازتي الصيفية، لمحتُ الحزنَ باديا على وجه الملعقة، فقررت اصطحابها معي إلى القاهرة ثم الإسكندرية. وحتى لا تُخنق في الحقيبة الكبيرة التي ستؤخذ مني ـ بعد وزنها ـ لتوضع في الأماكن المخصصة للحقائب على متن الطائرة، وضعتُها في حقيبة اليد (الهاند باج).
في صالة المطار أوحشتني الملعقة، فتحت حقيبة اليد، ولمحت شحوبا على وجهها المعدني. قبَّلتُها أمام المسافرين، ووضعتها في جيب قميصي بجوار القلم الجاف. سمعت حوارا دار بينهما لم أتبين ملامحه، ثم ضحكًا. حمدت الله أن حدث انسجام سريع بين القلم والملعقة.
أثناء عبوري من البوابة الإلكترونية لأصل إلى منطقة ختم الجوازات، صدر رنين عال. طلب مني الضابط العودة مرة أخرى، وتفريغ ما في حقيبة يدي من أي شيء معدني. أفرغتُ الحقيبة، وسلمتُه الأشياء المعدنية، فوضعها في طبق بلاستيكي. ثم عاودت المرور ولكن تعالى الرنين مرة أخرى. طلب مني الضابط خلع ساعتي وحزام البنطلون ووضع سلسلة المفاتيح في الطبق المعدني، فعلتُ ولكن ظل الرنين مستمرا. قام الضابط بتفتيشي، امتدت يده إلى أعلى حيث جيب القميص، فوقع على الملعقة. نظر إليَّ مبتسما وقال: يبدو أن هذه هي سبب المشكلة. وضعها في الطبق البلاستيك وعبرتُ البوابة الإلكترونية في هدوء.
استلمت أشيائي المعدنية من الطبق البلاستيك. ورفض ضابط البوابة الإلكترونية تسليمي الملعقة، متعللا بأنه من الممكن أن تسبب متاعب لي ولغيري على متن الطائرة. وأن دواعي الأمن تستدعي عدم صعود الملعقة إلى الطائرة. قلتُ له: إنها ملعقة رقيقة جدا. فرد علي: يبدو أنها على العكس من ذلك.
أبيت أن أغادر مكاني إلا والملعقة معي، فرفض الضابط، وهددني بإلغاء رحلتي. تدخل بعض المسافرين، واقترح أحدهم أن أترك الملعقة لدى أمانات المطار واستلمها عند عودتي.
حزنتُ لفراقها، وقبَّلتها أمام ضابط البوابة والمسافرين الذين أبدوا دهشة بالغة، فعانقتني وتمنت لي سفرا سعيدا. قلتُ لها: كنت أريد أن استحم معك في شواطئ الإسكندرية أثناء الإجازة، ولكن العزَّال أبوا ذلك، ونظرت إلى الضابط بطرف خفي.
عندما حكيت الأمر لزوجتي أثناء استقبالها لي في مطار القاهرة، أحسَّتْ أن الملعقة أصبحت ضرَّةً لها، تصنعت الضحك قائلة: سأطلق عليك مجنون الملعقة.