لمَّا دخل " عودة " من باب الخيمة ، ألقى السلام ، وانحنى علي يد أبيه يقبل ظاهرها ، وجلس أمامه . كان أبوه الشيخ " سالم " قد دعاه .. فقال :
ـ خيراً يا أبي ؟ " .
كان الليل شتاءً صافياً إلاَّ من بعض النسمات التي تعبث بشعر الخيمة القائمة علي دعائم خشبية قوية ..
ـ " اشرب الشاي يا عودة الأول " .
مدَّ " عوده " يده صوب ركية النار ، وأحس الدفء الصاعد من الجمرات الصاحية ، وحمل البكرج في يد ، وصبَّ الشاي في الكوب بيده الأخرى ، ثم أعاده . رشف أول رشفة بصرير واضح ، وعلي رشفات الشاي الساخن ، سأل الشيخ " سالم " ولده عم من يهوى قلبه من بنات القبيلة كي يخطبها له ، فلقد قرر تزويجه :
ـ " لقد صرت رجلاً يا عوده " .
ـ " أنا لا أريد الزواج الآن يا أبي " . ـ " ولكنني قررت يا ولدي .. ألا تعجبك واحدة من بناتنا؟ " .
صمت " عوده " ولم يرد .. أردف الشيخ " سالم " :
ـ " أزوجك من قبيلة أخرى إن أردت " .
تشجع " عوده " وقال :
ـ " نعم أريد يا أبي " .
ـ " من هي يا ولدي ؟ " .
ـ " بدور ابنة شيخ الهمايمة يا أبي " .
صمت الشيخ " سالم " حيث فوجئ بطلب ولده الوحيد . مرَّت فترة توتر حاد مترقب ، لم يكن هناك سوى ليل الشتاء السائد بنسماته الباردة , شرد " عوده " بفكره إلي " بدور " ، رآها أنثى غاية في الحسن والجمال ، بوجهها الأبيض المستدير ، علي خدها شامة خضراء وسط ذقنها شامة ، لا ترتدي " البرقع " ولكن تكتفي بغطاء رأس وردي تزين أطرافه بعملات فضية أثرية قديمة ، تداري حسنها عن الأعين المتطفلة بـ " قنعة " سوداء ، لا تظهره إلاَّ له وحده عندما يلتقيان خلسة بعيداً عن أعين الأهل ، فعندما تراه تسقط " القنعة " حول جيدها المحزم بنطاق أحمر ..
همهم الأب متأففاً ، هزَّ رأسه ورفع حاجبيه الكثيفتين وبان جبينه المحزوز بغضون دقيقة ، تشاغل بلف سيجارة " بافرة " بين أنامله .. سأل :
ـ " ألم تجد غير الهمايمة نسباً يا ولدي ؟! " .
ـ " أريدها يا أبي وما أريد غيرها " .
مرر الشيخ " سالم " حافة " البافرة " علي طرف لسانه ، وأحكم لف سيجارته ، ثم أشعل طرفها من جمرات الركية . بعد أن أخذ نفساً منها ، قال :
ـ " أتعرف ما يقال عن الهمايمة يا ولدي ؟ " .
ـ " أعرف يا أبي .. لكنه كذب وافتراء " .
ـ " كذب أو حقيقة ؟ .. مدعو عليهم يا ولدي .. والدعوة جائزة " .
ـ " كذب يا أبي " .
مدعو علي رجالهم بالخنوع والجبن .. ما في واحد منهم يقدر يرفع عصا .. وعلي نسائهم بالجمال الفتَّان " .
ـ " ... "
ـ " أتريد أن أضع يدي يا عودة في أيدي خائب جبان ؟ .. أتريدني أضحوكة العرب ؟ .. الموت أهون يا ولدي .. أتدري ؟! " .
ـ " ما أدري " .
أدرك الشيخ " سالم " في التو أن ولده قد تجاوز الحد ، وأن جمال البنت الهمَّامية قد خلب لبَّه ، وعاد الصمت المتوتر يرين علي جو الخيمة ويحلق فوق رأسيهما ..
ألقى الشيخ " سالم " عقب السيجارة في النار ، وتثاءب وأخفى ثؤابه بكفه ، ولكز ابنه الشارد بطرف عصاه :
ـ " اذهب الآن يا عوده .. نم يا ولدي .. فكِّر وللصباح عيون " .
خرج " عوده " من باب الخيمة مثقل القلب ، مهموماً ، يتطلع تارةً للقمر المكتمل فيرى وجه " بدور " ، وتارةً للنجوم القليلة المشتعلة المرتجفة بأطراف السماء ، ثم يرنو للبعيد صوب الطرف الآخر من المصرف ، الذي يشق البرك الملآنة بالماء ونباتات البردي والسمار ، والبراري الشاسعة الطافحة بالكلأ ، والتلال الأثرية القديمة ، حيث خيام وبطائح محبوبته " بدور " وقبيلتها الهمايمة .
* * *
كان النهار دافئاً بشمس لينة وصغيرة ، وكانت الأغنام والماعز والأبقار والحمير تتناثر علي التلال الأثرية وترعى العشب بكسل ، بينما كان " عوده " يجلس قبالة " بدور " علي حافة بئر أثري قديم به ماء راكد ، تنبت علي حوافه نباتات الخريزة العصيرية والطرفة وأشواك العاقول ..
كانا يضحكان ويداعبان الماء الراكد بأحجار صغيرة ، تثير علي صفحته دوامات دائرية .. حتى فوجئا بالشيخ " سالم " أمامهما .. كان يمتطي صهوة حماره الأبيض ، ويدس بلغته في ركاب السمر اللامع ، ويلف رأسه بعمامة بيضاء ، ويلقي علي كتفيه بشال بني له شراشيب ، تسقط أطرافه علي جلبابه الصوف السابغ ، ومن خلفه يركض كلبه الكبير الذي يسميه " فرهود " .. نظر إليهما ولم يقل شيئاً ، ثم مضى بحماره ماراً بخيام وبطائح الهمايمة ..
طلب " عوده " من " بدور " أن تعود بسرعة للخيام ، فقلبه يحدثه بالسوء ، وتركها ومضى في أثر أبيه من بعيد ..
كان الشيخ " سالم " قد خرج يتفقد الدواب السارحة في المراعي ، ولمَّا سأل عن ولده " عوده " لم يجبه أحد من قبيلته ، فمضى وخلفه كلبه حيث وجده حيثما توقع ، رآهما ومضى وهو يحدَّث داخله :
" البنت جميلة بلا شك والولد تائه .. علي الهمايمة اللعنة " .
ثم انتبه علي كلبه " فرهود " يعدو صوب لمة كلاب تحيط بكلبة تطلب " العِشار " ، ودخل مع ذكور الكلاب في صراع من أجل الفوز بالأنثى ..
صاح الشيخ " سالم " :
ـ " عُد يا فرهود .. عُد يا فرهود " .
لكن الكلب الذي انطلق تحت سطوة الجنس لم يجد معه صياح ، فقد انتصر في صراع قصير علي منافسيه الذين ابتعدوا تاركين له الساحة ، حيث الأنثى التي دلَّت رأسها بين ساقيها واستكانت تنتظر .. نفض " فرهود " فروته ، وعندما همَّ بها دوَّى طلق ناري اخترق رأسها ، خرَّت الكلبة صريعة تئن بخفوت ، وأعاد الشيخ " سالم " " طبنجته " إلي جيب صداره ، ثم صاح بأمر قاطع :
ـ " عُد يا فرهود " .
كان " عوده قد وصل حيث يقف أبوه ، وعلي صوت الطلق الناري تجمع عرب الهمايمة ، قال " عوده " بصوت ملتاع :
ـ " لماذا يا أبي ؟! "
صاح الشيخ " سالم " بعلو الصوت :
ـ " عُد يا فرهود " .
لكن " فرهود " لم يستجب ، كان يعوي بعواء ذئب أجدبت في وجهه البراري ، وهو يخربش تراب الأرض بمخالبه ، يدور حول الكلبة الصريعة التي تجمعت حولها بركة من الدماء الحمراء القانية .. حدَّق الشيخ " سالم " في جمع الهمايمة أمامه فألفاهم من فوق حماره كجرذان صغيرة ، وشملهم بنظرة استعلاء باهتة ، ثم استدار بحماره ليمضي ، لكن صوت الشيخ " همَّام " شيخ الهمايمة شق سكون الصمت ، حيث صاح به :
ـ " انتظر يا سالم .. أنت في ديارنا وما نقدر نحاسبك الآن .. اختر لك كفيل وبيننا وبينك قعدة العرب " .
ابتسم الشيخ " سالم " ابتسامة ساخرة مزدرية ، قال " عودة " بلوعة مرَّة أخرى :
ـ لماذا يا أبي ؟! " .
تجاهل الشيخ " سالم " ولده تماماً ، وضع يده في خصره ، وعندما نظر صوب الخيام ، التقت عيناه بعيني " بدور " ، قال بحنق :
ـ لمُّوا كلبتكم يا عرب .. امنعوها وصونوها .. كلبتكم هي السبب " .
ثم لكز حماره بفخذيه والذي جرى يعدو مثيراًُ بأقدامه غباراً خفيفاً علي تراب الدرب ، وعندما ابتعد كان " فرهود " ما زال يخربش الأرض ، ويعوي بحزن ، ويدور حول الكلبة الصريعة ، ثم قفز فجأة يعدو خاف صاحبه الشيخ " سالم " ، وألجمت المفاجأة رجال الهمايمة عندما شاهدوا " فرهود " يقفز فوق صاحبه ويجذبه من ملابسه ويطيح به أرضاً ، ويقف فوق صدره يخمشه بمخالبه ..
جرى " عوده " حتى لحق بأبيه ، فابتعد " فرهود " الذي مضى يعدو بعيداً عنهما ، وعندما حاول الشيخ " سالم " إخراج مسدسه من جيبه ليطلق عليه رصاصة ، منعه " عوده " :
ـ " لا .. لا يا أبي " .
وكان " فرهود " قد ابتعد بما فيه الكفاية حتى غاب في عين الشمس .