لم أجد أي دار عرض في الإسكندرية، تعرض "سجين أزكابان"، وهو الجزء الثالث من سلسلة روايات وأفلام "هاري بوتر" لمؤلفته الكاتبة الإنجليزية ج. ك. رولينج، وبالبحث وجدت دار عرض وحيدة بالقاهرة، تعرض هذا الفيلم، موجودة بالسوق المركزي التجاري لأحد الفنادق الكبرى في وسط البلد.
كنت قد قرأت الترجمة العربية لهذا الجزء في الصيف الماضي، والتي قام بها أحمد حسن محمد، وصدرت عن دار نهضة مصر، لذا حرصت على مشاهدة الفيلم لأطابقَ بينه وبين ما قرأته في الترجمة العربية انتهزت فرصة وجودي في القاهرة لحضور اجتماع لجنتي القيد، والإنترنت، بمقر اتحاد كتاب مصر بالزمالك. وفور انتهاء الاجتماعين في الساعة الثالثة عصرا توجهت إلى المركز التجاري أو (المول) التابع لهذا الفندق. وسألت عن دار العرض السينمائي، فأجاب فرد الأمن، إنها في الدور السابع.
صعدت إلى الدور السابع، فوجدت بعض الطوابير الواقفة أمام شبابيك حجز التذاكر. تخيرت طابورا وقفت فيه، وعندما وصلت إلى الشباك ـ وقبل أن أُخرج النقود من جيبي ـ قلت للحسناء القابعة بالداخل، أريد تذكرة لفيلم هاري بوتر، فأشارت بإصبعها الشمسي إلى ناحية أخرى وطابور آخر، وقالت: هناك.
نظرتُ إلى إصبعها المشع وشكرتها واتجهت إلى الناحية التي أشارت إليها.
وقفتُ في طابور آخر، وعند اقترابي من الشباك أخرجتُ ورقة مالية من فئة العشرين جنيها مصريا، وعندما وصلت إلى الشباك، قلت للحسناء القابعة بالداخل: تذكرة لهاري بوتر. أخذت مني العشرين جنيها، ثم ابتسمت وقالت: ناقص خمسة جنيهات. سألتها: بكم التذكرة؟ فأجابت: بخمسة وعشرين جنيها. داعبتُها ضاحكا: ظننت أنك ستعيدين لي بعض الجنيهات من الورقة المالية، لا أن تطلبي المزيد. قالت في خُبث، وبلغة أولاد البلد: خلاص خلي الحساب كله عندي. شكرتُها، وأخرجتُ من جيبي خمسة جنيهات، أخذتها على الفور ـ وكأنها خافت من أن أتشبث بكلامها فيكون الحساب كله عندها بالفعل، وقبل أن تمنحني تذكرة الدخول، سألتني عن مكان الجلوس المفضل في القاعة. وكان أمامها خريطة للصالة. أدخلت يدي من فتحة الشباك الصغيرة، وأشرت بإصبعي إلى آخر صف بالصالة، ثم حددتُ كرسيا في منتصف هذا الصف. وقلت لها: أريد أن أجلس هنا. سألتني: أنت أول مرة تشرفنا؟. تعجبت من السؤال، ولكن أجبت: نعم، ولولا هاري بوتر وسجين أزكابان، ما كنت أتيت؟ فضحكتْ، ولم أفهم لماذا؟ فقررت إهمالها، وتوجهت إلى باب الدخول، فقالت لي فتاة سمراء يقف بجانبها فتى أسمر: إن الحفلة التي بالداخل لم تخرج بعد. فسألت عن موعد الخروˆٍ
بعد قليل بدأ المتفرجون يخرجون، فأخذت أتأمل وجوه البعض، فلم ألاحظ أي انفعال. لم أستطع قراءة انطباعاتهم، فقد كانت الوجوه محايدة إلى حد كبير، سواء وجوه الأطفال أو وجوه الكبار.
تذكرت .. عندما كنت أذهب مبكرا ـ قبل أصحابي ـ إلى ساحة سينما مترو أو أمير أو ريالتو بالإسكندرية، لأقرأ تأثير الفيلم ـ الذي سنشاهده ـ على وجوه الخارجين. فكنت ألمح الدموع في عيون البعض، وخاصة عيون البنات والسيدات. فأقول لأصحابي الذين كانوا يأتون بعدي، إن الستات والبنات كن يبكين بالصالة، من تأثير الفيلم عليهن. وذات مرة سألني صديقي فتحي حسان: هل كنت تستمع إلى بكائهن، وأنت خارج الصالة؟. فقلت له: لا يا صديقي، ولكن قرأت ذلك في عيونهن. فنظر إليَّ باستغراب، ولم يعلق.
أما حال الخارجين أمامي من حفلة فيلم هاري بوتر، فوجوههم إما غير معبرة، أو أنني لم أعد قادرا على قراءة الوجوه.
نظرتْ إليَّ الفتاة السمراء والفتى الأسمر، فسلمتهما التذكرة التي معي، فقطعت الفتاة جزءا منها (كعب التذكرة) احتفظتْ به. وأعطتني الجزء الآخر، وقالت لي: اتفضل.
أخذت طريقي نحو الصالة فوجدت الدليل (أو الريجسير) يحمل كشافا مضيئا على الرغم من أن الصالة كانت مضيئة. أخذ مني جزء التذكرة الذي معي، ونظر فيه، وأعاده إليَّ، وأشار إلى المكان الذي اخترته على الخريطة وأجلسني فيه، فمنحته (البقشيش) الواجبة في مثل هذه الحالات. ثم بدأ المتفرجون يتوافدون على صوت الموسيقى المنبعثة من أركان الصالة.
بعد قليل أظلمت الصالة، وبدأ فاصل من الإعلانات عن الأفلام التي ستعرض في الأسابيع القادمة بالصالة نفسها. ومن خلال تلك الإعلانات أيقنت أن هذه الصالة مخصصة للأفلام الأجنبية فقط، فلم ألاحظْ إعلانا واحدا عن أي فيلم مصري أو عربي. ثم بدأت لائحة "هاري بوتر وسجين أزكابان" في الظهور، وللوهلة الأولى عرفت أن الفيلم أمريكي الصنع، فقلت لنفسي ألم تستطع إنجلترا إنتاج هذا الفيلم؟ (الأمريكاني ورانا ورانا). ولم أتمكن من قراءة أسماء الممثلين واسم المخرج. بل لم أتذكر أنه عرضت في بداية الشريط هذه الأسماء.
ثم بدأت الأحداث المثيرة بين الفتى هاري بوتر ـ الذي بلغ عامه الثالث عشر ـ والعم فيرنون والخالة بتونيا وابنهما ددلي والعمة مارج التي نفخها هاري بوتر، فصعدت إلى أعلى، في أحد المشاهد الكوميدية القليلة بالشريط.
ثم توالت أحداث الفيلم التي كنت أعرفها سلفا لأنني قرأت الأجزاء الثلاثة من قبل.
لقد التزم كل من كاتب السيناريو والحوار والمخرج، برؤية الكاتبة ونص الرواية، في جزئها الثالث "سجين أزكابان" ـ والمقصود به، سيريوس بلاك الذي سيتخذه هاري بوتر أبا روحيا بعد ذلك ـ فلم يغيرا مطلقا في سير الأحداث. وكل ما استطاع أن يفعله المخرج مع طاقمه الفني، تنفيذ أفكار رولينج السحرية، والسمو إلى خيالها الجامح، والمدروس في الوقت نفسه، سواء داخل مدرسة أو قلعة هوجوورتس، أو خارجها.
ولكن على أية حال فقد كنت خائفا على هاري بوتر وصديقه رون وصديقتهما هيرميون طوال عرض الشريط، تماما مثلما كنت خائفا عليهم وأنا أقرأ الرواية، فهم يمثلون الصدق والبراءة والدفاع عن الإنسانية عن طريق ممارسة وتعلم السحر الأبيض، في مواجهة الشر والخداع والسحر الأسود والانتقام من البشر (العامة من وجهة نظر فولدمورت وتلاميذه) بأكلهم بعد الموت، أو السيطرة عليهم قبل الموت.
بطبيعة الحال مدة عرض الشريط (حوالي ساعتين ونصف) تقل كثيرا عن زمن قراءة الرواية نفسها. وبالتالي حُذف الكثير من المشاهد والمواقف والحوار الموجود في العمل الروائي الأصلي، أو تم اختصارها أو تلخيصها، ليحل إبهار الصورة محل إبهار العبارة، وتحل الإيماءة أو النظرة محل الكلمة والحرف.
ومع ذلك فقد استطاع المخرج أن يجسِّد رؤية رولينج، وكان أمينا في عرضها. وأمتعنا باختيار الممثلين الذين جسدوا السحرة وعالم السحر بكل خوارقه وغرائبه وشطحاته الفكرية والفلسفية، ورؤية العالم من خلال هؤلاء السحرة، وخاصة هاري بوتر الذي فقد أبويه على يد الساحر الأكبر لورد فولدمورت (الذي لا ينبغي ذكر اسمه) لأنه من آكلي البشر أو آكلي الموتى، أو من مصاصي الدماء، أو من زعماء السحر الأسود في العالم. والذي سيتمكن من شرب بعض دماء هاري بوتر بعد إصابته، في الجزء الرابع "كأس النار" بمعاونة وورمتيل وبارتي كروتش الذي أطلق إشارة الظلام إلى السماء، أثناء المباراة الأخيرة في كأس العالم للكويدتش، فيعود الساحر أو ينهض إلى ممارسة دوره أو سحره الأسود في الحياة مرة أخرى.
***
راقبتُ نفسي وأنا أخرج من صالة العرض السينمائي، فوجدت شعوري ـ على الرغم من استمتاعي بالفيلم ـ محايدا إلى حد كبير، مثلما لمحته على وجوه الخارجين التي تأملتها قبل دخولي صالة العرض. وقد أرجعت ذلك إلى قراءتي الرواية ومعرفتي بتفاصيل أحداثها قبل أن اتجه إلى مشاهدة الفيلم. فهل قرأ الرواية كل من رأيتهم من قبل خارجين بعد كلمة النهاية؟ أعتقد ذلك.
إن مَنْ يرى الفيلم، وخاصة هذا الجزء الثالث، دون أن يكون قد قرأ العمل، أو على الأقل لم يشاهد الجزئين الأولين منه، فسيكون من الصعب عليه تتبع أحداثه، أو تتبع حياة هاري الذي قتل الساحرُ فولدمورت أبويه، وأفلت الطفل الصغير بأعجوبة من بين يديه، ومن تعويذته التي ارتدت إلى صاحب السحر الأسود. لذا فقد رأيت بعض المشاهدين ـ أطفالا وكبارا ـ كانوا يخرجون من الصالة بعد حوالي نصف ساعة من العرض، ويبدو أنهم لم يكونوا متابعين جيدين لسلسلة "هاري بوتر"، لذا فقد اغتمَّ الأمرُ أو غمض عليهم، ففضلوا الخروج.
***
محطة الأتوبيس المكيف الذي سينقلني ـ نقلا غير فجائي بطبيعة الحال ـ إلى الإسكندرية، في ميدان عبد المنعم رياض، لا تبعد سوى دقائق معدودات من المركز التجاري. ومن حسن حظي أن وجدت أتوبيسا يستعد لمغادرة المكان متجها إلى الثغر وهوائه المنعش، وكانت هناك أماكن خالية، فركبته، وبعد خروجه من شارع الهرم، عرض السائق ـ من خلال شاشة عرض الفيديو ـ أحد الأفلام المصرية الهزيلة، فضلت عدم مشاهدته حتى لا تضيع بهجة استمتاعي بسجين أزكابان، فخلدت إلى النوم إلى أن دخل الأتوبيس شوارع الإسكندرية.