(1)
الأربعاء 31 من مارس 2004م:
دخلت مكتبة «جرير» أبحث عن بعض الكتب، لأستكمل بحثي الذي أعده لملتقى أدبي في الأردن يُعقد بعد شهر..
لم أجد جديداً..
هذه الكتب لديَّ في مكتبتي..
فلأعد إلى البيت لأشاهد برنامج «بلا حدود»، .. حاولتُ أن أتذكّر اسم الضيف فلم أستطع! ....
.. وأنا أُطالع واجهات المحلات في شارع «العليا» حيث أسكُن، وجدتُ أمامي «مكتب الزهراء للسفر والسياحة»، رأيْتُ موظفيْن يجلسان على مكتبين متجاوريْن: أحدهما سعودي والآخر مصري. اقتربتُ من المصري، وسألتُه:
ـ هل هناك رحلات الليلة إلى جدة؟
تحرّكت أصابعه على لوحة مفاتيح الحاسوب، وقال بعد أقل من دقيقة:
ـ أربع رحلات.. الثامنة والنصف، والتاسعة والنصف، والحادية عشرة والنصف، والثانية صباحاً.
نظرتُ في الساعة فوجدتُ أن الساعة تقترب من الثامنة .. فقلتُ:
ـ احجز لي في موعد التاسعة والنصف.. واجعل العودة بعد يومين. بعد ظهر الجمعة.
قال وكأنه يُخاطب نفسه:
ـ الجمعة الثاني من أبريل ..
حدَّق في الحاسوب الذي أمامه، وضغطت أصابعه على لوحة المفاتيح .. صمت لحظة، ثم رفع رأسه إليَّ:
ـ هناك موعدان .. الثانية والرابعة.
قلتُ دون تردد:
ـ الرابعة أفضل .. حتى نصلي الجمعة ونأخذ راحتنا!
أخذتُ التذكرة، ونقدتُ الموظف 560 ريالاً قيمتها، واستوقفتُ سيارة أجرة لتعود بي إلى البيت لآخذ حقيبتي شبه الجاهزة للسفر، وفيها بذلة مكوية، وبعض الملابس الداخلية، ومجموعة محمد جبريل القصصية «سوق العيد» التي ظهرت منذ ثمانية أعوام، ولم أجد الفرصة لقراءتها.
ركبتُ سيارة الأجرة.. أخرجتُ هاتفي الجوّال، فجاءني صوت هاشم من الطرف الآخر:
ـ كيف حالك يا أبي؟
ـ انتظرني في مطار الملك عبد العزيز في الحادية عشرة.
قال وكأنه غير مصدق:
ـ متى؟
ـ الحادية عشرة الليلة يا هاشم.
قال وهو يطير من الفرح:
ـ ستجدني أنا و«شادية» في انتظارك.
(2)
في الطائرة جلستُ على المقعد 37 (A)، ووجدت المقعد الذي بجواري خالياً، فوضعتُ عليْه المجموعة القصصية التي في يدي.. قرأتُ عناوين صحيفة «الندوة» التي وزعتها علينا المضيفة:
«العمالة الوافدة تُغطي شوارع مكة، وتُهجِّر ملايين الريالات للخارج .. المليك يدعم برنامج مكافحة الملاريا باليمن .. ضبط مزورين وشبكة تمرير مكالمات وأغذية فاسدة في مداهمة بالعاصمة المقدسة .. لماذا خسر الأهلي (السعودي) ثلاث نهائيات متوالية؟»..
...
لا أدري كيف تعرّفتُ على الدكتور «ماهر رشاد»!
تعرّفتُ عليه عام 1995م تقريباً.
كنتُ قد أصدرتُ ديواني الخامس، وأراد نادي الرياض الأدبي أن يُقيم لمناقشته أمسية من تلك الأمسيات الأدبية التي يقيمها يوم الثلاثاء. حضر بعض النقاد السعوديين، ومن الأساتذة المصريين المقيمين في الرياض، حضر بعض أساتذة النقد الذين يُدرسون في جامعتي الإمام والملك سعود، وفي كلية المعلمين.
كانت ندوة جميلة، ألقيتُ فيها خمس قصائد، وقدم أحد الأساتذة دراسة عن مفهوم التناص في شعري، وآخر عن الحوار ومغزاه في شعري، وكان من النتائج العجيبة التي توصّل إليها أن الحوار يكثر في شعري، لأني انطوائي منعزل، أقيم في الرياض (ومن قبل أقمتُ في طرابلس وصنعاء: في طرابلس سنة، وفي صنعاء أمضيْتُ فصْلاً دراسيا) بمفردي، بعيداً عن أسرتي!، قبل أن تموت المرحومة زوجتي! (ولم يستطع الدارس أن يربط بين الحوار في شعري ومسرحياتي الشعرية؛ حيث إن لي ثلاث مسرحيات شعرية، مُثِّلتْ إحداها على مسرح «الطليعة» بمصر، وهو مسرح تجريبي!!).
يومها فرح بي الأساتذة المصريون: عبد الحميد إبراهيم، وحلمي القاعود، وحامد أبو أحمد، ومحمد علي داود، ويحبى عبد الدايم، وعبده زايد.
اعتبرت هذه الأمسية احتفالية أكثر مما اعتبرتها تكريماً لشعري المتواضع، الذي هو في أغلبه سياسي، ويشتبك مع قضايا الواقع، فيناقش تخلف العرب والمسلمين، وتكالب الغير علينا، وهذا ما يعيبه عليّ بعض النقاد، ويعدونني ناثراً ـ أو خطيباً ـ ضللتُ الطريق إلى الشعر!
في هذه الليلة، أبصرتُ رجلاً طوالاً، يميل وجهه إلى الشحوب، يمسك بكلتا يديه كراسة زرقاء يُدوِّن فيها ملاحظاته كمتابع للشعر وللنقاش الذي يدور.. كأنه يحتضن طفلاً صغيراً يخاف عليه!!، لكنه لم يُشارك في مناقشة شعري.
في نهاية الأمسية تعرّف عليّ، وعرّفني بنفسه أنه متابع لخطواتي الشعرية، وأنه قرأ لي بعض القصائد في «الثقافة الجديدة» و«إبداع» بمصر، و«المنتدى» بالإمارات، و«البيان» بالكويت، ودعاني ليلتها ـ وكنا في الحادية عشرة مساءً في ليلة من ليالي ديسمبر ـ لتناول الشاي معاً في شقته في شارع الخزّان.
من حواري معه عرفت أنه أستاذ للصحافة في جامعة الملك سعود، وأنه لا يميل إلى فنون الأدب، لكنه يُحب قراءة المحاورات الفكرية، ويكتفي في القراءة الأدبية بمتابعة بعض الأشعار التي تروقه، وبعض الأسماء، وأنا منها، وأنه لا يميل للقصة أو المسرحية أو فنون السرد عموماً.
في يوم الجمعة التالي كنت معزوماً على الغداء عنده، وكانت الجمعة الأخيرة من شعبان، وعلمتُ يومها أنه متزوج من سيدة فاضلة، زميلة له (تعمل أستاذاً مشاركاً في الجامعة نفسها)، تزوّجها من خمسة وعشرين عاماً، وأنجب ولدين.. تخرجا من كليتي العلوم والطب، وبنتاً ستتخرّج هذا العام من كلية الهندسة.
أخبرني أنه من أسرة عريقة بالإسكندرية، تعمل بالتجارة، وقال لي إنه يمتلك مزرعة كبيرة في المنوفية ـ يُقدر ثمنها بسبعة ملايين من الجنيهات ـ يعمل فيها أبناء شقيقته الوحيدة.
وفي لقاء تال سألتْني زوجته الفاضلة «الدكتورة حنان» لماذا لا تتزوّج وأنت في الثانية والخمسين، والمرحومة قد رحلت منذ عامين؟ وقالت إنها تُريد مني أن أتزوّج لأعيش حياتي وأستمتع بها، وأجد زوجةً تهتمُّ بي، بعد أن تخرّج ولداي من كلية الطب، وتزوّج أكبرهما (وليد)، وسافر إلى بريطانيا وتزوج فتاة إنجليزية، لم يُعقِّب منها بعد، بينما (هاشم) مازال ينتظر أن يجد فتاة تقنعه بجدوى الزواج!!
حاولتُ أن أشرح لها أن السعادة ليست في الزواج فحسب، وإنما في أشياء أخرى، منها طاعة الله، والتوافق بين الإنسان وحياته التي يحياها، وكيفية الاستمتاع بالوقت، فلم أفلح.
بل فوجئتُ بسؤال الدكتورة حنان لي:
ـ هل تعرف الشاعرة سماح صبري؟
ـ طبعاً.. وأعرف أنها شقيقتك.
وقفزت إلى ذهني صورة زميلتي «سماح صبري» في آداب القاهرة من خمسة وثلاثين عاماً، كانت تسبقني بعاميْن، وكانت تُشاركنا في ندوات الجمعية الأدبية بمبنى المدينة الجامعية، التي كانت تُقام مساء كل أحد، ويشرف عليها دكتوران شابان، هما الدكتور عبد المنعم تليمة والدكتور طه وادي (وقد صارا أستاذين جهيرين بعد ذلك)، وألقيتُ فيها أولى نماذجي الشعرية قبل أن أُصدر ديواني الأول..
ـ إنها أختي.
عرفتُ منها أنها لم تتزوّج، وأنها في الخامسة والخمسين.
حينما رأيتها في إجازة رمضان وجدتُ أن ملامحها القديمة لم تتغير، وأن شعرها الكستنائي مازال محتفظاً بنضارته وحيويته (وتساءلت يومها لماذا لم ترتدي الحجاب؟)، وعلمتُ أنها صارت رئيسة قسم في وزارة التربية والتعليم حيث كانت تعمل، ولم يتغير فيها شيء (كانت درست معنا السنة التمهيدية للماجستير، لكن لظروف لا أعلمها لم تتم دراستها العليا).
حينما سألتُ عنها جاري في الرياض، بعد العيد: مصطفى العبد، وهو محاسب مسن في بنك الرياض، وهو كما يقول من نفس شارعهم في كفر الشيخ، قال: معلوماتي قليلة، وهي سيدة فاضلة، وجميلة، ولقد حصلت على الماجستير فقط ـ في النحو ـ منذ عدة أعوام. وهي من أسرة مُكافحة، فقد كانت أمها ربة بيت فاضلة معروفة بتقواها وصلاحها، وكان أبوها مدرساً للعلوم بمدرسة المساعي المشكورة الثانوية بشبين الكوم، ولم ينجب إلا ابنتيه: الأستاذة «سماح» والدكتورة «حنان»، وأنه قد أمضى حياته في المنوفية، ولم يعد إلى كفر الشيخ إلا بعد تقاعده.
وأضاف وكأنه يختم شهادته:
ـ إنها ست.. (واستدرك) بنت حلال .. طيبة .. في حالها .. مكسورة الجناح، رغم مرحها البادي، وابتسامتها العريضة!
وقلتُ له ما أعرفه عنها، وهو أنها كانت من النابهات، ولا أدري لماذا لم تُكمل دراساتها العالية وبخاصة أنها لم تتزوّج!
........
قالت الدكتورة حنان، وكأنها تتكلم عن امرأة أخرى، ليست أختها:
ـ ليتك تتزوجها!
قلتُ وأنا نصف متحير:
ـ يبدو أن ذلك سيكون!، فقد أصبحتُ أضيق بوحدتي!
زغردت كلماتها:
ـ أنا أغبطك عليها.. إنها جميلة، ورشيقة، وتستطيع أن تعيش معك هنا في الرياض!
(3)
كدتُ أرسل قصتي (أو مشكلتي مع ابني هشام) لعبد الوهاب مُطاوع ليكتب لي الحل في «بريد الجمعة» بصحيفة «الأهرام»، وتتلخّص في أني مررتُ خلال الأعوام الثلاثة بعدة تطورات جعلتني لا أستطيع أخذ القرار الصحيح في أي مشكل، ومنها:
1-لم يحضر وليد لزيارتنا منذ عامين؛ يكتفي بمهاتفته القصيرة ـ من لندن ـ لي كل يومين، أو ثلاثة أيام.
2-أنني تزوجتُ سماح، ولكني طلقتُها بعد شهرين، حيث لم نستطع التكامل، أو التأقلم معاً.
3-ابني هاشم الذي كان من أكثر المعارضين لزواجي من «سماح»، وقع في شراك «شادية» ابنة أختها (الدكتورة حنان)، وكان من المستحيل أن أُوافق على زواجه منها.
4-لم يصبر الولد على رفضي، ولم يُحاول استرضائي، وكان قد تعاقد للعمل في مستشفى في جدة، فتزوجها في الصيف الماضي، بعد عودتي من الرياض إلى القاهرة، دون أن أحضر حفل خطبته، ولم أحضر ليلة عرسه التي أقامها في فندق كبير!.
5-لم أُسافر إلى القاهرة هذا العام الدراسي.. لا في إجازة عيد الفطر، ولا في إجازة عيد الأضحى.. أنزل لمن؟ .. ولد في لندن، والآخر في جدة (... وتزوج دون مشيئتي!).. وقال: لا تحملني ثمن فشل زواجك من خالتها!.. هذه هي البنت الوحيدة التي أعجبتني، وإذا لم أتزوجها فلن أتزوّج غيرها!
.. لكني اخترتُ أن أجنب الأستاذ عبد الوهاب مُطاوع حل مشكلتي، التي قد تبدو تافهة، ولذا لم أرسلها له.
(4)
هاهي أضواء جدة تبدو من نافذة الطائرة..
هل ستسعد شادية وهاشم بلقائي..
أم أن الجيل الجديد لا يهتم؟
سأسعدُ بلقائهما..
ستظل تركض يا فريد.. من شارع إلى شارع.. ومن أفق إلى آخر؟..
هاهو هشام وزوجته يأخذانك في سيارتهما الخاصة.. وهشام يحوطك بيده، وأنت تجلس بجواره، وهي (شادية) في المقعد الخلفي.. تنظر في المرآة فتجد وجهها طافحاً بالسرور.
ويُدمدم في أعماقك سؤال، تكاد تسمع نبراته:
كيف وقفت ـ ذات يوم ـ في وجه المحبيْن؟!!
لاحظت انتفاخ بطن شادية..
هل تسألهما عن قدوم الحفيد الأول لك، أم تنتظر حتى يأتي الكلام في سياقه العادي؟..
تُلاحظ أن سرعة السيارة تتجاوز الـ 120 كيلاً، فتقول في حنو بالغ:
ـ قلل السرعة، حتى نستمتع بهذه اللحظات الجميلة في شوارع جدة، وحتى لا تؤذي حفيدي.
وتملأ الضحكة الكبيرة وجه «شادية»..
الرياض 7/9/2004م