صفيرُ المياهِ المنسابةِ بقوةٍ من خلالِ مواسير الحمَّاماتِ يَئِزُّ في رأْسي، ضجيجُهَا المُختلِطُ بروائحِ المجرورِ الآسِنِ يسُدُّ مداخِلَ نافوخي. أُحسُّ رأْسِي كالجبَلِ المقابلِ ضخامةً. الخوذةُ المُطبِقةُ عليهِ صخرةٌ جوفاءُ كتلك القبَّةِ التجسُّسية المعاديةِ، مع فارقِ أنَّ خوذتي تحصرُ روائحَ و ضجيجَ وقاذوراتِ الفيلا المهجورةِ منذ زمن، بينما تلك القُبَّةُ التجسسيةُ تستحصلُ أسرارَ تحركاتِنَا ليلَ نهار. بُرودةُ الصَّباحِ اللَّذيذةُ تستدرجُ الكرى إلى عينيَّ المتعبتين ، و تخدِّرُ الأطرافَ الموهنةَ عقبَ يومِ عملٍ طويلٍ في تنظيفِ (فيلا) ستصبحُ مقرَّاً للقائدِ الذي سيخطِّطُ و رفاقُهُ كيفيَّةَ تحريرِ الجبلِ المقابلِ من وسخِ العدوان.
ما أصعبَ الحراسةَ بعد التَّعبِ. لِمَ لَمْ يأتُوا بعددٍ كافٍ من الجنود للمساعدة؟ السِّرِّيةُ ؟ نعم ، سِّرِّيةُ المكانِ مطلوبةٌ، و لاشك أنَّني محظوظٌ بثقةِ الكبارِ، و إلاَّ لما كنتُ من القليلين الذين يعملون في هذا المقرّ.
هيه ..الحمدُ لله ، لقد أنجزنا العملَ بأسرعِ مما كان متوقعاً. صارت الحمَّاماتُ نظيفةً جداً ،و لم تعدْ هناك روائحُ غيرِ العطورِ، أمَّا غرفُ النوم فقد أُعِدَّتْ و كأن عروساً ستقضي فيها ليلتها الأولى ،في حين جُهِّزَت صالةُ الاجتماعات بتجهيزات سرية لم يطلعوني عليها ، الويل لك أيها العدو من تصميمنا.
لم تكن تحركاتنا لتثيرَ الرِّيبةَ أبداً، السياراتُ التي نستخدمها قديمةٌ مهترئةٌ ،و تثير الاشمئزازَ، فهل يُعقل أن يصورَها منظارُ العدو! لا، لا.

مازال فحيح المياهِ في المواسيرِ ، و روائحُ المكان القديمةُ تسيطرُ على أعصابي ، أكادُ أتقيَّأ ،لا ، السببُ بردُ الفجرِ ، و ليس تعبُ الأمس.
لم أحرس بوابةً من قبلُ، لكن للضرورة أحكامٌ. فقد صدر لي الأمر بأخذ الحيطةِ لِزيارةٍ مُفاجئةٍ للقائدِ ، و هذا سِرٌّ لا يعرفُهُ غيري ، فعليَّ الحَذَرُ!. أَعرِفُ أَنَّ الجميعَ نيامٌ الآن أو شبهَ نيامٍ. التَّعبُ ملعونٌ ، ليرتاحوا قليلاً ، أما أنا فلا أستطيعُ خيانةَ الثِّقةِ.
ماذا لو جاء بعضُ القادةِ لاجتماعٍ سرِّيٍّ مهمٍّ، و أنا نائمٌ. لعنةُ اللهِ على الشيطان، للنوم سلطانٌ لا يقوى عليه أحدٌ. أين أنتِ يا خطيبتي ، لعلَّك الآنَ تنعمين بدفء الفراشِ،تغطِّين بنومٍ هانيءٍ ، و أنا هنا في العراءِ ، أتَّكيءُ على بندقيتي القديمةِ، خوذتي تُنكِصُ رأسي، وصقيعٌ يجمِّدُ أطرافي، هي نوبةُ الحراسة تكاد تنتهي، أيُعقلُ تسليمَ البوابةِ لمجندٍ جديدٍ ، قد يغفو في أيَّةِ لحظةٍ ، دونَ تقديرٍ لجلالِ المَهمَّةِ! لا، ثم لا!.
آهٍ ، إنَّهُ الكرى ثانيةً، إغفاءَةٌ قصيرةٌ لنْ تؤثِّرَ، سأسمعُ صوت السيارة قبل وصولها، هذا إنْ جاءَ أحدٌ ، و منْ يأت في هذا الصباحِ الباكرِ! القائدُ و غيرُه نيامٌ في مثل هذا الوقتِ من الفجر، نومُ الفجرِ لذيذٌ ، تُحبُّه الكلاب أيضاً ، و هم الأعرفُ بهذهِ اللَّذةِ بعد حراسةِ الليلِ الطويلِ، و فقدانِ الأملِ من نباحٍ على لصٍّ أو غريبٍ، من يفوِّتُ نومَ هذه اللَّحظاتِ غيرُ مُجْبَرٍ مثلي، لكنَّ ثوانٍ من النوم لن تُزيدَ أوتُنقصَ منْ احترامِي لواجبِي الوطنيِّ، أين أنتَ أيها الفراشُ الدافيءُ، أين!
حفيفُ أَفعى يقتربُ ، أَفعى مفترسةٌ،البردُ يقلِّصُ عضلاتي ، إنَّهُ حلمٌ و لاشكَّ ، نعمْ حلمٌ، لن أخافَ أحلامي.
- انتبه!
- أعوذ بالله من الشيطان...
- نائم! و الله عال! خذوه إلى السجن فوراً
- لستُ نائماً يا سيدي، الله وكيلك...
- كيف لم تحسَّ بالنملة تقترب إذن! هه؟

ها هو القائدُ ، إنه لاشكَّ قائدٌ ، و إلا لما كان سائقُهُ يقود المرسيدس (النملة).
لماذا يقذفني جانباًمرافقُ القائدٍ و كأنني دجاجةٌ انتهى من ذبحها للتو ، فلا أستطيعُ النهوض لقوةِ ارتطامي بالأرضِ ، طبعاً لم يعرفني،و لم يعرف أيضاً المسؤول عن الفيلا صيانةً و أمناً حتى وصول القائد، فتحَ السائقُ البابَ الخلفي لإحدى السيارات ، بينما ظهر بلمحِ البصر شخصان كالماردين، تأبطا ذراعي القائد المنهك ، كاد يسقط بينهما ، خفت عليه . ربما كان في اجتماع سري طويل في مكان ما آخر ، و قد استولى عليه النوم كما حل بي، أزرارُ قميصِهِ مفتوحةٌ ،قد يأخذ برداً ، قلت لهم:" دفِّئوا صدره المكشوف ، حرام عليكم"
-اخرس ولاه!
حتى حزام سرواله كان مفكوكاً، ترى لماذا لا يجتمعون بملابس فضفاضة و مريحة ، طالما يقضون الليالي في التخطيط و النقاشات وإصدار القرارات الحكيمة.
مرَّ قربي شبه نائم بعيون نصف مفتوحة، نظرته فيها عتب،ربما اعتذر فيها عن سوء تصرف مرافقه،لكن رائحةً كريهةً صدرت منه أفقدتني صوابي، هل هو مريضٌ حقاً أم أن روائح الأمس مازالت بأنفي.
لا ، ليست روائحُ مجارير فهي حامضية ، لا أذكر أين شممتها من قبل.
-ابتعد عن الطريق يا حيوان!
سمعتُها بذهولٍ هذه المرَّة، نظرتُ نحو الخلفِ ، كان هناك ثمَّة امرأةٍ شقراءَ طويلة و قد تخاصَرَها أحدُ المرافقين المردة، كانت الملاءة السوداء تنحسر من حين لآخر عن فخذين كالمرمر الأبيض، و قد ظهر للحظة ثوبٌ شفَّافٌ ذو بريق يأخذ الأبصار، أعوذ بالله ، هل يعقل أنَّها راقصةٌ ما! لا ، محال! القائد لا يفعلها.
- هل رأيت شيئاً أيها الحيوان!

فجأةً ، فهمتُ القصةَ بسرعةِ مُتيقِّظٍ لا ينامُ , فقلتُ:
- ماذا رأيتُ يا سيدي؟! لم أر شيئاً بالطبع ، ألم تقلْ أنِّي كنت نائماً.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية